الطرفان، هيئة تحرير الشام بقيادة أبو محمد الجولاني والغرب بقيادة الولايات المتحدة الأميركية، يحاولان تضليل الشعب السوري وجماهير المنطقة حول ماهية السياسة الحقيقية التي يقف خلفها الحكام الجدد الذين قدموا على الدبابة التركية إلى دمشق.

الجولاني يحاول الضحك على الذقون أكثر مما يحاول استغفال ذاكرة جماهير المنطقة، عبر تسويقه أحاديث وسيرة شخصية لنضاله المليء بالجرائم بحق جماهير العراق وجماهير سورية. ففي مقابلة له مع (بي بي سي)، يحاول فبركة قصة قطع صلته بمنظمته الإجرامية "القاعدة" عندما وجد أنَّها انحرفت عن الطريق وأصبحت طائفية، وكان لا يعلم حسب مزاعمه، لأنَّه كان معتقلاً في العراق. وذهب للعراق للقتال ضد الاحتلال الأميركي، يا له من طيب وحسن النية، وقد أمطرنا وجهه السمح أمام الكاميرا ببراءة الثوريين!

أولاً، إن "القاعدة"، وبغض النظر عن أيديولوجيتها الإسلامية، هي منظمة طائفية، وهي من أصدرت بيانات قبل تفجيرات الحادي عشر من أيلول (سبتمبر) في نيويورك عام 2001، أعلنت فيها الجهاد ضد الصليبيين واليهود. وقد ارتكبت القاعدة بعد غزو واحتلال العراق عام 2003 عشرات المجازر والجرائم عبر العمليات الإرهابية في العراق ضد المدنيين، من أجل تحقيق استراتيجية تعميم الفوضى لإفشال المشروع السياسي للاحتلال الأميركي للعراق.

اتفقت تلك الاستراتيجية مع منهجية النظام السياسي لملالي طهران في تعاملها مع السياسة الأميركية في العراق، إذ أصبحت كل مدن إيران محطة للدعم اللوجستي والملاذ الآمن ومكاناً لاستراحة عناصر القاعدة وعوائلهم في تلك الفترة المظلمة من تاريخ العراق. وقد عاونها نظام بشار الأسد الإجرامي، إذ لعبت القاعدة التي كان الجولاني أحد قادتها في العراق مع أبي مصعب الزرقاوي دوراً في تحويل حياة المدنيين العراقيين إلى جحيم لا يُطاق.

كانت غالبية عملياتها الانتحارية تستهدف مناطق عمل العمال والكادحين ومحلات معيشتهم، وقلما كانت هناك عمليات عسكرية ضد القوات الأميركية. إذ وجهوا حراب عملياتهم الوحشية إلى الأهداف الرخوة في العراق. لقد كانت القاعدة تحاول، مع العصابات الإسلامية الشيعية مثل جيش المهدي التابع لمقتدى الصدر، والذي تفرعت منه اليوم ميليشيات ما يسمى بـ"محور المقاومة"، نقل الصراع الطائفي إلى الوعي الاجتماعي في المجتمع العراقي، وحتى في عموم المنطقة.

ثانياً، يحاول الجولاني اليوم استغفال ذاكرة جماهير العراق، مدعياً أنَّه كان لا يعرف بالصراع الطائفي وأن القاعدة انحرفت عن مسارها لأنَّه كان في السجن. ولكن ماذا عن الجذور الأيديولوجية للقاعدة؟ فهل هي الأخرى انحرفت بقدرة قادر عن الأرضية التي نبتت منها؟ إنَّ عالم اليوم، بفضل التقدم في تكنولوجيا المعلومات، يكشف أنَّ أبا محمد الجولاني عاد إلى سورية عام 2012 بأوامر من أبي بكر البغدادي قبل إعلان دولة الخلافة الإسلامية في الرقة السورية والموصل العراقية، ليقود جماعته ويشترك في الحرب الطائفية التي كانت إحدى أطرافها القاعدة.

إقرأ أيضاً: مكانة المرأة معيار في تقييم النظام الجديد في سوريا

لم يُعلن الجولاني عن انسلاخه من القاعدة إلا عام 2016، أي بعد أن غرق في الجرائم الطائفية في سورية. لقد حولوا بشكل مخطط وممنهج الحراك الجماهيري في سورية من أجل الحرية والكرامة ورغيف الخبز إلى حرب طائفية مستعرة. ومن وقف وراء تلك الحرب الطائفية المستعرة في المنطقة هم؛ القاعدة، والميليشيات الشيعية المدعومة من إيران، والنظام الطائفي في العراق بقيادة نوري المالكي، ونظام بشار الأسد، بدعم المخابرات الأميركية والتركية والألمانية والفرنسية والقطرية. وكان أبو محمد الجولاني أحد أبطال تلك الحرب الطائفية.

وعلى الجانب الآخر، تحاول الحكومات الغربية، وعلى قدم وساق، وبنفس القدر الذي يبذله الجولاني وهيئة تحرير الشام، تضليل العالم حول الحكام الجدد في دمشق. إنَّ نفس وسائل الإعلام الغربية التي تغطي جرائم نظام الأسد تعتم على جرائم هيئة تحرير الشام - جبهة النصرة أو القاعدة سابقاً - سواء في العراق أو سورية، أو في ظل حكومة الإنقاذ التي شكلتها في إدلب والتي يحاول الجولاني استنساخها وتعميمها على عموم سورية.

الجولاني، أو أحمد الشرع، يحاول إطلاق عبارات وجمل تطرب مسامع الغرب الرسمي الذي يستمتع بالاستماع لها. ويضيف لنا الجولاني في نفس المقابلة إنَّ "سورية ليست أفغانستان"، ويعطي حق التعليم للنساء. إلا أنَّ الجولاني، إمَّا أنَّه يتذاكى دون جدوى، أو يتناسى، أنَّ هيئة تحرير الشام بزعامته حولت إدلب إلى قندهار أفغانستان، ونكّلت بكل المعارضين وقمعت التظاهرات التي خرجت ضد ممارسات هيئة تحرير الشام. نعم، إنَّ سورية ليست أفغانستان، فهذا صحيح، لأنَّه لا يستطيع قلع جذور المدنية والتحرر والتحضر والعلمانية من البيئة الاجتماعية السورية والوعي الجمعي الاجتماعي السوري.

ها هي جماهير سورية بدأت تصحو من دوي السقوط المفاجئ لأكثر نظام وحشي وإجرامي، نظام بشار الأسد، دون امتياز في المنطقة. وجاء أول الغيث حين رُفعت شعارات دولة مدنية وعلمانية ومشاركة المرأة، في أول التظاهرة التي نظمت يوم أمس الخميس المصادف 19 كانون الأول (ديسمبر) 2024 في ساحة الأمويين في دمشق، أي بعد 12 يوماً من سقوط النظام.

إقرأ أيضاً: هل ينجح سيناريو استبدال الجولاني بالأسد؟

إنَّ هيئة تحرير الشام تلعب على عامل الوقت، وما صدر من قرارات من حكومة "تصريف الأعمال" التي شكلتها فور وصولها إلى دمشق بيومين أو ثلاثة، فهي خارج صلاحياتها، ولا تمت بأيّ صلة بالعناوين التي وضعتها أي حكومة تصريف أعمال. فقد ألغت الجمارك، وحلَّت وزارة الدفاع، وأقالت عشرات من المسؤولين الحكوميين والموظفين أو الذين يُشكُّ بولائهم، وحولت مراكز المؤسسات الحكومية إلى أماكن للصلاة، التي هي مقدمة لأسلمة المجتمع السوري وفرض النظام الإسلامي عليه.

إنَّ فترة ثلاثة أشهر التي منحتها هيئة تحرير الشام لحكومتها كافية لترسيخ نظام إسلامي بأيديولوجية "الإخوان المسلمين" أو القاعدة أو جبهة النصرة، وبغض النظر عن مسمياتها، فإنَّ البدلة أو اللباس الأفغاني أو العسكري الذي يرتديه الشرع ومحمد البشير رئيس حكومته دليل واضح على هذه النوايا.

إنَّ المعضلة لا تكمن في خطف السلطة من قبل الجولاني وجماعته، التي لولا سرعة عجلات الدبابة التركية التي أعلته، وبدعم القوى الإقليمية والدولية الأخرى، لما حلم الشرع بالوصول إلى دمشق أسرع من بقية أطراف المعارضة السورية المسلحة. بل المعضلة تكمن في سياسة الغرب الرسمي التي تحاول تعويم شخصية مجرمة وأياديها ملطخة بدماء المئات من الأبرياء في العراق وسورية، وإضفاء الشرعية عليه.

إقرأ أيضاً: سوريا في قلب الشرق الأوسط الجديد

إنَّ الغرب يحاول تعويم الجولاني وتزكيته وزمرته، هيئة تحرير الشام، لأنَّها عارضت أو قاتلت نظام الأسد. وخلف هذا العنوان، يلعب الجولاني على عامل الوقت ويحاول كسبه، عبر تضليل العالم بقشور القصص وسير ذاتية ناقصة، ووعود لا تمت بأي صلة لحقيقته وأجندته. إنَّ فترة ثلاثة أشهر التي منحها لحكومة تصريف الأعمال، كما سماها، هي في الحقيقة فرصة لترسيخ سلطته وبناء مؤسسة قمعية والترويج لمشروعه السياسي.

وأخيراً، فإنَّ كل من ينتظر من الجولاني أو الشرع و"هيئة تحرير الشام" إعطاء الحرية والمساواة للشعب السوري، فهو قرر تسليم مصيره إلى جحيم، وقته غير معلوم ومكانه مجهول.