فضاء الرأي

وأخيرا هبت العاصفة (4/4) سنوات التسعينيات: حقبة العدم أو "الموت اختيارا"

قراؤنا من مستخدمي إنستجرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك

الحلقة الاولى

الحلقة الثانية

الحلقة الثالثة

ثمة ظاهرة علينا الانتباه لها في هذه الفترة وهي تتعلق بأنماط الكتابة التي شاعت في العراق آنذاك. وإذا كان لنا استثمار ما يتيحه النقد الأدبي، وهو مفيد غالبا لتوضيح رؤى سوسيو ثقافية كالتي اهتممنا بها لحد الآن، فيمكن التنبيه إلى جملة متغيرات برزت عند جيل جديد من الشعراء والنقاد على حد سواء. وهم ما أطلق عليهم جيل التسعينيات.
الحال أنه لكي نفهم بعض هذه المتغيرات علينا استعادة بعض ملامح الكتابة التي شاعت في الحقبة التي سبقتهم، نقصد مرحلة الثمانينيات التي تميزت بصراع أصحاب قصيدة النثر ضد المؤسسة الرسمية السائدة، من جهة، وغلبة المنهج البنيوي في النقد، من جهة أخرى.
لنستعد، أولا، بعض ما كتبه " الأكاديميون الجدد"، لاحقا،عن تلك الملامح. يقول حسن ناظم، مثلا "ومهما بلغ الادعاء الأجوف من أن نصوص الثمانينات قاومت بطريقتها الخاصة فإن حالها لا يسمح بدعم هذا الادعاء ما دامت ـ أي النصوص - تعاني من رهاب ينأى بها بعيداً عن واقع شرس لتنعم بأمان مزيف.
كانت النصوص تتلاطم ويحاكي بعضها بعضاً وتحاكي قصيدة النثر العربية والأجنبية. والشعراء حبذوا القيام بنزهات يطشون خلالها كلمات وعلى ألسنتهم عبارة واحدة: ليـأت القراء بالمعنى.." ( 66)
هذه العبارات، على عموميتها، تصلح لتكون عنواناً لفهم تلك الإشكاليات التي ارتبطت بقصيدة النثر العراقية أثناء حقبة الثمانينيات، من جهة، وبالجيل الذي شرع نفسه في الثقافة العراقية عبرها، من جهة أخرى.
إن الفكرة الأساسية تفيد أن لغة الشعر في الثمانينيات نأت عن"الواقع الشرس"، واقع الحرب والموت والأحادية والانتظام في أرتال الفناء وراحت تتفجر داخليا بطريقة تشبه ما يجري في جبهات القتال.
ليس هذا كل شئ، فتلك العبارات، عبارات حسن ناظم، لم تقل "غير المفكر به" بشكل صريح. والسبب، أن النقد، في العراق، ليس نقد حسن ناظم وزملائه الذين سنعود إليهم لاحقا، إنما النقد في الثمانينات، كان انشغل بتتبع اللغة بعد أن عزلها عن سياقها الاجتماعي والتاريخي ولم يكلف نفسه عناء البحث عما نجده حاسما هنا: نعني فكرة التداخل بين ما هو أدبي بما هو سوسيولوجي ومن ثم، ما هو معرفي بما هو سياسي، ومدى إحالة أحدهما للآخر.
لعل هذه المسألة لم تكن لتخطر في أذهان الكثيرين حتى أن الشعراء، كما النقاد، كانوا وهم يتحدثون عن أنفسهم وأثرهم في الثقافة العراقية يكتفون بالحديث عن اللغة والأسلوب بمعزل عن أي شئ آخر.
ليس من الصعب إيراد أمثلة على ذلك. فحين فكر شعراء السبعينيات والثمانينيات، مثلا، بجيلهم وطبيعة النصوص التي ارتبطت به لم يستحضروا الحرب بوصفها صانعة لتلك اللغة.
أن أحدا لم يفعل ذلك، إلا اللهم بطريقة مبسطة مثل هذه التي أعلن بها عدنان الصائغ قدوم زملائه عام 1987 ".. يا لها من عنيدة جدا ـ القصيدة ـ تراوغك دائماً في المصعد أو في الخندق أو داخل حقيبة امرأة عابرة أو غصن أو شخصية أحالت صديقك سماءً من اللحم والدم والبكاء وتبقى القصيدة، وتبقى أنت مشروعاً مؤجلاً وحياتك على أقساط التأجيل تتقاطع أمام المحاسب أو بين عينيّ القناص الأعور" (67)
كان الشعراء، بالأحرى، يجملون الغموض ويحتفون به حد أنهم عزوه إلى طبيعة قصيدة النثر كما أسئ فهمها. بمعنى أن لا الشعراء، ولا النقاد أيضا، استطاعوا إدراك أثر الحاضنة الأم، نعني حرب السنوات الثماني البائسة والعدمية التي عاشوا في أتونها. وهي حرب أنتجت لغتها وسياقها الصوري والرمزي، ومن ثم، رؤيتها المخصوصة للعالم والظواهر.
ما يجب التركيز عليه أن كتاب قصيدة النثر بدا وكأنهم يعيدون كتابة الحرب نفسها بطريقة أخرى. إذ مثلما كانت الحرب طويلة، مترهلة، وبلا معنى، جاءت القصائد طويلة أيضاً، مترهلة وبلا معنى.
ومن المؤكد أن هذه الخصيصة التي تجلت بوضوح كانت تعني، بطريقة أو بأخرى، إن التداخل بين لغة الشعر وتلك المتواليات السياسية والاجتماعية الحاضنة له كانت جلية، وهو تداخل يحيل بدوره، إلى تداخل الثقافي المعرفي بالسياسي الاجتماعي.
أما هذا الأخير فيمكن أن يتجسد في فعاليات عدة ففضلاً عن الشعر، ثمة النقد ورواج بعض المناهج وانحسارها في فترات معينة، وهذا ما حدث بالضبط في العراق إبان حرب الخليج الأولى.
يستطيع المراقب التساؤل مثلاً: لِمَ تم الترويج للمنهج البنيوي الشكلاني إبان حرب الخليج الأولى! لماذا عمدت المؤسسة الرسمية إلى رعاية ذلك المنهج والتبشير به حتى أن دار الشؤون الثقافية طبعت أعداداً لا بأس بها من اشهر كتب اللسانيات التخصصية في وقت أوقفت صحف رسمية مثل "الجمهورية" و"الثورة" و"القادسية" صفحاتها الثقافية لنشر دراسات ذات طابع بنيوي. وكان نقاد مثل حاتم الصكر ومالك المطلبي وياسين النصير وسعيد الغانمي وعبد الله ابراهيم لا يتوقفون عن نشر تطبيقات شكلانية مغرقة في الغموض والتعقيد..؟
هل كان ذلك محاولة من المؤسسة الثقافية لخلق خطاب ثقافي يتسم بالغموض الشديد والتعقيد البالغ؟
إن ذلك شبه مؤكد، في الواقع، والغريب انه ترافق مع رواج نمط آخر من الكتابة مناقض له كليا وهو نمط رعته السلطة وأطلق عليه آنذاك تسمية "الثقافة التعبوية". وهذه الأخيرة كان اندرج في نظامها المئات من الكتبة والشعراء.
أن تناقض الخطابين وعدم وجود ما يجمع بينهما ربما كان تناقضا ظاهريا بل لعله أخفى،في حقيقته، تكاملاً في الجوهر، إذ أن الخطابين كانا يجهدان لتحقيق الغاية نفسها وهي إشاعة ثقافة لا تمت إلى الواقع بصلة، ثقافة لا تمثل أحداً ولا يتواصل معها أحد.
ثمة، في الواقع، ناقدان عملا على صناعة ذلك المشهد: ناقد تعبوي يتغنى بالحرب غير مقروء من أحد وناقد شكلي يجهد في فك طلاسم النصوص بطلاسم من الاصطلاحات والبيانات والإحصاءات. وهما معاً يشكلان، مع الشاعر الثمانيني ذي اللغة المهوّمة وغير الدالة، مثلثاً عصياً على التواصل في مرحلة علت فيها أصوات المدافع وتداخلت الوجوه بالغبار.
لدى الناقد حسن ناظم ما يقوله بهذا الصدد فالباحثون العراقيون الذين "تعاملوا مع هذه المناهج الحديثة كانوا جميعاً يحسون بأن مثل هذه المناهج لا تثير سخط أحد، لا سخط السياسيين وهو الأهم ولا سخط النخبة المثقفة أجمالا، ولا سخط أقرانهم من النقاد إلا نادراً وهذا السخط الأخير لا يعبأ به أحد وربما يكون العكس صحيحاً فقد كانت ثمة تبريكات تحف بالنقاد من هذا النوع ناهيك عن رواج دراساتهم في مجال النشر.. "( 68 )
هذا ما جرى في الثمانينيات فما الذي تغير في التسعينيات يا ترى!
قدر تعلق الأمر بتغير أنماط الشعر والموقف من المنهج البنيوي الذي غزا الثقافة العراقية في الثمانينيات علينا الانتباه إلى رأي لا يخلو من صحة مفاده أن ما حدث بعد حرب الخليج الثانية، في مستوى الشعر، قصيدة النثر خصوصا، لم يكن يعدو الآتي: لقد حسم الصراع في، مستوى اللغة الشعرية لصالح العبارة اليومية الواضحة، القصيرة والمكثفة بعد أن كانت العبارة، في الثمانينيات،مجردة غامضة وطويلة.
هذا ما حدث بالفعل، لكن المسألة،هنا، لا تتعلق بشئ قدر تعلقها بتبدل فهم المعايير المحققة لما يسمى "الشعرية". أي إن الشعراء،في التسعينات، ما عادوا يعبئون بتلك المعايير التي راهن عليها سابقوهم.
إن أمر انهيار اللغة البيانية الفخمة السائدة في الثمانينيات يبدو شبيها، في هذه الفترة، بما كان يحدث من انهيارات في عراق تلك الأيام. فحرب الخليج الثانية، القصيرة والخاطفة كانت أحالت العراق إلى بلد شبه محطم. بلد دمر فيه كل شئ، البنى الاجتماعية، البنى الاقتصادية، ما تبقى من الطبقة الوسطى، أوهام القوة بالنسبة للسلطة، وأحلام الكرامة بالنسبة للطبقات المسحوقة.
لقد تحول البلد إلى كرنفال غرائبي سمته التحولات السريعة في الأشكال. فانهدام البنى الاجتماعية والاقتصادية أدى إلى ظهور أشكال بنيوية جديدة في كافة المجالات بما يتلائم مع الحقبة الجديدة: الأرصفة تصبح أسواقا والأسواق أرصفة، السيارات دكاكين متنقلة والبيوت كراجات ومعامل للببسي كولا.
كان السوق يفرض إيقاعه بشكل قاس على كل ملامح الحياة في العراق محدثا تغييرات شكلية بدت معها تلك الأشكال عابرة ومؤقتة. بمعنى أن الأشكال كانت عرضة إلى التبدل في أية لحظة تبعا لما يستجد على أرض الواقع.
الأمثلة في ذلك كثيرة، فهذا هو المنزل العائلي، مثلا، يمكن أن يتحول إلى بضعة شقق أو مشتملات بين ليلة وضحاها، وهذه هي حديقة الدار يمكن أن تختفي، فجأة، ليظهر بدلا عنها ثلاث دكاكين أو فرن أو حتى مجمع طبي "عابر"...!
ثقافيا، وفي مشهد غرائبي مثل هذا، كان من المؤسف أن تتحطم بنية كاملة وتتحول إلى ركام، المؤسسات تتوقف عن الإنتاج، المفاهيم تتبدل وتفقد قواها الرمزية، أحلام الجيل الجديد تنهار محدثة ضجيجا هائلا.
غير أن الأبرز من بين كل تلك الانهيارات كان اختفاء الكتاب المطبوع بوصفه أحد أهم المؤسسات التاريخية الموروثة. ذلك أن الحصار الاقتصادي الذي أطبق على عنق الحياة في عراق ما بعد حرب الخليج الثانية أثر في تراجع أعداد الكتب المستوردة ما أدى إلى ارتفاع أسعار الكتب ارتفاعا فاحشا قياسا إلى دخول الأفراد.
هنا، سارع السوق إلى إنتاج بديله المناسب لتظهر شريحة من "الناسخين" تخصصت في رفد ما يحتاجه المثقفون من خلال استنساخ الكتب والروايات والدواوين الصادرة حديثا في بيروت والقاهرة ودمشق وغيرها من المدن وبيعها سرا وعلنا.
كان الأمر نوعا من أنواع القرصنة غير القانونية. فأنت تستطيع شراء أحدث الكتب بابخس الأثمان ولكن بشكله "العراقي" الفقير، البائس والشبيه بباقي السلع "المعادة" المعروضة في السوق. وقد بدا ذلك كله أقرب ما يكون إلى ارتكاب جريمة تخالف"القانون" في وضح النهار وبعلم الدولة والعالم.
كانت الحقبة عدمية بشكل لا مثيل لها: الجميع يتمردون ولا يعودون يعبئون بشيء. وكان من بين الذين تمردوا على المعايير شعراء ومثقفون أطلق عليهم تسمية التسعينيين. وكانوا خليطا من فلول ثمانيين لم يحققوا أمجادا شخصية في الثمانينيات وشبان بدءوا تلمس الطريق مع حرب الخليج الثانية.
الملاحظ إن هؤلاء الشعراء والقصصاصين سارعوا عام 1993 إلى اختراع شكل مؤسسي جديد كبديل للكتاب المطبوع المتوقف عن الحياة. نقصد ما سمي آنذاك بـ" ثقافة الاستنساخ" التي راجت في العراق لدرجة أنها أصبحت طوال التسعينيات شرعية ومعترف بها.
كان الشعراء والقصصاصون، في لفتة تشي باحتقار للمؤسسة الرسمية وإحساس بالاختناق، يذهبون إلى مكاتب الاستنساخ المنتشرة في الباب المعظم والميدان وشارع المتنبي ويصدرون كتبهم الصغيرة الحجم على حسابهم الخاص.
كانت هذه الكتب أو "الكتيبات" تطبع بطريقة بدائية فقيرة مستوحاة من مشهد العراق الاقتصادي آنذاك. يطبع الديوان الذي لا يتجاوز حجمه حجم الكف تقريبا بطريقة الاستنساخ وبعدد محدود، ثم يوزع باليد وبالبريد. وما هي إلا أيام حتى يكتب عنه النقاد وكأنه قرئ على نطاق واسع.
إنه "وهم كتاب" وليس كتابا، لذا يبدو من المنطقي أن يبرز إلى الوجود آنذاك "وهم جيل" وليس جيلا، وان يرسخ "وهم الجيل" هذا "وهم اختلاف" و"وهم تغير" في الأساليب والعبارات والطرائق الكتابية.
ما يهمنا من الظاهرة، حقيقة، ليس طابعها العابر والمؤقت فهذا شيء واضح تماما وهو يحيل إلى سياق اجتماعي وثقافي كامل،إنما المهم هو تطابق شكل الكتاب مع نمط الكتابة التي يتضمنها.
فخلافا لقصائد الثمانينيات المترهلة وغير الدالة، كانت القصائد الجديدة شبيهة بالكتاب المستنسخ وصورة لغوية عنه. العبارات فقيرة شعريا، قصيرة، وذات معنى واضح، لا زوائد، لا بلاغات تقليدية، ولا أي شيء يذكرك بذلك الرنين عالي الصوت الذي ساد في الثمانينيات.
لن يدهش المرء وهو يقلب تلك الكتب حين يعثر على قصائد مثل هذه: "فليسقط الورد / على قبور أحبتي/ الأحياء جداً / بشرى وأبنائها " (69 ) أو ldquo; الفندق حافلة عاطلة / لا تقلقي / حتماً سنصل ldquo;، أو " الأشياء القابعة في الظل / هناك تحت الأشجار/ تلكم قلوبنا / تذرق عليها العصافير"، أو " في حروبه القادمة / فقدنا كل شئ / كل شئ / حتى البكارات" (70 )، أو "تخرجين من الإطار/ كلوحة أخرى"، او " الوطن وحبيبته الحرب/ التقيا خلسة / قالت الحرب/ أحبك / قال الوطن hellip; " (71).


نقيض العدم: الأكاديميون الجدد

كان "الأكاديميون الجدد"، وهو لقب أطلقه خالد مطلك تهكما على مجموعة من المثقفين الشبان، قد بدءوا يتجمعون حول بعض، بعد منتصف التسعينات. وقد بدوا بالفعل، بأحلامهم المحبطة مثل أناس تحاصرهم النيران من كل جانب.
كان بعضهم قد اكملوا للتو دراساتهم الأكاديمية العليا من أمثال حسن ناظم وسهام جبار وحيدر سعيد وجمال العميدي ويوسف اسكندر ويحيى الكبيسي وصفاء صنكور، في حين كان البعض على وشك إنهاء تلك الدراسات.
كانوا، ومعهم عدد آخر من المثقفين والشعراء من خارج الأكاديمية أمثال علي بدر وحكمت الحاج وعبد الزهرة زكي ورعد عبد القادر واحمد الشيخ علي والكاتب، مهجوسين بتمثل روح المنهجيات الحديثة، ليس في النقد فقط بل في التعاطي مع ظواهر الثقافة المختلفة.
ما يجدر الانتباه له هو أن هواجس هذه الجماعة بدت مناقضة لكل ما انتهينا إليه سابقا من شيوع الروح العدمية في حقبة ما بعد حرب الخليج الثانية والسبب أن هؤلاء مثلوا ردة فعل عنيفة على فكرة "موت الإنسان" التي أشاعها المنهج البنيوي وكان الأخير قد غزا الثقافة العراقية ليس من خلال ما كان يكتبه "البنيويون" العراقيون في الجرائد والمجلات، بل من خلال تلك الكتب المستنسخة التي كان يروجها مكتب صغير في الوزيرية يدعى "مكتب الرواي " وكان يرتاده طلبة جامعة بغداد بداية التسعينات.
كانت كتب رومان جاكوبسن وجان كوهين وميخائيل باختين وفلاسفة مدرسة فرانكفورت ومؤلفات ميشيل فوكو وتودوروف والنقاد المغاربة والمصريين قد بدأت، بالفعل، في نحت ملامح جيل نقدي حاد الوعي لم تعرف له الثقافة العراقية مثيلا.
ورغم أن معظم أولئك الشبان لم يتجاوزوا الثانية والعشرين من أعمارهم إلا انهم مع هذا حلموا بـ"تفجير" الثقافة العراقية وتحطيم تلك الأيقونات العتيقة التي شكلتها منذ الستينات.
ولئن فهم الأكاديميون الجدد كل شئ مبكرا فإنهم اتجهوا، بكل إمكانياتهم وحماسهم، في ردة فعل غريزية، إلى ترميم ما انهار من يقينيات بافتراض يقينيات جديدة. وكانت هذه الأخيرة تتركز في مفهوم واحد بدا سحريا آنذاك، إنه "التفكيك"، تفكيك تاريخ الثقافة العراقية وظواهرها، مفهوماتها ورموزها، رؤاها المتحجرة و"أجيالها" الوهمية.
كان الأكاديميون الجدد يتجمعون في أمكنة خاصة منها مكتب الاستنساخ الذي يملكه الشاعر احمد الشيخ علي في باب المعظم ومقهى حسن عجمي وقاعة "حوار" التي أسست عام 1994. وكانوا في جلساتهم الخاصة يتجادلون في آخر نظريات النقد ويتعاطون اصطلاحات بالغة الغموض والدقة تحيل لمناهج ما بعد البنيوية مثل التفكيكية والتأويل ونظريات الاستقبال والتلقي.
وعلى المرء الانتباه، هنا، إلى أنهم كانوا يعدون، حتى وان لم يعبروا عن ذلك صراحة، بنسف الثقافة العراقية إن أتيحت لهم الفرصة. وهو ما سيجري لاحقا على أيدي بعضهم في أكثر من مجال.
وبسرعة انتبهت السلطة الثقافية الرسمية إلى ما يجري على أيدي هؤلاء الشبان فراحت تمد خيوط من العلاقة معهم على أمل استدراجهم للعب دور شبيه بما جرى لشعراء الثمانينات بعد حرب الخليج الثانية.
بمعنى أن السلطة الثقافية المترهلة، الفاقدة لأي بريق كانت بأمس الحاجة لمثل أولئك الشبان المختلفين. وبالفعل حدث أن كلف عدد منهم بإعداد ملفات تتساوق مع مزاجهم في مجلة "الأقلام" وكان الشاعر رعد عبد القادر المقرب منهم قد مثل صلة وصل لعبت دورا بارزا في تشريع وجودهم كنقاد جدد يعدون بالكثير.
عدا تلك الملفات التي بدت شيئا جديدا في مجلة تقليدية كـ"الأقلام"، تمت دعوة بعض هؤلاء النقاد إلى عدد من المؤتمرات الثقافية والمرابد. وذات مرة استخدموا كواجهة، تحظى بالاحترام فعلا، لاستقبال الشاعر صلاح ستيتية في ملتقى نظمه بيت الحكمة.
بل انهم استخدموا، دون أن يكون ذلك ضد قناعاتهم، كملقط نار لتسفيه آراء زملائهم الذين أطلقوا على أنفسهم تسمية "جيل التسعينات" وكان أولئك التسعينيون قد دخلوا في صراعات سقيمة مع السلطة الثقافية السائدة خصوصا الناقد خالد علي مصطفى. وبدا من غير المفهوم، بالنسبة لأولئك الشعراء، أن يصطف "الأكاديميون الجدد" من أمثال علي بدر وحيدر سعيد وأيضا سعيد عبد الهادي ضد "أبناء" جيلهم من أمثال جمال علي الحلاق وفرج الحطاب وعباس اليوسفي.
الحال إن أمر استدراج الأكاديميين الجدد وتحويلهم إلى "ضد نوعي" أوشك أن ينجح لولا اتسام هؤلاء الشبان بـ"طهرانية" مزعجة للسلطة. فخلافا لشعراء الثمانينيات الذين استخدموا سابقا لإنجاز مهمة مشابهة، أبدا الأكاديميون الجدد يقينا لا يتزعزع بأفكارهم وابقوا على "الخط الأحمر" الذي وضعوه لأنفسهم، متجهين بكل طاقاتهم إلى النقد الجديد والمناهج الحديثة.
وبدا، في الأخير، أن من المستحيل"كسبهم" كما كان الأمر يجري غالبا مع انتهازيي الثقافة العراقية.
ولعل تكليفهم عام 1999بتحرير مجلة مهمة مثل "الطليعة الأدبية" صب في الاتجاه ذاته، نعني الالتفاف على "طهرانية" أولئك الشبان ومحاولة تفتيتها بشكل متدرج.
في الأخير خرج العدد المثير للانتباه،العدد الذي يختصره عنوان الكتاب المعروض في شارع المتنبي والمتلقط كصورة تذكارية لعقد هو الأغرب في أحداثه وتفاصيله: صباح الأكياس أيتها الكتب..هكذا كتب الأكاديميون الجدد إلى جانب صورة " الموت اختيارا"


الموت اختيارا
في العام ذاته، 1999، وفي الوقت الذي كانت الكتب تختار موتها وتتحول من خزانة أفكار إلى منجم أكياس، كان "الضد النوعي" ينتحر بعيدا. ففي مدينة النجف حيث توج محمد الصدر إماما للشيعة " الناطقين"، فوجئت السلطة، ذات مرة، بالرجل وقد ارتدى كفنا قبيل أن يتوجه إلى صلاة الجمعة.
بدت الإشارة مرعبة بالفعل، فالرجل مستميت ومستقتل وهو ينتظر أن تجهز السلطة عليه علنا بعد وصول الأمور بينهما إلى نقطة الحسم والاقتلاع.
قبل ذلك، تصاعدت شعبية الصدر وبات معبود الملايين وتحول من مرجع ديني يصدر الفتاوى لاتباعه إلى زعيم دنيوي ينظم أمور العشائر ويتدخل في كل صغيرة وكبيرة بحياة طائفته.
وبعد اعتقال عدد من وكلائه في مدينة الناصرية، تجرأ الرجل بمناداة هزت الأركان هو ومئات الآلاف مطالبا الدولة بالإفراج عن صحبه.
لم تفرج السلطة عن المعتقلين..
لم تسمح لأتباعه بالمسير إلى كربلاء سيرا على الأقدام..
بدأت المضايقات، تأزمت العلاقة..
ارتدى محمد الصدر كفنه الأبيض وجلس في مسجد الكوفة منتظرا القتلة..
لم يكن الانتظار طويلا..
قتل الصدر..

هوامش:
66 ـ ينظر ناظم ( حسن ) "شبحية النصوص وعنف الواقع " مجلة "المسلة" ـ السنة الثانية ـ العدد 3 ـ 2001. ص 34
67 ـ ينظر الصائغ (عدنان) "حراس الوطن" العدد
68 ـ ناظم ( حسن) مصدر سابق ـ ص35.

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
ارفع قبعتي لك
حامد المالكي -

ارفع قبعتي لك اخي محمد غازي الاخرس لا اقول اكثر من هذا

بداعة
تامر علي -

كتابة روعة والله. كأنها رواية او قصة.. اتمنى ان اقرأ التكملة بفارغ الصبر. تعظيم سلام للكاتب المبدع الذي أقرأ له لولمرة.