كتَّاب إيلاف

صباح الخير من تونس 12

-
قرائنا من مستخدمي تلغرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
&&في بداية مقال له حمل عنوان :”ثورتي المفضّلة"،تساءل الكاتب المكسيكي كارلوس فوينتس الذي فقده فنّ الرواية عام 2012:”ما هي أفضل ثورة بالنّسبة لي؟".وقبل أن يجيب على السّؤال المذكور،أشار فوينتس إلى أنّ كلمة "ثورة"كلمة ملتبسة ،ومتعدّدة المعاني.فهي في الان نفسه حاملة للقطيعة مع الماضي والعودة إليه.فثورة كوكب من الكواكب تعني العودة إلى نقطة البداية .أما بالنسبة للمجتمع،فإنّ الثّورة تعني العكس تماما:إنّها قطيعة مع النّظام القائم،وحركة باتجاه المستقبل يتدعّم حينما يصبح "التّقدّم" مرهونا ب"الثّورة".والثّورة لا تتوجّه فقط نحو المستقبل ،بل هي تحلم حتى ولو كان ذلك بطريقة لا واعية بالماضي.&من هذا الجانب، يمكن القول إن الثّورة هي أيضا إعادة الحياة للماضي الطّاهر، النّقيّ.وهذا ما كان يتمنّاه إميليانو زاباتا من خلال ثورة الفلاّحين في المكسيك.ويضيف فوينتس &قائلا بإنّ ارتباط &"الحداثة" بالثّورة كان المحرّك الأساسي &للإنتفاضات الشعبيّة التي وقعت في كلّ من روسيا والصّين وكوبا.غير أنّ الغطاء الذي ألقي على الماضي في الثّورات الثّلاث،أعاد له،وبأعجوبة مدهشة،القدرة على الظّهور مجدّدا بألوان أخرى مختلفة.ففي روسيا مثلا ،ظهر التّحالف بين السّلطة السياسيّة،والسّلطة الرّوحيّة المتمثّلتين في النّظام القيصريّ ،وفي الكنيسة بشكل آخر.وفي الصّين برزت البيروقراطيّة " السّماوية التي تميّزت بها الإمبراطوريّات القديمة على هيئة نظام ماوتسي تونغ.أمّا فيديل كاسترو فهو تجسيد ل”الكاوديو” الموروث عن تقليدإسبانيّ قديم.ويشير &فوينتس إلى أنّ فرنسا ،والولايات المتّحدة &هما البلدان الوحيدان اللّذان عرفا ثورات "حداثيّة"بالمعنى الحقيقيّ للكلمة.غير أنّه يعتقد أنّ الثّورة الفرنسيّة هي أفضل ثورة عرفها العالم في القرن الثامن عشر.مع ذلك لن يكون الامر صائبا تماما إلاّ إذا ما نحن طبّقنا عليه قولة الزّعيم البريطانيّ ونستون ترشرشل الشّهيرة بشأن الديمقراطيّة واصفا إيّاها بأنها أفظع،وأسوأ نظام حكم ،لكن ليس هناك طريقة أخرى غيرها.ثمّ لا يلبث فوينتس أن يتدارك ،ليقول بإنّه إذا ما هو أراد أن يكون نزيها حقّا ،فإنّه يعتقد أنّ الثورات الثّقافيّة والعلميّة كانت أهمّ الثّورات التي عرفها التّاريخ البشريّ،وأنّ الثّوريييّن الكبار هم فنّاون،وكتّاب،وشعراء،وفلاسفة من أمثال كبرنيك واينشتاين ،وشكسبير ،وغوته ،وبيتهوفن,ج، جويس،ودستويفسكي...&وأعتقد أن فوينتس لم يكن محقّا في حكمه على الثورة الفرنسية.فهي مثل كلّ الثورات أكلت أبناءها،وتحولت الى سلسلة من الكوابيس المرعبة خصوصا في فترة"الإرهاب"(La Terreur).ومنذ البداية آرتكبت بآسمها أفظع الجرائم المتمثلة في إعدام الملك لويس الخامس عشر وماري أنتوانيت،وغيرهما من أفراد العائلة المالكة. وكان قضاة الثورة يدخلون الى قاعات المحكمة وفي جيوبهم حكم الإعدام .وهذا ما كشفه المحامي مالزرب الذي دافع عن الملك لويسالخامس عشر . وفعل قادة الثورة البلشفية بعائلة القيصر وبمعارضيهم ما فعله قادة الثورة الفرنسية.ولم تلبث الثورة الإيرانية التي مجدها الكثيرون في بدايتها مثل الفيلسوف الفرنسي الكبير ميشال فوكو أن تحولت الى سلسلة من الجرائم الدموية المخالفة لأبسط المبادئ الإنسانية. وقد أوحى لي مقال فوينتس &أن أطرح على نفسي السؤال التالي:” هل عرف العرب "ثورات " حقّا؟" ، والجواب:نعم ،عرف العرب ثورات مهمة تمثّلت في النّضالات الوطنيّة المريرة ضدّ الإستعمار البريطاني،والفرنسي في النّصف الاول من القرن العشرين،والتي أتاحت للبلدان العربيّة مشرقا،ومغربا الحصول على استقلالها .وقد آستمرّت تلكم النّضالات عقودا طويلة ،وفيها ساهمت أجيال متعدّدة،وقوى مختلفة ، ونخب سياسيّة، وفكريّة، ودينيّة، وأيضا فلاّحون، وعمّال،ونساء، وحتىّ أطفال. وتحت تأثير الثّورات الوطنيّة ضدّ الإستعمار، استعادت الشّعوب العربيّة الثّقة بالنّفس نافضة عنها خمول ، وكساد قرون مديدة من التّخلّف، والجهل، والإنحطاط في أبشع مظاهره.كما أحيت الثورات الوطنيّة روح التّضامن ، والتّآزر بين مختلف القوى الإجتماعيّة، وبين العمّال بالسّاعد ، والفكر، وبين النّخب السياسيّة، وبسطاء الناس، وحتى بين القبائل التي كانت تتقاتل ، وتتناحر .وعلينا أن نشير أيضا إلى أن الثّورات الوطنيّة مدّت جسور التّعاطف بين الشعوب العربيّة مشرقا،ومغربا.وهذا ما أثبتته الثورة الجزائريّة.وعندما اغتصبت فلسطين من قبل إسرائيل ،هبّ العرب من بلدان عربيّة مختلفة لنجدة إخوتهم الفلسيطينييّن في محنتهم. &كما حوّلت الثّورات الوطنيّة الدين الذي كان حكرا على الفقهاء المتزمّتين،والرّجعييّن ،وعلى القوى الرّافضة للتّقدّم، والتّطوّر ، إلى سلاح &ناجع ضدّ الإستعمار،وضدّ الإنغلاق،والتّخلّف،جاعلة منه وسيلة فعّالة لمقاومة كلّ أشكال الهيمنة،والهوان،والظّلم.لذلك يمكن القول بإن الثورات الوطنيّة العربيّة مثّلت قطيعة مع ماض أسود،بغيض ،مجسّدة طموحات الشعوب،والمجتمعات لبناء مستقبل أفضل فيه تنعم بالحريّة،والكرامة،والعدالة. ورافقت الثّورات الوطنيّة ثورات فنّيّة،وأدبيّة،وشعريّة،وفقهيّة أعادت الحياة للثّقافة العربيّة ،وفتحت أذهان ،وعقول النّخب على المعارف الجديدة في العديد من المجالات،ممهّدة لبروز أسماء لامعة في الفكر،والأدب ،والشعر،والنّقد ،وغير ذلك.وقد تمكّمنت تلكم الأسماء &من أن تحظى بين الناس بنفس الشهرة التي كان يحظى بها زعماء وطنيّون كبار من أمثال سعد زغلول في مصر،والحبيب بورقيبة في تونس،وعبد الكريم الخطابي في المغرب.غير أنّ"الثّورات" التي عرفتها بعض البلدان العربيّة بعد حصولها على الإستقلال ،والتي جاءت جميعها على شكل آنقلابات عسكريّة،كانت بمثابة "الضّربة" القاضية لمجمل الإنجازات الكبيرة،والإيجابيّة التي حقّقتها الثّورات الوطنيّة.فقد مزّقت تلك "الثّورات"الكاذبة،والمفتعلة مشاعر التّضامن القائمة بين أبناء الشعب ،وشرّعت الإستبداد عن طريق هيمنة الحزب الواحد،والقائد الأوحد .وبسبب الخوف الذي انزرع في القلوب،تعطّلت حركة المجتمع، وأصيبت النّخب المثقّفة بالإحباط،واليأس فما عادت قادرة على البذل والعطاء مثلما كان حالها في زمن الإستعمار .ولم يتوقّف الامر عند هذا الحدّ ، بل استفحلت الخلافات بين النّظم العربيّة مؤدّية إلى تدمير مشاعر التّقارب،والتّضامن بين الشّعوب.وإذا كلّ بلد عربيّ ينظر إلى جاره وكأنّه العدوّ اللّدود الذي يخطّط للإنقضاض عليه في غفلة منه . وقامت &الأنظمة التي ادعت &باطلا أنّها "ثوريّة"بتنظيم حملات قمع متلاحقة ضدّ من وصفتهم ب"أعداء الوطن" لتقضي على كلّ ما تبقّى من مظاهر حرّية التّعبير،والنّقد . وكان المثقّفون والمفكّرون ضحايا تلك الحملات .فكانت النّتيجة أن " ارتعش الحرف في أقلام الكتّاب، وارتعشت &الكلمات في أفواه الفنّانين، وارتعشت &الصّورة في ريشة الرسّامين،بل الفكرة في رؤوس مبتكريها" ، بحسب لويس عوض.&وظنّي أن "ثورات" ما أصبح يسمّى ب"الرّبيع العربي" كاذبة" هي أيضا . فقد التفت عليهاقوى لتنحرف بها عن أهدافها الاولى &المتمثّلة في الحرية ،والكرامة،والعدالة الإجتماعية جاعلة منها وسيلة لإنتاج أشكال جديدة من الإستبداد ،والقهر.وباسم "نصرة الإسلام"، تسعى هذه القوى لإحياء الماضي والهروب من الحاضر والمستقبل.وبذلك أصبح الجدل العقيم مهيمنا في الخطاب السياسي والثقافي،ومهملا القضايا الاساسية المتمثلة في حقّ المواطن في الشّغل،وفي الصحّة،وفي التّعليم،وفي الحرية. وأعتقد أنهم محقّون أولئك الذين ينظرون راهنا الى "ثورات الرّبيع العربيّ"بعين الرّيبة والحذر،إذ أنها تبدو كما لو انها لم تأتي لتخليص المجتمعات العربيّة من الإستبداد والطّغيان،بل للإنتقام منها ، وتحطيم قدرات أبنائها، وتكميم أفواههم ، ونسف طموحاتهم ، وآمالهم في التقدّم،والحرية، والحياة الكريمة.ثم أن ما سمي ب"الربيع العربي" أعاد احياءالمشاعر القبلية ، والعشائرية في اليمن وليبيا والعراق وحتى تونس التي عمل بورقيبة حال تسلمه السلطة في منتصف الخمسينات من القرن الماضي، على نسفها ليس بالخطب الحماسية كما فعل غيره وإنما بإجراءات وقرارات دستورية وإدارية &وتربوية وغيرها.وهذ ما دلت عليه أحداث كثيرة عاشتها تونس خلال الأربع &سنوات الماضية.فقد قامت بعض ألأحزاب التي يدعي أصحابها الدفاع عن الديمقراطية وحقوق الإنسان بتحريض أهالي الجنوب على القيام بأعمال تخريبية تمس من امن البلاد من خلال حملة "وينو البترول" على سبيل المثال لا الحصر. وتقاتل أهالي دوز وقبلي في أقصى الجنوب من أجل حقل آدعى البعض من المحرضين على الفتنة أنه يحتوي على آبار نفط.وسمح سالم لبيض الذي عينته حركة النهضة في زمن حكمها وزيرا للتربية بشتم أهالي الساحل الذين ينتمي اليهم كبار الزعماء الوطنيون من أمثال بورقيبة والطاهر صفر والهادي نويرة وغيرهم، معتبرا اياهم مسؤولين عن فقر الجنوب. والآن حين ننظر الى الخارطة العربية نعاين أن شعوب هذه المنطقة عادت الى عصور التخلف والإنحطاط حيث كانت المشاعر الطائفية والقبلية قادرة في أي لحظة على اشعال الحرائق المدمرة في هذه المنطقة أو تلك ،وعلى بث الفتن والفرقة بين المجموعات الصغيرة والكبيرة على حد السواء.&&

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف