من رسائل المنفى والغياب (4)
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
منفى حزيران أو اتفاقية أوسلو 1994
لا فرق بين العنوانين سواء كان (منفى حزيران 1994) أو (منفى اتفاقية أوسلو 1994)، فهذا العام من الأعوام الفاصلة في التاريخ الفلسطيني، إذ شهد توقيع اتفاقية سلام وصلح بين الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي، بعد 46 عاما مما اصطلح عليه العرب العاربة والمستعربة "نكبة فلسطين"، وبعد البحث والاستقصاء تبين لي أن تعميم إسم أو وصف (النكبة) على ما نتج عن هزيمة الفلسطينيين والعرب عام 1948، جاء من التسمية التي كان أول من أطلقها المؤرخ اللبناني قسطنطين زريق في كتابه الذي صدر في آب 1948 بعنوان " معنى النكبة " أي بعد أقل من ثلاثة شهور على قيام دولة إسرائيل في مايو 1948، التي كانت دولة للبعض ونكبة وتهجير وتشريد وتهديم وطرد ومجازر لبعض آخر. كان عمري في ذلك اليوم حوالي أربعة سنوات إلا شهرين حسب ما يتذكره والدي (الشيخ عطية أبو مطر رحمه الله)، وحسب ذاكرة أختي الأكبر (أم رشدي) فهذا التاريخ يحمل تزويرا، فهي متأكدة أن عمري كان ستة أعوام أي أنني اليوم وأنا (مواطن نرويجي من أصول فلسطينية)، أبلغ من العمر لحظة إعداد رسالة المنفى الرابعة هذه للنشر ثمانية وستون عاما. المهم أن (أم رشدي) على الطالع والنازل بمناسبة وبدون مناسبة تؤكد وتنشر بالدليل أن أخيها (أحمد) من مواليد عام 1942 وليس عام 1944 كما يدّعي. يا أختي العزيزة والغالية أم رشدي أطال الله في عمرك ومنحك الصحة والعافية (استرينا الله يستر عليك فالرجال هذه الأيام يخفون أعمارهم الحقيقية أكثر من النساء).
ماذا كتب المنفى في 21 يونيو 1994؟
" الصديقة العزيزة ماجدة أم فيروز،
التحيات والأشواق لأعز صديقة، كانت وستبقى عندي مثالا للوفاء والجدّ والإخلاص. أعتقد أنّ هذه الرسالة ستصلك يوم 29 يونيو 1994، وبذلك يكون عمر طفلتك فيروز شهر تقريبا، وتكون صحتك قد تحسنت وجروحك قد شفيت. في الحمل والولادة تعطي المرأة ولا تأخذ سوى الألم والمشقة، ولا يخفف ذلك سوى المولود ذكرا أم أنثى، لذلك لا أستغرب لماذا كتب على المرأة بيولوجيا وحدها أن تحمل وتلد، ربما هي حكمة الخالق ولا اعتراض لنا عليها، ف " الحمد لله على هذا الحال وكل حال، حيث لا يحمد على مكروه سواه ". هكذا كان يردد أجدادي وجداتي في مخيم رفح، رغم قراءتي لاحقا لعدم جواز ذلك والأفضل الاكتفاء بالقول (الحمد لله على كل حال).... ما يتعلق ببيولوجيا الرجل والمرأة مجرد تفكير أو إعادة انتاج للأفكار، إذ أتساءل أحيانا ماذا لو أنّ الطبيعة البيولوجية للرجل والمرأة خلقت على أساس أن تحمل المرأة مرة والرجل مرة؟. أي يتبادلان الأدوار الحياتية والبيولوجية. وهذه ليست أفكار طوباوية مثالية، ففي العالم اليوم ألاف من الرجال يأخذون هرمونات أنثوية كي يتحولوا إلى نساء والعكس أيضا، والعديدون غيّروا جنسهم عبر الهرمونات والعمليات، وبالطبع لذلك أساس بيولوجي هو ما يسميه العلماء (الجنس الثالث)، أي في حيرة لا ذكر ولا أنثى، وعبر الهرمونات وحسب رغبته ينمّون إما الطبيعة الذكورية أو الطبيعة الأنثوية...ومهما كان عذاب المرأة وشقائها فيكفيها القول المنسوب للرسول صلى الله عليه وسلم (الجنّة تحت أقدام الأمهات) مع العلم باختلاف شيوخنا حول صحة هذا الحديث وصياغته.
وضمن الأقوال التي يكررها الجمهور بدون تمعن بخصوص المرأة الأم، يكررون ليل نهار في كل مناسبة تتعلق بتكريم الأم قول شاعر النيل إبراهيم حافظ :
الأم مدرسة إذا أعددتها أعددت شعبا طيب الأعراق
وهذا الجمهور يعتقد أن هذا البيت تكريم للمرأة إلا أنه في حقيقة الأمر كما أرى إهانة لا ترقى لمستواها إهانة، فهو يحمل معنى أن المرأة العربية هي المسؤولة عن هذا الإخفاق والتردي والفشل والهزائم التي تعيشها الشعوب العربية، خاصة إذا تذكرنا البيت السابق له حيث يقول:
من لي بتربية النساء فإنها في الشرق علة ذلك الإخفاق
من يتخيل هذا التطرف المعادي للمرأة، فهو يبرىء الرجال العرب من أية مسؤوليات، ف (المرأة هي علة الإخفاق في الشرق). لذلك يا صديقتي ماجدة، لو كان إبراهيم حافظ حيّا لطالبته بشطب هذه الأبيات من شعره أو لأقمت ضده دعوى قضائية باسم المرأة العربية بعد أخذ تخويل منك، وسيكون تخويلا مشهودا له بالنفوذ لأنه ذو أصول عربية مدعوم بجنسية أمريكية يتمناها حتى رؤساؤنا وملوكنا العرب.
أسبانيا أم الأندلس
في الأول من يوليو/ تموز 1994 سوف أغادر أوسلو إلى مدريد بدعوة من (مركز الاستشراق العربي الإسلامي الأسباني) للمشاركة في ندوة تستمر عدة أيام حول (نظرة معاصرة للوجود الإسلامي في شبه جزيرة ايبيريا). سأقدم مداخلة أو دراسة تقارن بين الطبيعة الواحدة للغزو العربي لأسبانيا، والغزو الصليبي لبلاد الشام (ومنها فلسطين)، لأن العرب سمّوا فترة دخولهم واحتلالهم لأسبانيا (الفتوحات الإسلامية)، وسمّى المسيحيون حروبهم لاحتلال بلاد الشام (محاولات لحماية الآراضي المقدسة) مستعملين شعار الصليب رمزا لهذه الحروب، لذلك سميت في التاريخ " الحروب الصليبية " 1096 - 1291، وللعلم فإطلاق هذه التسمية ليس من المؤرخين العرب والمسلمين بل الأوربيين المسيحيين أنفسهم، الذين كانوا يضعون شعار الصليب باللون الأحمر على صدورهم، وهم يجيشون الجيوش للمشاركة في الغزو ليكون غزوا باسم الصليب والمسيح ودفاعا عن المعتقدات والأماكن المسيحية كما يدّعون. الغزو والاحتلال لايدومان مهما طال الزمن، لذلك دحر المسيحيون الأسبان الفاتحون (المحتلون) العرب بعد ثمانية قرون، وكذلك دحر العرب المحتلين الصليبيين بعد حوالي قرنين من القدس. هذه هي إرادة الشعوب وحكمة التاريخ...يا ترى هل ندحر الاحتلال الإسرائيلي من فلسطين بعد قرنين أم ثمانية قرون؟. المفارقة التي تحتاج لتأمل هي أنّ الأسبان المسيحيين دحروا الاحتلال العربي بعد سقوط غرناطة آخر معاقلهم عام 1492 م، وفي العام نفسه توجه البحار الإيطالي كريستوفر كولومبوس ليكتشف دون تخطيط منه العالم الجديد الذي أطلق عليه (أمريكا)، كما يقولون كتابة عن طريق الخطأ لإسم أحد رفاق كولومبوس، الإيطالي أيضا " أمريجو فير شبوسي ". ليصبح هذه الاسم (أمريكا) الأكثر شهرة وانتشارا في العالم، لدولة عظمى يسعى الجميع للوصول إليها والإقامة فيها، بدليل أن الماجدة التي أكتب إليها سبقت وأقامت فيها، وأنجبت فيروز التي رأت النور حاملة جواز الشقيقة الكبرى ماما أمريكا.
الخامس والعشرين من مايو 1944
في هذا اليوم زار الرئيس ياسر عرفات وصديقه الحميم الرفيق شمعون بيريز العاصمة النرويجية (أوسلو، عاصمة السلام المباركة) ليشكرا الحكومة النرويجية على جهودها التي بذلتها سرا منذ مؤتمر مدريد عام 1991 لإتمام الصفقة التي وقعت في واشنطن في الثالث عشر من سبتمبر 1993 من شمعون بيريز ومحمود عباس، وبحضور عرفات ورابين والرئيس الأمريكي بيل كلينتون. المفارقة أن الطبخة تم إعدادها طوال أكثر من سنتين في أوسلو، إلا أن شرف التوقيع نالته واشنطن مع الاحتفاظ بأوسلو الأم تسمية للاتفاقية.
تمّ الإعداد من الأطراف النرويجية والإسرائيلية والفلسطينية إلى لقاء احتفالي عام بهذه المناسبة، كان من بين المدعوين له أحد أصدقائي (ليس من حقي ذكر اسمه كون الرسالة الآن علنية لجميع القراء)، فماذا فعل هذا الصديق؟. إستغرب دعوته لهذه الاحتفالية فهاتفني قائلا : " لا أدري هل دعوني بصفتي فلسطينيا أم إسرائيليا فالفروق لدى القيادة الفلسطينية أصبحت غير ملموسة. فكّرت في رفض الدعوة، ولكن وجريا على عادتي التي تعرفها وشعارها أنه يجب أن يكون لي في كل عرس قرص، أبت نفسي المقروصة أن يمرّ هذا العرس بدون قرص، فانتظر ماذا سأفعل !!).
ماذا فعل أبو القرص هذا في العرس المذكور؟
كتب بيانا باللغة العربية والنرويجية موقعا باسمه الصريح موضحا تحفظاته على اتفاقية أوسلو، ويوم الاحتفال في صالة الشعب النرويجية بحضور الرئيس الأمريكي الأسبق جيمي كارتر، ألبس فتاة / طفلة فلسطينية عمرها حوالي عشر سنوات - قيل أنها ابنته - ثوبا فلسطينيا مطرزا بألوان الثوب الفلسطيني المعروفة حاملة بيدها العلم الفلسطيني، ودخلت الطفلة كأنها موكب جليل يحمل تاريخ فلسطين وجغرافيتها، شهداؤها ومعتقلوها، ومشت في الصالة وسط دهشة الحضور (واثق الخطوة يمشي ملكا)، وتوجهت لرئيسة الوزراء النرويجية (جرو هارلم) حيتّها وأعطتها نسخة نرويجية من البيان، ثم وزعت النسخة العربية والنرويجية على غالبية الحضور، وما إن انتهت من التوزيع حتى كان الحضور قد قرأوه، فانقسموا بين مصفقين وواجمين، ثم توجهت لمنصة الرئاسة وثبتت العلم الفلسطيني أمام الرئيس الأمريكي جيمي كارتر، وتركت العلم منتصب القامة، وخرجت حاملة أسى وغياب شعب بكامله.
سأمكث في مدريد حوالي اسبوعين، سأحاول الكتابة لك من هناك إذا أمكن. لك الصحة ولفيروز العمر أيتها الماجدة ".
ahmad.164@live.com
ملاحظة و استطراد
وأنا أعدّ رسالتك يا ماجدة للنشر، كانت الرائعة ماجدة الرومي تغني من كلمات إيليا أبو شديد وألحان زكي ناصيف :
لا..لا ما فيّ
لا ما فيّ هاللي عاشوا العمر حواليّ
يضيعوا مني...يضيع الملقى
وليل نهار خيالهم يبقى يشرب من روحي وعينيّ
لا ما فيّ..ما فيّ..ما فيّ
يا شجر العالي اللي عم تنزل أوراقه
ذكرتني بحالي والعمر ورفاقه
يا زهور عم تذبل وعم تيبس
عم يمرقوا ببالي
تخمين صاروا مثل كل الناس
وضاعوا ورا ليالي
يا إما بقى حالهم مثل حالي
وتستمر ماجدة الرومي في الغناء الحزين، وبعد انتهاء حزنها ب (يا ثلج حاجي تشعل بقلبي..بقلبي الحريق)، سأرى أيتها الماجدتين هل أستمر في نشر رسائل المنفى أم أتركها للغياب؟.
التعليقات
ما اصعب العيش لولا
نوال الورداني -دكتور نحن بحاجه الى امل اكثر وصبر لانه لا يمكن للظلم ان يستمر اكثر من ذلك وان الفجر ات لا محال ولكن اولا يجب علينا محاربة الفساد الداخلي والانظمة القمعية العربية لكي نستطيع هزيمة العدو الخارجي
نوال الوردانى
محمد الاعظمى -ومادخل الانظمة القمعية العربية لقد كنتم من مساندى نظام القمع العراقى ورأس الحربة لة لقد استضافكم الشعب العراقى لسنين طويلة وانتهى معظم شبابكم موظفين فى الاجهزة القمعية لنظام صدام الارعن وكان مئات الفلسطينيين الذين لم يعرفوا لهم بلد سوى العراق عملهم هو تعذيب المعتقلين فى سجون البعث وعند سقوط بغداد هرب الجميع خوفا من الانتقام لم اجد من يساند العراقيين فى محنتة الا الكاتب احمد ابو مطر تحياتى لك يادكتور وشكرا
الاردن فلسطينية
بلسطيني ابن فلسطيني -الوطن البديل خير من لاوطن
المهجر
فارس الطويل -اعتقد ان المهجر والمهجرين العرب كافة قد نضجوا بالمنفى واصبح لديهم بعد وتفكير بسبب البعد والقهر والمعاناة الصعبة
.............
Majida -صديقي الرائع أحمد... وهكذا بقي العلم على المنصة يجوب القاعة بصدى الصمت الرهيب حائراً يتيماً دون تاريخ ودون جغرافيا..منكساً كأحلامنا وأمانينا بالوطن التي باتت مستحيلة طالما بقينا تحت ظل هذه القيادات .. وأنت تعلم سرها وما أخفى؟؟؟!!! ويبقى الجواب مبعثراً ما بين المنفى والغياب .. دمت كالأغنيات كل صباح ودمت كنزاً ثميناً رسائل وقصصاً وكتباً ومقالات... تماماً كزوبعة ثلج مسافرة لمنفاها فوق غيمة لتعود لنا مطراً فوق أجوائنا ووجداناتنا ..واليوم وأنا لازلت وفية ومدينة لك .. لا تغلق الباب ولا تبكي حتى الإنهمار أنثركلماتك بوخزات قلمك المتوجع حبراً شهياً يلتقي أملاً ويتلون دهشة مع أحلامنا وأمانينا في منفاك ومنافينا ... الله يخليك .. خليك معنا ... لا توصينا نوصيك خير فينا أحبك .. يا صديقي .. أحمد ....