في ذكرى ثورة 25 يناير
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
لا نظن أن ثورة 25 يناير كانت مؤامرة خارجية/ داخلية على مصر، كما يدعي البعض، متطوعين أو مأجورين أو متوهمين. وإن كان لابد وأن نسند كل ما يحدث لنا لنظرية مؤامرة، يجوز القول أن المتآمر الأرجح في هذه الحالة هو نظام مبارك نفسه، الذي طغى وعاند وتكبر، ورفض الاستجابة لدعوات الإصلاح، أو التغيير من الداخل، وترك مؤسسات الدولة تترهل، وانحطت مثلاً كفاءة وزراة الداخلية، وانحصر دورها في حماية الحاكم (وياليتها أفلحت!!)، لتترك البلاد نهباً للفوضى والبلطجة. مبارك ورجاله يلقون الآن جزاء استهانتهم بالشعب، وجهلهم بحتمية الصيرورة التاريخية للمسيرة الإنسانية. وقد تصوروا إمكانية إيقاف عربة الزمن، عند النقطة التي يسيطرون فيها على مقدرات هذا الشعب.
هم بغبائهم من مهدوا البلاد لثورة كان لابد وأن تقع. ولم يكن أمام العالم الغربي والولايات المتحدة، وهم يقرأون ذلك الواقع ويستقرئون المستقبل، إلا أن يعملوا في اتجاهين. الأول هو التواصل مع الإخوان، باعتبارهم الخيار الشعبي كاسح الرواج. وهي الجماعة التي نعرف ونرصد جميعاً سعيها العلني/ السري، طوال ثمانية عقود للوصول للسلطة. وكان نظام مبارك نفسه يسعى للتواصل والتفاهم معها، لتقبل أن تكون شريكاً هامشياً في الحكم، مقابل ترك الشارع المصري لها، لتسرح فيه وتمرح. والاتجاه الثاني محاولة تنشئة جيل من الشباب مدني التوجه، عبر ما يعرف ببرامج نشر الديموقراطية، ليكون شريكاً وعامل توازن، في المعادلة السياسية مع الإخوان. وكلها برامج علنية رسمية، كانت تنفذ تحت إشراف مؤسسات الدولة المصرية. يعني هذا خلو الأمر من مؤامرات سرية وما شابه من تهويمات تلقى جزافاً، بمنهج دعائي تضليلي. فالكل يعمل ويسعى لتحقيق أهدافه في النور، تماماً كما كان يسعى مبارك ونظامه لتوريث الشعب المصري لنجله.
لكن ما حدث هو أن الإخوان خيبوا توقعات كل من الشعب المصري والعالم الغربي في كفاءتهم الإدارية. أما الشباب المدني الذي تم تدريبه، وكذا سائر النخبة المصرية، فلقد افتضح تدني أخلاقياتهم إلى درجة مذهلة، لتأتي ما كان يفترض أن تكون ثورة، نكبة على مصر، وتهديداً للمنطقة المحيطة وللعالم. وربما أوضح جرائم عصر مبارك، وما سبقه من عهود كارثة يوليو 1952، في حق الحياة السياسية المصرية، تتجسد في تجريف الحياة الثقافية والسياسية، ما أدى إلى انحطاط نوعية الثوار، الذين لم نجد لدينا غيرهم ليثوروا عليه!!. . ثم كان أن انتفض الشعب المصري في 30 يونيو، ليزيل آثار عدوان ثورة 25 يناير وتبعاتها. بأمل أن يبدأ رحلة عبور إلى مستقبل، قد يأتي بالأفضل.
الآن لا يواجه من يحاولون استعادة الاستقرار والتوازن للبلاد تنظيم الإخوان المسلمين، بشقيه المحلي والعالمي فقط، ولكن هناك أيضاً المتصايحين بشعار "الثورة مستمرة". . يعرف العالم هذه الظاهرة المرتبطة بالطبيعة الإنسانية. فهؤلاء الذي تفرغوا لفترة من الزمن للفعاليات والروح الثورية، من الصعب عليهم سيكولوجياً، حتى لو تحققت كل أهداف ثورتهم، أن يعودوا للحالة الطبيعية، من حيث الانفعال العاطفي والحماسة، ومن حيث عودتهم للسلوكيات والواجبات اليومية المملة، المرتبطة بحياة الإنسان العادي. ولقد عرف العالم نموذجاً شهيراً لهذه الحالة، في سيرة أرنستو تشي جيفارا، ثائر أمريكا اللاتينية، الذي مازال حتى الآن أيقونة للثورة والشباب الثائر في كل أنحاء العالم. هي إشكالية مستعصية، تزداد وطأتها في الحالة المصرية، حيث لم يحقق الثوار في الحقيقة من أهدافهم إلا اليسير، وباءوا بفشل في بقية توجهاتهم ورؤاهم. هذا يعطي لهم بالطبع مبرراً إضافياً، يبرر لهم استمرار دعوة استمرارية الثورة، في ظروف تحتاج فيها مصر بشدة إلى استعادة توازنها، على الأقل لتنظر كيف يمكن ضمان استمرارية مقدرات الحياة لخمسة وثمانين مليون مصري، دون انتظار لهبات دول الخليج، التي لا يمكن استمرارها إلى الأبد، فيما يتفرغ الشعب المصري للثورة، التي أوصلته بالفعل للفوضى وحافة الإفلاس. لذا ربما جاز القول، أن من لم يكن من الثوار لديه عمل شريف منتج ينشغل به، فعلى الدولة ضمه إلى معسكرات في الصحراء المصرية، يستصلح الأرض ويزرعها، ويتعلم الرجولة والأدب. هذا ما نضطر اضطراراً لقوله، ونحن نرى هؤلاء، كما قال الإخوان سابقاً "نحن أو حرق البلاد"، فإذا بمن يسمون أنفسهم "التيار الشعبي" يكررونها الآن. متوعدين بإسقاط النظام. والحقيقة العملية هي السعي لهدم الدولة ذاتها، إذا لم يتبوأ رجلهم الناصري العروبجي سدة السلطة. مع ملاحظة أن نظرة ولو عابرة إلى التاريخ الشخصي والسياسي لمرشحهم هذا، وإلى الظروف المجتمعية التي يعيش فيها، توضح أن الفرق بينه وبين الإخوان المسلمين، مجرد مكياج رديء الصنعة.
هي لم تعد إذن معركة حول الديموقراطية، وإنما صارت أقرب لصراع بين مؤيدي الدولة وسيادة القانون، وبين من يسعون للهدم والحرق، لفرض ذواتهم - وليس حتى رؤاهم- ولو على الأنقاض. . حسناً، فلتكن الدولة، أياً ما تكون، وليذهب كل أنواع المخربين إلى حيث يستحقون. مع ذلك فربما لا ننزلق كثيراً إلى تخوم المبالغة إذا قلنا، أن في مصر الآن أربع فرق: مهاويس اليسار والعروبة، يبتغون هدم الدولة على رؤوسنا، ودراويش ودجالي توظيف الدين، يروننا كفاراً نستحق الذبح، ليدخلوا بدمائنا الجنة، وبينهما فرقة "حلق حوش"، من المنافقين والأونطجية و"بتوع الثلاث ورقات". الفرقة الرابعة ملايين من الجهلة والبسطاء والأبرياء، يتحدث الجميع باسمها، ويدعي الحرص على مصالحها!!
الشباب هم أمل الأمة في مستقبل أفضل. هم الجسر الذي نعبر عليه من الحاضر إلى المستقبل. هم المستقبل بوجه عام. المستقبل جزئياً ابن للماضي والحاضر. وجزئياً أيضاً هو ابن للتطلعات نحو غد مختلف. لكن ما يبدو أنه حادث لدينا بمصر، أن درجة تخلف وتعفن الماضي والحاضر، وطغيانها على الشخصية المصرية بوجه عام، حالت دون تشكل المكون المستقبلي المناسب في أذهان شبابنا، فلم يستطيعوا التميز عن الأجيال السابقة لهم، إلا بالحماسة والجسارة والقدرة على التواصل فيما بينهم، عبر وسائل الاتصالات الحديثة. فكان أن جاء الجيل الجديد يحمل ذات ملامح سلبيات من سبقه. وافتضح الافتقاد ليس فقط للرؤى السياسية الحداثية، لكن أيضاً لأبسط مبادئ الأخلاق والشرف. بما يشير لأن اليأس وانقطاع الأمل في التوصل للأفضل، له ما يبرره من حقائق الواقع، وإن لم يكن قدراً يستحيل تحديه.
موقف العالم الغربي مما يحدث في مصر يتطور الآن بلاشك في الاتجاه الإيجابي، ورغم الغضب والنقمة التي تولدت لدى الشعب المصري، جراء موقف هؤلاء، المعادي لثورة الشعب في 30 يونيو، إلا أننا لابد وأن نحاول تفهم موقف ووجهة نظر إدارات شعوب العالم الحر، فقد كان من الصعب على هذه الإدارات تصديق أن الشعب المصري يرفض بالفعل حكم الإخوان المسلمين. وأن الأمر ليس كما تصوروا مجرد انقلاب عسكري على الشرعية الديموقراطية. يسهل ببعض الروية تفهم لماذا يرون الأمر على هذا النحو. فهذا التغير الانقلابي خلال عام واحد في توجه الشعب، يصعب استيعابه في الغرب. أيضاً هناك التساؤل عن مدى عمق هذا الرفض وحدوده. وإن كان رفضاً لمجموعة حاكمة فاشلة، كان ينبغي أن يتم وفق الآليات والمؤسسات الديموقراطية، وليس وفق انقلاب يقوم به العسكر، أم هو رفض لفكر الإخوان ذاته، وللمسار الذي أتى بهم برمته، ويأتي في سياق حالة ثورية، وهو ما يصعب تحققه وفق التصورات الغربية، خلال تلك الفترة الزمنية القصيرة. علاوة على أن المظاهر الاجتماعية لاعتناق فكر الإخوان، وفي مقدمتها الحجاب، مازالت على حالها في المجتمع المصري. لهذا رؤية الغرب للأمر باعتباره انقلاباً عسكرياً لا تعدم منطقاً، وكذا أحاديث المصالحة والتوافق الوطني الذي تلح عليه أمريكا والاتحاد الأوروبي. والحقيقة أنه برغم الصوت العالي في الأوساط الشعبية والنخبة، رفضاً للإخوان وجرائمهم، إلا أن الأمر لم يحسم بعد تماماً مجتمعياً، وربما يستغرق سنوات، هذا بالطبع إذا لم تحدث ردة للخلف.
هكذا يظل سؤال "مصر إلى أين؟"" معلقاً في الفراغ، في انتظار الإجابة الحاسمة، التي قد تتأخر كثيراً!!
kghobrial@yahoo.com