وقف الانتشار النووي في إستراتيجية أوباما [ 2-2 ]
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
لابد من إيضاح أن هذه ملاحظات متفرقة عن وثيقة أوباما الإستراتيجية، وليست دراسة تحليلية متكاملة. فالموضوع يتسع للمزيد من البحث والتعمق. لقد حدد أوباما في الوثيقة عدة أولويات، هي، عدا موضوع الإرهاب أو ما يدعوه أحيانا ب "مجابهة التطرف والتمرد العنيفين، موضوع وقف الانتشار النووي وتأمين المواد النووية، وقضايا "التصدي لتغير المناخ"، ومواصلة التنمية العالمية، ومساعدة الشعوب الأخرى على إطعام نفسها، وأخيرا، "تسوية النزاعات ومنع ظهورها، فضلا عن تضميد جراحها."
ويشغل موضوع منع الانتشار النووي مكانا خاصا في سياسة أوباما الخارجية، وخصوصا ما يخص كوريا الشمالية وإيران، وهما الدولتان اللتان يذكرهما بالاسم. والموضوع يهم منطقتنا على ضوء النشاط الإيراني المستميت لحيازة السلاح الذري.
لقد انتقدنا، وغيرنا، مواقف الإدارة الأميركية من النووي الإيراني على مدى عام ونصف، وهي مواقف متساهلة جدا، لم توقف نظام الفقيه عن المضي قدما نحو مشروعها العسكري الذري. وقد أصاب الأستاذ عبد الرحمن الراشد بالقول :
" إيران هي البلد الوحيد في العالم الذي شغل أوباما منذ أول يوم تسلم فيه منصبه وحتى اليوم، ولا تزال الضرس الموجع المدمي. وقد أعطى أوباما نجاد، رغم الثورة الداخلية المستمرة في طهران، من التنازلات ما فاق كل تمنياته ورجاءاته في الثلاثين سنة الماضية. النتيجة المزيد من التخصيب، والمزيد من نشر العنف، والمزيد من التهديد"، [ الشرق الأوسط في 19 أيار - مايو- 2010 ]. أما كوريا الشمالية، فهي لا تقل استماتة في الاحتفاظ بترسانتها النووي، ومساعدة قوى التطرف، ومنها القاعدة، وتهديد كوريا الجنوبية، كما وقع أخيرا من إغراق بارجتها وتهديدها بالحرب.
لقد قدمت أميركا مشروع عقوبات ضد إيران اتفقت عليها الدول الدائمة في مجلس الأمن. وقد جاء المشروع بعد تقديم تنازلات كبيرة لكل من الصين وروسيا، وخصوصا في ميدان الطاقة، مما يجعل العقوبات أخف وطأة بكثير في حالة إقرار المشروع كما هو. لكن الاقتحام الإسرائيلي الدموي لأسطول "الحرية"، بضحاياه البشرية، يأتي في خدمة إيران وكل قوى التطرف وأعداء السلم والديمقراطية في المنطقة. ومن المؤكد أن إيران تنفست الصعداء بعد أن انصب السخط العالمي على إسرائيل، وخفت الضجة الدولية عن برنامجها ولو مؤقتا. ومن المهم ذكره أنه، ووسط الاستنكار الدولي لحدث الأسطول، جاءت معلومات جديدة وموثقة تؤكد على قدرة إيران على تصنيع القنبلة.
إن آخر تقارير الوكالة الدولية للطاقة الذرية يؤكد، كما تذكر "التايمز" اللندنية، أن طهران باتت تمتلك الآن ما يكفي من مخزون اليورانيوم لصنع قنبلتين. ويأتي الكشف قبل فترة قصيرة من تصويت مجلس الأمن على حزمة جديدة من العقوبات الاقتصادية على إيران بسبب برنامجها النووي. وتقول الصحيفة إن هذا التقرير ينسف المساعي الإيرانية لإعادة إحياء صفقة تبادل اليورانيوم الإيراني المنخفض التخصيب بالوقود النووي اللازم لتشغيل مفاعل إيراني مخصص للأغراض المدنية، والذي عرضته الوكالة منذ ستة شهور بهدف تأخير وصول طهران إلى مرحلة امتلاك إمكانية تصنيع القنبلة، ولو لفترة معينة.
هذا التقرير يكاد يضيع وسط ضجة الهجمة الإسرائيلية الدموية على الأسطول المذكور في المياه الدولية، وهي ضجة دولية وعربية، بحيث لم نعد نرى في هذه الأيام من يتحدث في الإعلام العربي عن إيران ومشروعها أو عن مخاطر تدخلها في المنطقة، بما فيه استخدامها لحماس وحزب الله، والمتاجرة بالقضية الفلسطينية. المغامرة الإسرائيلية، التي دلت على مدى غباء الغرور العسكري، ستحرج الإدارة الأميركية دون شك، برغم مسؤولية رخاوتها وتنازلاتها المتتالية عن وصول النشاط النووي الإيراني لهذه المرحلة التقدمة جدا. كما أنها قد عطلت مؤقتا مشروع المفاوضات غير المباشرة بين الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي. وهذا إحراج خطير آخر للإدارة الأميركية، وليس لصالح الشعب الفلسطيني. ومع ذلك، فعلي قوى الاعتدال الفلسطينية والعربية ألا تجرفها أزمة اليوم للمزايدة مع أعداء الحل السلمي. وكما يقول الراشد أيضا، بتاريخ 3 حزيران، "سواء كان الهدف من القافلة الاحتجاجية إغراق المفاوضات وإلحاق الحرج بالمعسكر العربي المعتدل، أو مساندة الغزاويين بالخبز والإسمنت، فإنها تقدم "فرصة ثمينة" لقوى الاعتدال العربية للعمل من أجل تسوية سلمية شاملة برغم الأزمة، التي لا بد وأن تنقشع كأزمات قبلها. ويرى داود الشريان في "الحياة"- تاريخ 3 حزيران الجاري - أن أصول فكرة "قافلة الحرية" جاءت من اجتماع محمود أحمدي نجاد والأسد ونصر الله قبل شهور، رغم أننا لا نجد إيرانيا واحدا بين الركاب، فإيران تبيع الفلسطينيين مجرد "كلام فارغ"، على حد قوله. ويرى الكاتب أن هناك اليوم تنافسا حادا تركيا - إيرانيا على غزة، فإيران تقدم المال والسلاح والتدريب وتشجع المعارك، وتركيا تقدم الدعم الدبلوماسي والسياسي لفك الحصار ولتسويق حماس سياسيا على النطاق الدولي. وبالنسبة لتركيا أيضا، يقول الكاتب عبد الله إسكندر إن الحكومة التركية وبقية منظمي الحملة رفضوا أية طرق بديلة لإيصال المساعدات" عن الرحلة البحرية المباشرة، مما يؤكد هدف كسر الحصار. ويقول أيضا: " ليس سرا أن المنظمين والمشاركين ينتمون في غالبيتهم إلى التيار الإسلامي، و"الإخواني" تحديدا، وبينهم قياديون في هذا التيار، من المغرب إلى الخليج." ومما له دلالة وصف إسماعيل هنية لتركيا بأنها " أرض الخلافة الإسلامية"! [ "الحياة" في 2 حزيران الجاري].
وبالعودة للوثيقة الأميركية، فإن هناك خبراء أميركيين يرون أن "سياسات أوباما قد تعزز انتشار الأسلحة النووي". أحد هؤلاء هو "جيمس وولسي"، المدير الأسبق لوكالة المخابرات المركزية الأميركية، والمستشار في أربع جولات من المفاوضات بشأن الحد من الأسلحة مع الاتحاد السوفيتي. ففي مقال، نشرت "الشرق الأوسط" ترجمته في عدد 15 أيار- مايو - 2010، يقول الخبير المذكور إن "علينا أن نضع في الاعتبار الرأي القديم للقاضي أوليفر وندل هولمز الابن: [لكي تفهم القانون، عليك أن تنظر إليه من منظور رجل سيء]. والقصد، أن كل المؤتمرات والأحاديث عن نزع السلاح النووي، وكل مبادرة في هذا الشأن تقوم بها دولة نووية تشعر بالمسئولية، لن يحفز دولا كإيران وكوريا الشمالية أو سوريا على الاقتداء بالمثل، أي الامتناع عن السعي للقنبلة أو إتلافها، [ كما حالة كوريا الشمالية]. كما يرى الخبير أن مجمل سياسات اوباما في هذا الميدان ربما ستقلق حلفاء أميركا، كدول الخليج مثلا، أو في أوربا، وذلك بالشعور بأن المظلة النووية الأميركية لم تعد تحميها كالسابق. وقد يدفع هذا الشعور دولا كهذه إلى السعي بدورها نحو القنبلة. وسبق أن علقنا في العام المنصرم على تصريحات لهيلاري كلينتون مفادها أن أميركا سوف تحمي الخليج "من الخطر النووي الإيراني"، وقلنا إن ما يفهم من التصريحات هو إمكانية تعايش أميركا مع القنبلة الإيرانية مع "ضمان أمن" الدول "الحليفة" في المنطقة. وهناك تقديرات متزايدة في هذا الاتجاه- أي أن أميركا قد تقبل بإيران نووية مع "ضمانات"!! ومع هذا، فثمة لهجة قوية في الوثيقة عند الحديث عن كوريا الشمالية وإيران، حيث يرد أنهما في حالة "تجاهل واجباتهما الدولية"، فإن أميركا سوف تلجأ "إلى طرق عديدة لزيادة عزلتهما وحملهما على الامتثال للأعراف المتعلقة بمنع الانتشار النووي." فهل يفهم من هذا تهديد باستخدام السلاح؟؟! لا نعتقد. أم ماذا؟؟!
تقول الواشنطن بوست إن الوثيقة أخذت شيئا من بوش وأشياء من بيل كلينتون، وكان مبدأ كلينتون: "معا إن أمكن، ووحدنا عند الضرورة." وتتضمن الوثيقة تلميحا غير مباشر وكأن حرب العراق كانت بقرار أحادي. وهذا موضوع يستمر حوله السجال، علما بأن معظم أعضاء الكونغرس من الديمقراطيين كانوا قد أيدوا قرار الحرب، وعلما بأن الإدارة السابقة سعت لانتزاع قرار من مجلس الأمن، ولكن حلف فرنسا- روسيا- الصين منع ذلك. فاضطرت أميركا، مع بريطانيا، لخوض حرب إسقاط صدام، وتبعتهما دول كثيرة بإرسال قواتها للعراق. كما تلاحظ الصحيفة البون بين الوعود والتصريحات وبين المواقف الفعلية فيما يخص حقوق الإنسان في الدول الأخرى.
نلاحظ أخيرا، ونحن نستعرض بعض نقاط الوثيقة الإستراتيجية الأمنية الجديدة، أن أوباما لا يكاد - وهو بصدد الحديث عن الحلفاء- يذكر حلف شمال الأطلسي أو الاتحاد الأوروبي. مرة واحدة فقط ذكر فيها الأطلسي وهو بصدد الحديث عن تحالفات الحرب العالمية الثانية، وضرورة تعزيزها، بينما يؤكد على دول كالصين وروسيا والبرازيل بالاسم.
وفيما عدا هذا، فإن الوثيقة تؤكد، مرة بعد مرة، على الدور القيادي لأميركا في العالم، ملتقية في ذلك مع مبدأ الإدارات السابقة، وهي تكثر من الحديث عن قوة أميركا وتجديدها، وخصوصا على أساس الاقتصاد المتين، داعية لنظام عالمي جديد بقيادة الولايات المتحدة، ولكن دون تجاهل الآخرين وأدوارهم، وخصوصا من تعتبرهم قوى "صاعدة".