فضاء الرأي

الديموقراطية وسؤال الجدارة

قراؤنا من مستخدمي إنستجرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك

بداية لابد وأن نقر أن النظام أو المنهج تام الكمال والصلاحية بصورة مطلقة، وهو ذلك الذي لا يتخلف عنه أي سلبيات، كما يكون صالحاً لكل زمان ومكان وأحوال، هذا المنهج أو النظام لم يوجد بعد في تاريخ البشرية، كما لا نظن أنه يمكن أن يتواجد في يوم ما.. يلزم أن نبدأ سطورنا هذه بما سبق من كلمات، حتى لا تذهب بأحد الظنون، ونحن نناقش أو نحاكم المنهج الديموقراطي في الخيار، أننا نعادي الديموقراطية أو نقلل من قيمتها.. أيضاً إقرارنا ووعينا باستحالة الوصول إلى الكمال المطلق في أي من نظمنا أو مناهجنا، يزيد من قدرتنا على توظيف تلك النظم بدرجة أعلى من الكفاءة، لنحصل على أقصى الإيجابيات وأقل السلبيات.
لن نتعرض في هذه السطور لأهم وأشهر ما أنجبه التطبيق الديموقراطي من سلبيات في منطقة الشرق الأوسط، ومن بينه ما ترتب على الانتخابات النيابية العراقية من تخندق طائفي، أفرز لنا كتلاً صماء تتصادم وتتطاحن فيما بينها، وهو نفس ما حدث تقريباً في لبنان، وما حدث في غزة من وصول ديموقراطي لعصابة إرهابية لسدة الحكم.. فهذه النتائج كلها تدخل في باب حرية الخيارات الشعبية، حتى لو كانت تلك الخيارات بالغة السوء، مثل خيار الفلسطينيين في غزة، وخيار شيعة لبنان أن يكون حزب الله هو ممثلهم.. فمن حق الأفراد والشعوب أن تختار، وأن تتحمل نتيجة خياراتها، ومنها سوف تتعلم كيف وماذا تختار في المستقبل.. هذه النوعية إذن من نتائج الاختيار بالمنهج الديموقراطي يمكن أن نعتبرها خيارات ونتائج متعمدة ممن قاموا بالاختيار، لذا سوف ننحيها الآن جانباً، وننظر في السلبيات التي لا يمكن القول أنها متعمدة بطريقة مباشرة.
لدينا هنا بعض الأمثلة لهذه النوعية الأخيرة: فاختيار الجماهيرية الليبية القذافية العظمى، لتكون عضواً في المجلس الدولي لحقوق الإنسان، وكذا دولة قطر، أمر يثير ولاشك العجب إن لم يثر السخرية، فالجماهيرية القذافية أوضح من أن تكون مجرد محل سوء اختيار لمن قاموا بترشيحها وتأييد انضمامها لهذا المجلس، كما لا يمكن أن نتصور أن يكون النموذج الليبي في مجال حقوق الإنسان هو النموذج الذي اختار المرشِحون بإرادتهم الحرة أنه يصلح لأن يكون حارساً وراعياً لحقوق الإنسان، حتى نقول أن لعبة الديموقراطية تقوم على حرية الخيار.. وضع دولة قطر أيضاً ليس أفضل كثيراً، على الأقل بالنظر إلى مأساة "البدون"، التي تحرم بشراً من حقهم الإنساني في أن يكونوا مواطنين كاملي الحقوق في وطنهم، وليسوا "بدون" وطن!!
نقصد التركيز على أن الخلل الذي نتجت عنه هذه الخيارات السيئة يرجع بالدرجة الأولى لآليات الديموقراطية ذاتها، ليأتي في الدرجة الثانية الخلل في التطبيق، أو الافتقاد لشروط التطبيق الديموقراطي الصحيحة.. فتقسيم العالم إلى مناطق أو قارات، يخصص لكل منطقة نصيب في عضوية المجلس الدولي لحقوق الإنسان، وهو نزوع ديموقراطي يهدف لمشاركة جميع الدول بغض النظر عن القوة الاقتصادية أو العسكرية، هذا التوجه الإيجابي ذاته هو الذي ترتبت عليه النتائج السلبية التي رأيناها، فلم يعد الاختيار قائماً على قاعدة الأكثر جدارة لحماية ومراقبة حقوق الإنسان، وإنما على قاعدة نصيب أو كوتة لمجموعة دول هي بالحقيقة الأكثر افتقاداً لمراعاة معايير حقوق الإنسان، وتحتاج شعوبها لمراقب كفء ليراقب أداءها، وليس أن تعين هي حارساً، كما لو على مبدأ "حاميها حراميها".. وإذا أضفنا إلى قاعدة كوتة المناطق أو القارات، قاعدة أخرى هي وجوب التناوب بين أعضاء هذه المجموعات لعضوية المجلس كل عامين، فإننا نكون بهذا لسنا أمام قواعد لاختيار الأفضل، وإنما أمام طابور كيانات تنتظر الدور أن يحل عليها، بغض النظر عن موضوع الخيار أو التوافق بين مواصفات المختار والمهمة المطلوبة.. على ذات النهج نستطيع أن نرصد سلبيات التصويت على القرارات في العديد من منظمات الأمم المتحدة، وفي مقدمتها الجمعية العامة، حيث تصدر القرارات ليس بمعايير الرشادة، بل بقدرة مقدم مشروع القرار على تجييش مجموعة دول أو أنظمة تتميز بالعديد من المواصفات والمواقف السلبية!!
نموذج آخر لانخفاض قدرة الآليات الديموقراطية على تصعيد الأكثر جدارة، نستطيع أن نرصده بوضوح في التمثيل النيابي للجماهير، فعندما نجد في البرلمان المصري تجار مخدرات ومهربين، ونجد نواباً يشجعون الاعتداءات الطائفية على الأقليات، بل وأيضاً يقوم أحدهم بإشعالها كما في مذبحة الأقباط في نجع حمادي يناير 2010، وآخرين يطالبون بإطلاق الرصاص على الشباب الذين يتظاهرون، فإن اللوم هنا لا يمكن إلقاؤه كاملاً وببساطة على وعي الجماهير، فالجماهير هنا قد تكون مظلومة بالفعل (وقد لا تكون)، فهؤلاء النواب الذين نتعجب من سلوكهم وتوجهاتهم، هم الذين نجحوا في تقديم أنفسهم للجماهير، وبذلوا في سبيل ذلك ما بذلوا من جهد ونفقات، في حين أن ذات الدوائر الانتخابية التي صعد منها هؤلاء، ربما تضم كفاءات جديرة بالتمثيل النيابي، وهي الأقدر على السعي لتحقيق آمال الجماهير ومصالحها، لكنهم يفتقدون إلى القدرة على التواصل الجماهيري.
لا يفيد في الرد على هذا التساؤل القول بأن أمثال هؤلاء النواب الأردياء يمكن ألا تعيد الجماهير انتخابهم، لأن نقطة الضعف الأساسية هنا تظل قائمة على حالها، وهي أن الأقدر على التواصل مع الجماهير، ليس من المحتم أن يكون الأكثر جدارة بتحمل مسئولية التمثيل النيابي.
بالطبع كلما كانت الشعوب أو المجتمعات متقدمة حضارياً، كلما تقلص التناقض بين قدرة المرشحين على التواصل الجماهيري وبين جدارتهم في تمثيل الناس، لكن هذا القول يأخذنا إلى معضلة أخرى، لأنه يعني الإقرار بأن الديموقراطية أكثر فائدة للشعوب المتقدمة، منها لتلك الساعية نحو التقدم، بما يهز القناعة السائدة في أوساط كثيرة بأن "الديموقراطية هي الحل"!!
الديموقراطية بلاشك هي الأقدر على تفعيل واقع الحال أو "تحصيل الحاصل"، بمعنى أنها تتيح انعكاس ما هو متواجد بالقاعدة، ليصل إلى القمة.. هكذا تُصَعِّد الديموقراطية إيجابيات وسلبيات القاعدة، ليكون الحال على قمة الهرم مطابق للحال عند قاعدته، لنجد أنفسنا عند ذات الاستنتاج الذي توصلنا إليه أعلاه، وهو أن المجتمع الحي والمستنير سيحصل على حكم جيد، والمجتمع الفاشل سيحصل على حكومة فاشلة!!
لنا بالطبع أن ننوه أن الأمور لا تجري دائماً على هذا النحو وبتلك البساطة، فالآليات الديموقراطية عندما تفرض نفسها على شعب، وتتفشى في سائر مناحي حياته، تزدهر معها مجموعة قيم ومفاهيم أخرى غاية في الأهمية، مثل مفهوم "الشفافية" و"المحاسبة" و"النقد والمراجعة الذاتية" و"تداول السلطة"، بالإضافة إلى الإعلاء من قيم الحرية وقيمة التنوع والتعددية.. هذه القيم والمفاهيم إذا ما تسللت إلى نسيج العلاقات والثقافة المجتمعية، كفيلة في حد ذاتها بنقل الشعوب من حالة متدنية حضارياً، إلى حالة أخرى جد مختلفة، ومع ذلك يبقى السؤال معلقاً، عن مدى تحقيق الآليات الديموقراطية لاحتياج الشعوب لوصول الأكثر جدارة إلى كافة المناصب، وليس الأكثر قدرة على التواصل مع الجماهير!!
مصر- الإسكندرية
kghobrial@yahoo.com

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف