حرب غزة وحقيقة الصراع الإيراني الأميركي
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
يكثر الحديث داخل الأوساط المهتمة بالشأن الدولي عن تأثير الحرب بين إسرائيل وحماس، حيث يتوقع كثيرون أنها ستمثل علامة فارقة بارتداداتها على المنطقة. ويرى البعض أن الحرب لن تبقى ضمن حدود غزة، بل ستتحول إلى حرب شاملة تقودها إيران وارتباطاتها الإقليمية من الحوثيين وحزب الله والجماعات المسلحة العراقية، دون استبعاد زج النظام السوري فيها، لتشتعل كل الجبهات بين إيران وأميركا، وهو ما كان يروج له قادة حماس. لكنَّ ذلك التوقع أصبح لدى البعض، وخاصة قادة حماس، حلماً لم ولن يتحقق.
أصحاب هذه الرؤية بنوا توقعاتهم على فرضية لم تثبت صحتها حتى اللحظة، وهي وجود عداء استراتيجي بين الولايات المتحدة والجمهورية الإسلامية الإيرانية، وبناءً على تلك القناعة رسموا سيناريوهات عدة لحرب إقليمية تشترك فيها قوى ودول عديدة إقليمية ودولية. وكانت هذه الرؤية هي الأكثر انتشاراً في بداية الحرب على غزة.
لكن ما هي احتمالات وقوع حرب أميركية إيرانية؟
بالرجوع قليلاً إلى الماضي، وبالتحديد بعد قيام الثورة الإيرانية ضد الشاه، الحليف الوفي لبريطانيا وأميركا، عملت أجهزة الاستخبارات الغربية بالتنسيق الكامل مع الحكومة الفرنسية حينها ومع قوى إقليمية في سبيل تغيير مسار الثورة التقدمي وخطف القيادة من القوى السياسية التي كانت ترغب في اسقاط النظام الاستبدادي للشاه والانتقال إلى دولة الحقوق والقانون، ليحصل الكرد والإزرين والعرب والبلوش على حقوقهم، وتأسيس سلطة ديمقراطية تعددية لامركزية، يكون فيها الدين لله والوطن للجميع. ومنعاً لتحقيق أهداف الشعوب الإيرانية المشروعة تلك، هيأت فرنسا الأرضية، بالتنسيق مع حلفائها من رجال الدين الإيرانيين المتواجدين على أراضيها، لنقلهم بطائرة خاصة إلى مطار طهران الدولي في لحظة مفصلية، تم اختيارها بعناية ودراسة فائقة، لحظة بداية انهيار سلطة الشاه وارتباك قادة الثورة ليظهر على بوابتها ما سمي بقائد الثورة، الولي الفقيه، ليندفع المئات لا بل الآلاف من الذين كانوا ينتظرون لحظة الانعتاق من حكم الشاه (لن أخوض هنا في تفاصيل ما جرى هناك)، ويحملوا الخميني إلى سدة الحكم. لقد أرادت الولايات المتحدة من ذلك أن تبقي طهران رهينة الاستبداد الديني هذه المرة، وهي كانت على دراية تامة أنَّ السلطة الدينية، أو ولاية الفقيه، ستكون على خلاف وصراع مع الدول الأخرى في المنطقة، وهو ما سيمثل عاملاً يدفعها لطلب الحماية، ما يحقق أهدافها الاستراتيجية الرامية إلى إبقاء دول المنطقة في صراع مع جارتها الشرقية، بدل الاستعداد والتعامل مع عدوانية جارتها الغربية التي تقضم الأراضي وتضطهد الشعب الفلسطيني وترفض أية حلول سياسية، لا بل ترفض تطبيق القرارات الدولية العديدة حول إسرائيل وفلسطين.
من جهة أخرى، كان واضحاً أن القيادة الدينية الإيرانية لن تقيم علاقات قوية مع الاتحاد السوفيتي، على الأقل في بدايات حكمها، بسبب الموقف المتشكك الذي أبداه السوفييت حينها، وكانوا يدعمون الأطراف الشيوعية واليسارية المنخرطة في الثورة، لهذا فإرسال الخميني خيب آمال الدول الجارة لإيران أيضاً، وخاصة المطلة على الخليج، والتي كانت تأمل أن يكون البديل الإيراني نظاماً منفتحاً على الحوار مع جيرانه.
لم يكن النظام الجديد في إيران نظاماً قومياً دينياً فارسياً فقط، وانما أسس لتراتبية دينية وطائفية جديدة في المنطقة، وتحولت إيران إلى دولة فارسية القومية وشيعية المذهب، وأصبح الدستور الذي يقود المجتمع الإيراني دستوراً دينياً مبنياً على ولاية الفقيه الذي يقود الدولة والمجتمع كحاكم مطلق الصلاحيات، لا يختلف في الجوهر عن الشاه السابق في سلطة وصلاحيات إدارة الدولة.
إنَّ وجود السلطة الحالية في إيران يعطي أمريكا مبررات وجودها العسكري في المنطقة، والعكس صحيح، كما أن النهج الرافض للمختلف دفع الحكومات المجاورة لإيران إلى الاحتماء بالغرب وخاصة أمريكا، مما أدى إلى نشوء خلافات عميقة بين معظم دول المنطقة وإيران، وقد كان للولايات المتحدة دور كبير في تغذيتها.
لقد رفعت إيران راية معاداة إسرائيل كي تكسب ود شعوب المنطقة التي غذتها الدعاية القوموية الناصرية والبعثية والمطالبة بتحرير القدس، فرفعت السلطات الإيرانية تلك الراية وكسبت تعاطف الكثير من مواطني دول المنطقة والمسلمين، لا بل جندت الآلاف منهم لتحقيق أهدافها في المنطقة والعالم.
العداء الإيراني لأمريكا لم يكن حافزاً يمنع الأخيرة من الاستيلاء على بغداد حين احتلت العراق. قد يتساءل البعض لماذا؟ يمكن سرد العديد من الحجج التي تدل ظاهرياً على عجز الولايات المتحدة، مع أن الحقيقة التي يعلمها الجميع تفند تلك الحجج بالرغم من معقوليتها، فلو رغبت الولايات المتحدة في تشكيل عراق بعيد عن الهيمنة الإيرانية لاستطاعت، لكنها لم تفعل، بل مع سماحها بتغلغل النفوذ والهيمنة الإيرانية على كامل الأراضي العراقية وسلطتها السياسية، قامت بدعم تشكيل الحشد الشعبي بحجة ضعف قوة الجيش العراقي الذي تم تأسيسه من جديد، وخلقت قوة رديفة لتقاتل داعش، وهكذا بررت سبب تشكيلها للحشد، مع أن القادة الأميركيين الذين أشرفوا على تشكيل القوة الرديفة كانوا يعلمون أن تلك القوة ستكون الذراع الإيراني الأقوى على الساحة العراقية في المستقبل، وهو ما حصل.
بالعودة إلى حرب غزة، التي يدفع الشعب الفلسطيني ثمنها وحده، من دون أن تخرج الحرب من الرقعة الجغرافية التي لا تتعدى كيلومترات عدة، بالرغم من التصريحات والتهديدات التي أطلقتها إيران التي كبحت جماح حزب الله وتركت له هامش التحرك على أن لا تتعدى أعماله القتالية بعض العمليات حفاظاً على ماء الوجه، كما أن الهجمات الحوثية التي لا يمكن أن تحصل إلا بموافقة ومساعدة إيرانية تضر بعض الدول وإسرائيل ليست منها. لهذا، لن يكون هناك ارتدادات إقليمية للحرب المستعرة بين إسرائيل وحماس، ولن تنخرط أي جهة أو دولة في المنطقة فيها، إلا إذا رغبت الولايات المتحدة وإيران في فتح جبهة لهما منها هدف ما، لكن على الأغلب لن يحصل ذلك، لأن الاتفاق الضمني بين الطرفين يسمح بتصعيد التوتر، وحتى القيام ببعض الأعمال العدائيَّة، على أن لا يتعدى ذلك.
وجود سلطة قوية على رأس دولة على خصام مع دول المنطقة يخدم مصالح أمريكا وإسرائيل بشكل مباشر أو غير مباشر، وهو ما يدفع الإدارات الأمريكية المتعاقبة إلى التمسك بخطوطها الحمراء في مواجهة إيران، أي الإبقاء على الخلافات والتصريحات الشديدة اللهجة والعقوبات والعداء السياسي، من دون السماح بأن يصل إلى صراع عسكري.
الشعب الفلسطيني في غزة هو ضحية رفض إسرائيل للحلول السياسيَّة، وضحية الأخوان الذين اختطفوا السلطة فيها. واستغلال دول إقليمية كإيران وتركيا لحماس في سبيل تحقيق أجنداتهم الإقليمية.