الشاعر الانسان.. بلند الحيدري.
قراؤنا من مستخدمي إنستجرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
أجد صعوبة بالغة في مسح أرقام هواتف الأصدقاء الذين سبقونا الى العالم الآخر!!.. فقد طالت القائمة التي تحتوي أرقام أولئك الأعزاء.. الطيب صالح، أحمد الربعي، عبد الوهاب البياتي، نزار قباني، عبد الرزاق البصير، محمود درويش، أحمد بن بلله، والعشرات غيرهم.. بالأمس القريب استجمعت قواي كي أمحو هذه الأرقام والأسماء!!.. لكنني وقفت طويلاً أمام بلند الحيدري. فهذا الشاعر الفنان الانسان عملت معه لسنواتٍ في مجلة (المجلة)، لم أره يوماً إلا والابتسامة تعلو محياه، إلا والكلمات الطيبات تصدر عن شفاه.. ولهذا فإنني سأعيد لقراء إيلاف مقالةً سبق لي أن كتبتها عنه، ولا أدري أين نشرت عقب وفاته مباشرةً، فتكريماً لهذا الشاعر الانسان لنستعيد ذكراه معاً في هذه السطور.
* * * bull; ما زالت آثار دوى المعارك الأدبية تغطي أفق مساحة الحياة الشعرية الحديثة في الوطن العربي، فهناك من يقطع ويجزم بتأثير وهيمنة محمود سامي البارودي على كل من جاءوا من بعده وخلفوه في نظم القصيدة العربية المعاصرة أمثال: اسماعيل صبري مروراً بحافظ وشوقي ومدرسة الديوان فمدرسة جماعة أبوللو.. وحتى انبثاق حركة التجديد التي قادها الرباعي الشهير(نازك)، (بدر)، (البياتي).. وبلند الحيدري... وتلك المعارك التي مازالت محتدمة حتى يومنا هذا كأنها تورث بعضها البعض، لدرجة أن السجال فيها لم يزل عاصفاً، ولم يهدأ بعد في الوصول إلى إجابات حول ذلك السؤال الممل: لمن كان السبق في تيار أولئك الأربعة؟!.. الذي تصادف أنهم جميعاً ولدوا عام 1926 - هناك من يتحمس لدرجة الدفاع المستميت بإعطاء الأولوية لبدر شاكر السياب!!.. وترد نازك الملائكة في أكثر من بحث ومقال بأنها هي الأولى بالريادة من غيرها إذ أن ديوانها قد صدر قبلهم جميعاً.. وكذلك سار البياتي على نفس المنوال في ذلك السجال. * أما الشاعر بلند الحيدري فلم يعر أمر الأولوية التفاتاً، ولم يشارك في المعارك الجانبية، وآثر أن يكتب شعراً.. وديواناً تلو الديوان ليثري حياتنا بالشعر. * خفقة طين 1946 * أغاني المدينة الميتة 1951 * أغاني المدينة الميتة وقصائد أخرى 1957 * جئتم مع الفجر 1961 * خطوات في الغربة 1965 * رحلة الحروف الصفر 1968 * أغاني الحارس المتعب 1971 * حوار عبر الأبعاد الثلاثة 1972 * وقد اختص بيروت التي عشقها بـ 14 قصيدة ضمنها ديوان صغير (إلى بيروت مع تحياتي) 1989 وفي إحدى هذه القصائد يخاطب زميل دربه خليل حاوي بعد أن فجع بحادثة انتحاره: " قف كالنخلة فارعة أو قف كالطود الشامخ واجمع في فوهة سوداء لبركان صارخ صوتك واعلن موتك " * وأخيراً صدر لبلند ديوان (دروب في المنفى) قبل أيامٍ من رحيله إلى مثواه الأخير. * * * bull; وظل بلند الحيدري ملتزماً بالمقالات والأبحاث والدراسات والأشعار التي يطل بها اسبوعياً على قراء مجلة (المجلة) منذ سنوات نشأتها الأولى. ونظراً لمكانته الأدبية وإسهاماته الإيجابية في العطاء الصادق فما كان يستقر لأيام معدودات في بيته، وإذ بالمهام الأدبية والفكرية التي أناطته بها المؤسسات الثقافية في الوطن العربي.. والتي قد فرضت عليه أن يرحل من موقع لآخر في أرجاء العالم. ولبلند - الشاعر - دراسات أخرى في حقول الأدب والنقد والفكر. * زمن لكل الأزمنة 1979 * نقاط ضوء 1979 * مدخل إلى الشعر العراقي الحديث 1987 bull; لهذه الأسباب وغيرها، فلم يكن لدى بلند الحيدري من الوقت الكافي للخوض في معارك دون كيشوتية، إن معركته الحقيقية مع الواقع المعاش كانت تأخذ منه جل إهتمامه ووقته. ولكن مع كل هذا فإن الشهادة له بالريادة في الشعر الحديث قد جاءته من المتعاركين أنفسهم، فانتصر لنفسه في معركة الريادة في الشعر الحديث دون أن يخوض تلك المعارك!! فها هو بدر شاكر السياب يسجل اعترافه لبلند الحيدري عام 1956 حينما كتب: ".. بلند الحيدري، هذا الشاعر الممتاز الذي أعتبر العديد من قصائده الرائعة أكثر واقعية من مئات القصائد التي يريد منا المفهوم السطحي للواقعية أن نعتبرها واقعية "!!.. وقبل تاريخ كلمة السياب بأربع سنوات، كانت هناك شهادة عبد الوهاب البياتي الذي يندر أن يصدر شهادة لأحد إلا إذا كان قد استحوذ على إعجابه وفرض عليه نفسه.. كتب البياتي عام 1952: ".. إن بلند شاعر مبدع في أساليبه الجديدة التي حققها.. وفي طريقته التي لا يقف فيها معه الا شعراء قلائل من العراق " وقد توسعت دائرة الاهتمام بمعطيات الشاعر بلند الحيدري لتجتاز الحدود العربية بعد أن قام ديزموند ستيوارت بترجمة أشعاره إلى الإنجليزية، وضمنها مقدمة نجتزى لكم بعض سطورها: " أن شعر بلند يعبر عن الشعور بالخيبة الذي يكتنف العصر الحديث، وهذا التعبير هو أصدق من قصائد الحماسة المتعمدة التي ينظمها الشعراء السياسيون، حيث يهاجمون جميع الناس لجميع الأسباب".. وديزموند ستيوارت - الذي ترجم أشعار بلند الحيدري 1950 - قد أظهر إعجاباً منقطع النظير بشعره دون سواه من أقرانه. ثم توالت الترجمات المختلفة للغات المختلفة لشعر بلند الحيدري، الذي كرمته فرنسا قبيل رحيله في محفل أدبي كبير لا يكرم فيه عادة إلا الكبار في عطاءاتهم الأدبية في العالم. .. نستنتج مما سبق أن الشاعر الإنسان بلند الحيدري لم يكن لديه من الفراغ ما يملأ به تلك السجالات التي تدور في فلك (لمن الأولويات في ريادة الشعر الحديث)، فقد كانت الأولوية عند بلند للقصيدة وللبحث.. وللحضور الأدبي والفكري والثقافي.. ولعمري أنه قد انتصر أيما انتصار. * * * bull; أما عن خصائص بلند الحيدري الشعرية، فإن الحديث يطول بنا فهناك العديد من الدراسات الأكاديمية التي قامت بها أعداد كبيرة من الدارسين والدارسات في مناطق متعددة من جامعات العالم قد استفاضت في تحديد وتشخيص ملامح القصيدة الشعرية عند بلند. ولكن هناك شبه إجماع من النقاد العرب بأن نازك والسياب والبياتي لم يدركوا الرومانسية في الشعر العربي إلا في أيامها الأخيرة.. ولم يكن تبنيهم لها في مجاميعهم الشعرية الأولى لمرحلة حضارية عاصروها، كما كانت جماعة (أبوللو).. لأن هذه المرحلة في حياة المجتمع العربي بدأت بالانحسار على إثر انفتاح هذا المجتمع - بعد الحرب العالمية الثانية - على ملامح واقع جديد، وتيارات فكرية وفنية جديدة، وانما كان تبنيهم لها تمثيلاً لمرحلة ذاتية كان يمر بها هؤلاء الشعراء الشباب. .. ومما يؤكد ذلك أن ديوان بلند الحيدري الأول (خفقة الطين) كان ينطوي على بوادر كثيرة للإبداع الفني مما ينفي عنه صفة الشاعر المبتدئ. أما عن التأثيرات التي صقلت موهبة بلند الحيدري فإنه يعترف بها في محاضرة ألقاها في صنعاء ودونها الدكتور عبد العزيز المقالح في كتابه (الشعر: بين الرؤيا والتشكيل) حيث تحدث بلند الحيدري عن فترة تكوينه ونشأته الفكرية وتأثره بالمدارس الثقافية السائدة في عصره حيث قال: " في تلك الفترة نشأنا بالقرب من تجربة الجواهري، والياس أبي شبكة، وعمر أبو ريشة، ومحمود حسن إسماعيل، وعلي محمود طه.. وكذلك تجربة شعراء المهجر، ولا سيما إيليا أبو ماضي ونسيم عريضة. bull; وكنا نحاول أن نلتقي ونفترق في آن واحد.. لأن العصر كان يمر بمنعطف، وهذا المنعطف كان يجمع ويفرق في آن واحد.. وإذا كنتم تسألونني عن المضمون - والكلام لازال لبلند الحيدري في صنعاء - فالمضمون بلا شك هو الذي يغير الشكل، ولكن ليس بالضرورة أن يكون المضمون تجديداً تقدمياً، فـ (إليوت) من أكبر المجددين في بنية القصيدة الإنجليزية الحديثة.. إلا أنه ينطلق من خلال ثلاث بؤر رجعية في فكره أهمها: هيمنة الكنيسة والطبقة الحاكمة، ويراها مصدراً من مصادر القوة لكل العالم.. وكذلك هو (عزرا باوند) - استاذ اليوت - كان من المجددين، لكنه يحمل فكراً فاشياً." وينهي بلند محاضرته قائلاً: " ما نقوله نحن في التجديد في الشكل قد لا يكون تقدمياً، ولكن ثمة مضامين فرضت تغييراً في الأشكال " إلا أن بعض النقاد قد قارنوا بين قصائد بلند الحيدري، وقصائد أخرى لشعراء كبار مثل إلياس أبو شبكة حيث تمت المقارنة بين قصيدة (شمشون) وقصيدة بلند (سمير اميس).. وتبين من هذه المقارنة أن بلند الحيدري قد أُعجب بشعر أبي شبكة وبالذات في موقفه من الجنس مما أدى إلى ذلك التشابه بين القصيدتين في الروح والوزن والقافية.. رغم أن قصيدة أبي شبكة قد اتخذت المنهج العمودي في وضوح الصور والمعاني وجزالة التركيب، بينما أضفى بلند على قصيدته طابعاً من الغموض والهجس.. bull; وأشار النقاد إلى تأثر بلند الحيدري أيضاً بأسلوب (عمر أبو ريشة) ويرون أن الحيدري حاول تقليد أبو ريشة في بعض موضوعاته عندما كتب قصيدة (موت شاعر) واعتبروها الأخت الصغرى لقصيدة عمر أبو ريشة (مصرع فنان)... ووجد النقاد كذلك نفس القصيدة (موت شاعر) تلمح فيها ظلال من قصيدة (المساء) لإيليا أبو ماضي، ويستشهدون بقول بلند الحيدري: كفى التألم واهجعي.. سلمى زمانك لا يعي عبثاً ترومين الصباح.. وصبح سعدك قد نعي * * * bull; ولكي لا نقفز على مجرى تتابع الأحداث في حياة الشاعر بلند الحيدري فلا بد من الاشاره إلى أهم المحطات التي أثرت في تاريخ مجرى حياته. * بلند الحيدري يجسد الأنموذج الأمثل - بعد عباس محمود العقاد - للمثقف العصامي الذي أدار ظهره لصروح الأكاديميات، وأخذ ينهل بشغف من الثقافات الإنسانية المتنوعة، مما هيأة لأن يكون حجة ومرجعاً لكل ما يمت إلى تلك المعارف الانسانية في مضمار الآداب والفنون بصلة. * وعندما عمل في مؤسسة الزراعة العراقية، وساهم في انشاء مجلة الزراعة، كان يشاركه في تحريرها صديقه الشاعر حسين مردان، وجد أن تلك الوظيفة وتلك المجلة، لا تحققان ما تطمح إليه نفسه فتركها. * لينضم إلى مجموعة من الثائرين على المألوف، أطلقوا على أنفسهم مجموعة (الوقت الضائع) حيث ضمت هذه المجموعة عدداً من الفنانين التشكيليين من أبرزهم جواد سليم ونزار سليم وبلند الحيدري وكانت هذه المجموعة تحظى بتشجيع وتأييد دعاة التجديد في الفنون ومن بينهم جبرا ابراهيم جبرا. * وبعد قيام ثورة الرابع عشر من تموز، كان بلند الحيدري من أبرز الأعضاء المؤسسين والنشطين في اتحاد الأدباء في العراق، حيث استمر في عطائه، إلى أن زُج به في السجن بسبب التقلبات السياسية التي اتخذت من العراق مسرحاً لها بعد قيام الثورة أو الانقلاب العسكري فيها. * وأطلق سراح بلند الحيدري من السجن بصعوبة بالغة ليرحل إلى بيروت وليتولى سكرتارية التحرير في مجلة علمية متخصصة، ظن القائمون عليها أن الحيدري متخصص في دراسة العلوم ويمارس هوايته في كتابة الشعر. عاد إلى العراق بدعوة رسمية ليشارك في مهرجان الاحتفال بذكرى (أبو تمام) الذي أقيم في مدينة الموصل.. ولما رجع إلى بيروت وجد أن الحرب الأهلية قد استعرت.. فشد الرحال إلى بغداد ليعمل في وزارة الاعلام كمسئول في مجلة (آفاق عربية) * لكن بلند الحيدري لم يكن يحتمل ما يحدث من انتهاكات وتجاوزات يرتكبها النظام العراقي بحق شعب العراق، فجاء إلى لندن ليستقر فيها منذ ذلك التاريخ حيث انطلق من العاصمة البريطانية بذلك الزخم الكبير من الانجازات الثقافية والسياسية التي كان يقوم بها عبر نشاطاته المستمرة دون هوادة. * * * bull; منذ سنوات، رحل بلند الحيدري إلى مثواه الأخير، وقد حفلت الصحف والمجلات ووسائل الإعلام الأخرى بذكر هذا الرزء المؤلم، وكتبت العديد من المقالات والمرثيات التي جاءت على الكثير من تاريخ حياته وأشادت إلى معطياته، وتحدثت عن صفاته وسجاياه الطيبة في وطنه وفي منفاه. ولا أحسب أني بقادر على الإتيان بجديد عما قيل في بلند الحيدري سوى أن أطلعكم على ما كتبه بلند الحيدري عن بلند الحيدري قبيل دخوله المستشفى بساعات: " كان المنفى قائماً في داخلي منذ أن وعيت نفسي كائناً شعرياُ وكائناً سياسياً في آن واحد.. والغربة بهذا المعنى، كانت في داخلي، غربتي عن عائلتي البرجوازية المتشبثة بالحكم البائد، مما دفعني - يومذاك - بالهرب من داري في قصر العائلة لأتشرد في شوارع بغداد، وأنام على أرصفتها بصحبة الشاعر حسين مردان.. ولكي أجسد ثورتي الحقيقية على عائلتي البرجوازية، فقد فقد وضعت كرسياً ومنضدة متهرئة لأغدو كاتباً للعرائض - (عرضحالجي) - أمام بوابة وزارة العدلية التي كان خالي داوود باشا الحيدري يشغل منصب الوزير فيها.. وهذا التمرد على العائلة كان صدى لتمردي على الشكل العشائري الموروث. ربما بدأ المنفى في حياتي يوم عشت غربة حقيقية في داري حيث توزع حب والديّ ما بين حب أمي لأخي الكبير وحب أبي لأخي الصغير وهذا ما أشعرني بالكثير من الاغتراب في حيز العائلة، وهو مادفع بي إلى الهرب من البيت. إذن فالمنفى كان في نفسي منذ البدء، وكبر هذا المنفى بمعان مختلفة عندما وقفت، وأقف سياسياً ضد النظام السائد في العراق." * وعن تجربته الكبيرة أثناء اقامته في بيروت يكتب بلند الحيدري: " في بيروت وقعت في البيت ذي الأبواب العديدة، كان لكل منا أن يجد نفسه في الباب التي يريد عبورها.. المسلم مسلم، والمسيحي مسيحي.. في بيروت أدركت أهمية أن أكون ديموقراطياً وأن أفهم الآخر، وأن أؤكد على كل الأبواب المفتوحة على بعضها بعضاً. طريقي إلى بيت يوسف الخال كان مفتوحاً، وطريقي إلى بيت حسين مروه كان مفتوحاً وطريقي إلى بيت أدونيس كان مفتوحاً، ومن خلال بيتنا خرجت (مواقف) يومذاك: وكل هذا الكلام على التوجهات المتناقضة التي تعودت أن أتعامل معها علمني أن أكون ديموقراطياً، وحسبي أن أذكر صداقتي لتوفيق صايغ رغم اختلافنا اختلافاً جوهرياً. في هذا البلد - بيروت - تعلمت أهمية احترام الرأي الآخر والدفاع عن الرأي الآخر عندما يكون الهجوم على هذا الرأي هو منال منك - أيضاً - في يوم آخر، في هذا البيت الكبير عقدت الصداقات مابين أدونيس والشيوعيين، وفي هذا البيت عقدت صداقات مابين القوميين وخليل حاوي.. وبين الآخرين المناوئين لتوجهاته.. إذن تشكل في بيروت المنحى الأهم في تجربتي الشعرية وتجربتي السياسية في الآن ذاته" بيروت.. يا موتاً اكبر من تابوت.. يا موتا لا يعرف كيف يموت.. لن يعرف كيف يموت.. * * * bull; في سنوات تفاقم الأحداث السياسية الخانقة، كرس بلند الحيدري جل وقته - إلى جانب واجباته الثقافية - للعمل السياسي في صفوف المعارضة العراقية وان كان يعتبر نفسه مِلْكاً لكل العراقيين. * وقد كون مع مجموعة من المثقفين تنظيماً ديموقراطياً من أهدافه تأصيل الغد الديموقراطي لعراق المستقبل. ... وأصبح الشاعر بلند الحيدري الذي عاصر سلسلة من الهزائم والحروب في الشرق الأوسط، من أكثر الشعراء المعاصرين ازدراءاً للعنف ونقمة على الارهاب والارهابيين.. وما كان يترك مناسبة ثقافية أو سياسية إلا ويطرح السؤال تلو السؤال: " من أدخل الحرب إلى المنطقة؟ وبالذات الحرب التي عصفت بلبنان لعدة سنوات؟ " ويجيب : " لا بد من الإجابة!!! أن ثمة دولاً كبرى كانت وراء هذه الحرب اللعينة، وهي لتي صرفت مليارات الدولارات على استمرارها ليحرق هشيمها الأخضر واليابس ". ويطرح بلند الحيدري نفس السؤال عن حرب أخرى في منطقى أخرى: " من كان وراء الحرب التي دارت رحاها بين الجارين إيران والعراق؟ " ويشخص بالارقام ما استنفذته هذه الحروب من خسائر بشرية ومادية.. ويكتب بلنج الحيدري في مكان آخر : " وجاءت الحرب التي قادها النظام العراقي على الكويت، وكأن هدف هذه الحرب هو البقاء على الديكتاتورية قائمة في المنطقة بعد أن دفع شعب المنطقة مئات المليارات من الدولارات لشراء الأسلحة، ومعنى ذلك أن النظام العراقي سيبقى دائماً لأن بقاءه ضماناً لبقاء جيوش أجنبية في المنطقة". * * * bull; ويسأل بلند الحيدري عن دور المثقف العربي في هذه المرحلة الحاسمة من تاريخنا؟! فتتحرك قسمات وجهه من شدة الغضب، لكنه يجيب مبتسماً - كعادته - :" أين هو المثقف العربي؟".. المثقف العربي في بلادنا موزع تحت ثلاثة أنواع من القهر المنظم الذي تمارسه السلطات ضد الثقافة، وهذا لا يسري على العراق فحسب والعراق ليس المجتمع الديكتاتوري الوحيد في الشرق الأوسط. فمعظم الأنظمة.. وبالذات الثورية منها قد فرضت على المثقف أن يكون خاضعاً لها، وهذا القمع، وهذا الخضوع.. قد انتج ثلاثة نماذج من المثقفين: الأول: ما يسمى بما سمي أحذية النظام. الثاني: ذاك الذي يتمثل بالقردة الهندية الثلاث (لم أسمع، لم أر، لم أتكلم) ليحفظ سلامته. الثالث: هو الذي وجد فسحة صغيرة هرب بها إلى الخارج ليمارس وبصوت هامس شيئاً من واجبه كمثقف. .. هذا هو القهر الأول.. أما القهر الثاني: فهو القهر الذي تمارسه العصبيات القومية والحزبية، وتلك التي جعلت من نفسها وصية للسماء على الأرض... وكلها ضد المثقف ومن يخرج عن تعاليم هذا الثالوث قليلاً كان مصيره القتل والتنكيل والحكم عليه بالزندقة والهرطقة.. وهكذا أصبحنا نتلقى الأنباء يومياً وهي تحمل لنا قتل العديد من المثقفين في مناطق متعددة من وطننا بل كادت السكين أن تجتز رقابهم. .. والقهر الثالث يأتي من الأمية الشائعة في عالمنا العربي بحيث لم يقم الجمهور بأي دور لحماية الانسان المثقف والوقوف إلى جانبه باعتباره معبراً عن ضمير الأمة كما هو شأن الشعوب في الأمم المتطورة والمتحضرة... فماذا يفعل المثقف العربي وسط هذا المحيط القهري". * * * bull; لا أظنني في هذا الموضوع قد وفيت الشاعر الأديب المثقف الانسان بلند الحيدري حقه.. ولهذا سآتي على جزء من قصيدة له قال فيها: " خسئتم.. من قال: مات لا.. لم يمت.. مازال صوت خطاه يملأ عرق.. ها.. نحن آتون به.. مواكباً تسأل عن طريقها في الموت والفداء".. * رحم الله الشاعر الانسان بلند الحيدريالتعليقات
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف