من اليوم الأول كان رئيس اللجنة يتصرف كرئيس لإحدى دوائر الأمن، وظل رسمياً، حتى مع أعضاء لجنته، وكأنه في الدائرة وليس في ضيافة أبناء قرية كوردية، حيث البساطة ونقاء كرم الضيافة. قليلاً ما تناقشت معه حول أمور ملكية العائلة لقريتنا نصران، لعدم معرفتي حينها غاية اللجنة وأسبابها، وما سينتج عنها لاحقاً، ولم أدرك البعد السياسي لخلفيات عملها، والذي كان مدرجاً كعمل ميداني ضمن سلسلة خطط موجهة ضد الوجود الكوردي، كانت قد قُررت ضمن أروقة النظام ومربعاته الأمنية، وبدأت بالقضاء على ملكية الكورد ضمن جغرافيتهم، ومن ثم التغيير الديمغرافي في غرب كوردستان.

تأكدت من كل هذا بعد سنوات، لكنني حينها أخذت عملهم على أنه رسم خرائط لجغرافيات القرى، ينطوي على بعد حضاري تقوم به مؤسسات الدولة لمسح أراضي سوريا عامة، لكن رئيس اللجنة وبعض الأعضاء كانوا يدركون ما يفعلونه وأسبابها؛ حتى ولو كانت تغطى تحت منطق المسح الطبوغرافي لأراضي الدولة، وطوال الأسبوع وهم يأكلون من خيرات القرية، لم تتغير فوقية رئيس اللجنة معي ومع الوالد وأبناء القرية الذين كانوا في الخدمة وبرحابة الصدر. لم يغب عن العمل إلا مرتين؛ سافر فيها مع السائق إلى القامشلي لساعات وعاد بوجه متجهم ونفسية أحقر.

كنت في العشرين من العمر، معلما بالوكالة في مدرسة القرية، أدرس الطلاب في النهار وأعمل وأتنقل مع أعضاء اللجنة في أزقة القرية وعلى حدود نصران مع القرى المحيطة بها، واطلع على خرائطهم بعدها، أي كنت ألازمهم طوال الوقت أحياناً حتى منتصف الليل، وفي بعض المرات كانوا يطلبونني أثناء دوام المدرسة لمرافقتهم في عمل ميداني، فكنت اضطر إلى تعيين طالبي- أخي جلال (لتفوقه وذكائه) مع طالب مساعد معه لإعطاء الدروس ومراقبة الصف إلى حين انتهاء الدوام، وفي هذه الفترة ألغيت الدرس السري الإضافي، وكان عن تاريخ وجغرافية كوردستان واللغة الكوردية، التي كانت استمرارية لعملية خطيرة أمنياً، كان قد طبقها ودرسها أخي المرحوم أحمد صابر، وقد كان معلماً بالوكالة قبلي في القرية، حللت مكانه بعدما طلب إلى الخدمة العسكرية.

خططوا حدود أراضي نصران من جميع الجهات، لكن عندما جاؤوا على تخطيط الحدود مع قرية المختارة - حفارة، من جهة الجنوب الشرقي، اكتفوا بالرسم على الخريطة دون العمل الميداني، بالرغم من أن الوالد طلب منهم تبيان الحدود ميدانياً، لوجود إشكالية هناك، فهي مزرعة مساحتها قرابة مئة هكتار (أمتلكها أحد المحامين من مدينة دمشق في بداية الخمسينيَّات) وقد كانت جزءاً من أراضي قريتنا نصران وقرية تل برهم التابعة لعمي المرحوم عبد الكريم عباس.

عرف الوالد أنهم تركوها لغاية خبيثة، علها تصبح بؤرة خلاف على ملكية قطعة أرض تابعة لنصران انضمت لأراضي حفارة بعدما تم بناء مشروع الطريق الدولي المار في جنوب القرية وانفصلت تلك القطعة، وكانوا على دراية بها وبمخطط الطريق، تركوها عملياً وخططوها نظرياً، وعملوا مثلها مع حدود قرية كرشيران الواقعة في شرق نصران، والتي كانت حتى عام 1927 لعم الوالد يوسف عباس، قبل أن يصادرها الفرنسيون مع قرى أخرى لآل عباس ما بين أعوام 1927-1932، والقريتين من ضمن أراضي آل عباس المسجلة في سجلات الإمبراطورية العثمانية وبسندات تمليك صادرة من الأستانة ومصدقة من ولاية ماردين قبل أكثر من مائتي عام.

إقرأ أيضاً: أنا ولجنة التحديد والتحرير (1)

رسموا الحدود من الجهتين نظرياً، وللمصداقية، وخارج غايات اللجنة والمؤكد أنها كانت خبيثة، لم يكن بين الوالد وبين ملاكي كرشيران في الواقع أية إشكاليات حدودية بعدما ألغت فرنسا ملكية آل عباس للقرية، وتوقف الوالد عن المطالبة بها في منتصف الأربعينيات، كما أن المحامي حفار، بالرغم من أنه كان يستثمرها، لكن عندما طلب منه المرحوم الوالد بعدها بسنوات عدم استثمارها كمالك لها، لم يعترض وتوقف عن ذلك، وقد حاول الوالد استثمارها لكن انتقال الآليات عبر الطريق الدولي من أجل بقعة صغيرة من الأرض كان صعباً، لذلك تركت مع قرية حفارة، ومن حينها ظلت بوراً لسنوات إلى أن عاد المحامي إلى استثمارها.

أثناء وجود اللجنة، لم أتحرَ كتابة تقريرهم حول القطعة بدقة، لكن المسؤول عن المخطط حينها قال لي إنها رسمت كما يجب؛ جوابه وأسلوبه خلق لدي حيرة، لم أدركها آنذاك، ولم تظهر أية مشاكل إلا بعد سنتين، وقبل رحلة إلى الحسكة، ذكرت للوالد جوابه الذي علق في ذاكرتي، فقال إنهم ربما يتوقعون أن تذهب إلى المحاكم ويعودون مع عنجهية أبشع، لكن هذه الجزئيات لم تكن بذات الأهمية لا حينها ولا اليوم، بل ما قاله لي أحد الموظفين من اللجنة والذي بقينا على صداقة، في دوائر المحافظة حول الاستيلاء على أجزاء من أراضي القرية ومثلها على المئات من القرى الكوردية، وأدركت بعدها أن الهدف لم يكن الملاكين أو اقتطاع جزء من ملكية مالك، بل أرض كوردستان التي كان يجب أن تعرب...

يتبع...