فضاء الرأي

أنا ولجنة التحديد والتحرير (3)

قراؤنا من مستخدمي إنستجرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك

كنت الوحيد من بين الأخوة الكبار في الدار، والعائلة مكونة من 14 أخ وأربع أخوات، لكن وللاستيلاء على أكبر قدر ممكن من الملكية، تم احتساب 11 أخاً فقط ودون تحديد الأسماء، لتزداد حصة الغمريين، وعند توزيع الأرض عليهم تم اقتطاع مساحة إضافية وهي قرابة عشرين هكتاراً، تبين ذلك بعد سنوات، وانتشر الخبر أن أحد المسؤولين في الجزيرة يجني منتوج تلك المساحة، لكن في الواجهة كانت تستثمرها إحدى عائلات الغمريين. لم نعلم من كان المسؤول، لكن الشكوك حامت حول محمد منصورة رئيس الفرع العسكري، وبالمناسبة فاسم نصران ومزرعة عمي المجاورة، عربت وسميت منصورة فوقاني ومنصورة تحتاني.

الكبار من الأخوة لم يكونوا حاضرين لأسباب عدة، فرضت علي تحمل المسؤوليات، وقد كانت المهمات كبيرة لشاب متخرج من الثانوية قبلها بسنتين، لكنها وبالرغم من أخطائي كأي شاب، صقلت مداركي، ومن بينها معرفتي لإشكاليات الملكية وقضايا الدوائر حيث البيروقراطية والروتين الممنهج، كما أن حادثة اللجنة وما تلتها من المراجعات نبهتني إلى قضايا عديدة، وجعلتني أعيش الصدمة ولفترة، خصوصاً عندما بدأ الوالد يشرح غاياتها البعيدة لي، وقد لاحظت مدى ثقل التبعات عليه وكان يدرك ما ستؤول إليه النتائج.

نصران كما هو معروف يملكها آل عباس منذ أكثر من مئتي سنة، بشكل قانوني، وقبلها ربما بقرون كانت تابعة للعائلة والعشيرة، فيها قراهم، وامتداداتها كانت مراعي لهم، مثلها مثل مناطق العشائر الكوردية الأخرى ضمن الجزيرة التي ضمت إلى سوريا، وذلك أثناء تقسيم جغرافية كوردستان وتوزيع الفرنسيين والبريطانيين ورثة الإمبراطورية العثمانية فيما بينهم، ومعروف كيف حصل البريطانيون على جنوب كوردستان وساعدوا على ضم شرق كوردستان إلى الدولة الإيرانية، وضم قسم إلى روسيا والتي أتبعت فيما بعد إلى الإتحاد السوفيتي، والفرنسيون حصلوا على غربي كوردستان ومن بينها الجزيرة، وقاموا بعدها بتشكيل الدولة اللقيطة باسم الجمهورية السورية، وضموا إليها غرب كوردستان، لذلك وللقضاء على هذا التاريخ جرت عمليات الاستيلاء بخدع قانونية، وهنا نذكر نصران كنموذج عن جميع القرى الكوردية في الجزيرة. وللعلم فقد نشر خبر في نهاية السبعينات، أن منظمة اليونسكو أرسلت تعويضات للملاكين الذين تم الاستيلاء على أراضيهم، لكن رفعت الأسد تحايل على اللجنة بطريقة ما وحصل على الأموال.

إقرأ أيضاً: أنا ولجنة التحديد والتحرير (1)

حاول الوالد أن يوضح لي ماذا ستكون نتائج هذه اللجنة في المستقبل، والتي حينها لم أنتبه للقضية ببعدها القومي، فرئيس اللجنة وعلى الأغلب وبأمر من السلطات، ألغى ملكيتنا نحن الأخوة والأخوات، والتي كانت مقسمة منذ عام 1952 بين سبع ملاكين وبالتساوي، وحصرها في ملكية الوالد فقط، لتخفيض سقف الملكية للقرية التي بناها الوالد من العدم عام 1943 وكان لا يزال والوالدة في بداية العشرينيات من العمر. هذه المخططات كانت مفروضة على هذه اللجنة واللجان الأخرى المماثلة، ومطلوب تطبيقها على جميع القرى الكوردية، ومع جميع الملاكين الكورد حصراً.

أحسست عدة مرات، وخصوصاً قبل كتابة رئيس اللجنة تقريره الأخير، وقال إنه متردد بما ينوي كتابته، أنه يحاول استغلال المهمة للحصول على رشوة؛ وليس كما ظننت في البداية بأنه كان يشعر بتأنيب الضمير، بل وتأكدت بعدها بفترة، وخصوصاً بعد تحليل الوالد، بأنه كان مفروضاً عليه فعلها حتى ولو دفعت له، مع ذلك حاول الحصول على بعض المال، وللعلم كان الوالد ضد دفع الرشوة ونبهني إليها، لقناعته التامة بأنها لن تنفع، ولا جدوى منها مثلما حصل لبعض الملاكين.

ما كان يلاقيه الإنسان الكوردي بشكل عام من القوى الأمنية ومن مثل هذه اللجان التي كانت تظهر وبتلك العنجهية في القرى، عكست العلاقات الكارثية بين سلطة محتلة وشعب يقاوم حتى ولو كان بالصمت، فأي ظهور لهم كان يعني التكاليف الباهظة على المجتمع المعاني أصلاً من العوز والفقر المفروض عليه من قبل السلطات. فمع هذه اللجنة كانت قد درجت بين الملاكين، أن تقام لهم الولائم والحفلات في المدن القريبة، لكنني ولكرهي لرئيس اللجنة بشكل خاص، إلى جانب أنني كنت حينها كما ذكرت سابقاً، في العشرين من العمر، ولا أحبذ ولائم الشرب، وكنت معلماً في قريتي نصران أحافظ على الرصانة قدر الإمكان، والوالد ضد الرشوة وعزائم السكر، لم تكن إقامتهم عندنا مريحة، بالرغم من أنني كنت أقدم لهم يومياً ثلاث وجبات دسمة ذبيحة في كل يوم، لذلك تعامل أحدهم في أحد الأيام بوقاحة وتأفف من الإقامة، فحصلت بيني وبينه شبه مشاجرة كلامية بحضور المرحوم صالح حسين، وكان جاهزاً لضربه، وتدخل رئيسهم وأوقفه، ومن الغريب أنه وقف إلى جانبي وأنبه.

إقرأ أيضاً: أنا ولجنة التحديد والتحرير (2)

مع ذلك، بقيت أتابع الرسم والتخطيط والخرائط لبيوت القرية وحدود الأرض، معظمها كان من حب الاستطلاع والمعرفة قبل أن يكون لي رأي أو قدرة في تحديد مستقبل ملكيتنا للقرية، مثلما لم يكن لأي كوردي القدرة على تغيير ما كان يجري من عمليات الاستيلاء والتعريب. خرجت معهم ميدانياً على حدودنا مع دوكر وحلوة وقرى أعمامي، وكما ذكرت سابقاً تركوها مع حفاره وكرشيران وبشكل عام كنت أهتم بهذه الثانويات حول مصير القرية، وكما ذكرت، لم أنتبه إلى ما كان يخطط لقادم جغرافية غرب كوردستان من خلال نصران وغيرها من القرى الكوردية.

يتبع...

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف