لا داعي للتوهم بالأقوال، أو الانتظار طويلًا دون جدوى للأفعال؛ فمعيار مساواة المرأة المطلقة في الحقوق الاقتصادية والسياسية والاجتماعية في المجتمع هو الفيصل لاختبار سلوك النظام السياسي الجديد في سوريا، أيًّا يكن من يمثله.
المرأة ليست مكوّنًا من المكوّنات، ولا أقلية من الأقليات في المجتمع كما يتم ترديد تلك الترهات ضمنًا، عندما يتحدث المسؤولون في الغرب "الديمقراطي" عن تضمينها كمعيار في النظام السياسي الجديد في سورية. ذلك المعيار، بالنسبة إلى الغرب على الصعيد الفني، هو كتابة الدستور والدعوة "للديمقراطية" دون رائحة أو طعم أو شكل أو مضمون، وهو ما يحصره الغرب بالانتخابات، مهما كانت الجهة التي تفتح صناديق الاقتراع وتغلقها. يمكن لـ"هيئة تحرير الشام"، التي تعتبر دونية المرأة جزءًا من هويتها السياسية والاجتماعية، كما هو مثبت في دستورها وأيديولوجيتها – كما تحدث وزير العدل في حكومة الإنقاذ التي يقودها محمد البشير في دمشق، بإلغاء القوانين القضائية والعمل بالشريعة – أن تكتب دستورًا وتُجري انتخابات، كما فعل الإخوان المسلمون في مصر الذين سيطروا على السلطة بدعم أميركا وعبر الانتخابات لاحتواء الثورة المصرية.
نلاحظ أن الجميع يردد عبارة: "ننتظر الأفعال لا الأقوال" من هيئة تحرير الشام، التي يتزعمها أحمد الشرع (أبو محمد الجولاني سابقًا). فجميع رؤساء الحكومات الغربية ومسؤوليها رددوا تلك العبارة. إلا أن معيار الأفعال بالنسبة إلى العالم الغربي هو نسبي. هنا نتحدث على الصعيد السياسي، ومعيارهم هو الآتي: عدم تهديد الحكومة الحالية لأمن دولة إسرائيل، وعدم تصدير "الإرهاب" إلى دول المنطقة – في الوقت الذي لا يمكن فيه تصدير الإرهاب دون تسجيل ماركته في إحدى الشركات التابعة للمخابرات الغربية (ألمانيا، فرنسا، بريطانيا، أميركا، وتركيا)، والحصول على رخصة منها. وإجراء أيّ انتخابات مشروطة بوصول حكومة موالية للغرب، أو على الأقل لا تتقاطع مع مصالحه، عبرها، تعمل على ترسيخ أمن الاستثمار وتوفير بيئة خصبة للرأسمال ودورانه، بحيث يكون النظام الاقتصادي في سورية مرتبطًا بالاقتصاد الرأسمالي العالمي، ويتم تقسيم السلطة بين ما يسمونه المكوّنات والأقليات كما هو الحال في العراق أو لبنان.
علينا ألا ننتظر طويلًا القوى السياسية الجديدة كي تكشف عن نفسها، ولا أن ننتظر الغرب الرسمي، الذي يُعد أكثر الأنظمة السياسية التي تتشدق بالأقوال الكاذبة حول حقوق الإنسان لكنها تتنصل بامتياز من الأفعال. نذكر، على سبيل المثال، كيف تم تسليم مصير المرأة إلى جماعة طالبان، التي لا تختلف هويتها الأيديولوجية عن هوية هيئة تحرير الشام إلا في الزي، وأسدل الإعلام الغربي الستار عن كل ما يحدث للمرأة تحت ظل حكومة طالبان كي يغطي أو يطمس واحدة من جرائمه بحق الإنسانية بتسليم أفغانستان إلى جماعة صنّفها إرهابية ومعادية للنساء.
إقرأ أيضاً: سوريا في قلب الشرق الأوسط الجديد
قد يحسب بعض المحللين والمراقبين أن ما نذهب إليه هو ترف فكري أو سياسي أو اجتماعي، ويعتقدون أن الأولوية اليوم لحكومة شاملة تضم المعارضة السياسية بكل أطيافها وتمثل جميع القوميات والطوائف. قد تتشكل مثل هذه الحكومة التي يشتاق لها الغرب الرسمي، وتلحق بركبها بعض دول المنطقة، من أجل التخلص من عبء سوريا ومشكلاتها وتداعياتها على الأمن في المنطقة، وعلى صفاء مجتمعاتها من اللاجئين. لكن عندما تغيب مكانة المرأة كإنسانة من الدرجة الأولى، مثبتة في الدستور والقوانين، عن المشهد السياسي والاجتماعي، فلا يجب الحديث عن الحريات والكرامة الإنسانية ومستقبل مشرق لسوريا وأهلها. فجماهير سوريا، التي هُجّر منها أكثر من 10 ملايين شخص وقتل منها مئات الآلاف، تستحق أن تنال حكومة ونظامًا سياسيًّا يؤمّن لها الحرية والمساواة والكرامة الإنسانية. فعلى مر العصور، وفي زماننا الحالي، تدفع المرأة دائمًا ثمنًا من حياتها وأمنها وسلامتها وكرامتها وإنسانيتها للحروب والاقتتال، سواء كان داخليًّا أو خارجيًّا، وثمنًا لأيّ تغييرات أو منعطفات سياسية، كما حدث، على سبيل المثال، بعد الثورة الإيرانية عام 1979، إذ اعتلى السلطة أكثر الأنظمة الفاشية المعادية للمرأة، وكذلك في التجربة الأفغانية والعراق واليمن وليبيا.
إن الغرب الرسمي ينظم عملية تخدير جماعية للمجتمع السوري عبر تسويق عبارته: "ننتظر الأفعال وليس الأقوال" من هيئة تحرير الشام أولًا. أما المسألة الثانية التي يروج لها دون أي مضمون يُذكر، شأنه شأن تركيا، فهي "سوريا الموحدة"، التي لا تختلف في الشكل والمضمون عما أرادها نظام بشار الأسد القومي الفاشي. بقاء "سوريا الموحدة"، يحكمها قانون واحد، يجب أن يكون مشروطًا بالحقوق المتساوية لجميع المواطنين السوريين بغض النظر عن الجنس والقومية والدين والطائفة والعرق، وتعريف سوريا واحدة لكل قاطنيها وليست سوريا بهوية قومية واحدة أو لون قومي واحد. كذلك يجب منع استخدام المقولات المشبوهة التي تتبناها الدوائر الغربية – مثل "المكوّنات" و"الأقليات" – لتعريف البشر في سوريا بشكل قانوني، والتي لا تستخدمها في بلدانها. الهدف من إدخال تلك المقولات في الأدبيات السياسية للمنطقة هو خلق مبررات للتدخل العسكري والسياسي والأمني، ولوي عنق الأنظمة السياسية والحكومات والمجتمعات باتجاه مصالحها.
إقرأ أيضاً: ماذا يحدث في مدينة الناصرية؟
وأخيرًا، نكرر العبارة التي طالما ذكرناها: يقول علماء البيئة إنه أينما وُجد النحل في أي مكان، يعني ذلك أن نسبة التلوث تكاد تكون قليلة أو معدومة. هذا ينطبق على مكانة ووجود المرأة؛ فإذا ما كانت تتمتع بالمكانة التي اعترفت بها كل المواثيق الأممية والدولية بمساواتها الكاملة، عندئذ نستطيع أن نقيم سلوك النظام السياسي كخطوة أولى نحو مستقبل مشرق في سوريا. وكل من يتحفنا بأن الظروف الحالية ليست مواتية للحديث حول مكانة المرأة، وأن الأولوية لمسائل سياسية واقتصادية وأمنية أخرى، فلا يعني سوى التخندق مع القوى الرجعية بشكل واعٍ أو بشكل واهم. إن سلوك أي نظام سياسي يسير على عجلات متساوية، ولا يمكن فصل الأولويات عن بعضها؛ فالحريات السياسية والفردية والمساواة بين البشر وتوفير الأمن والرفاهية هي وحدة واحدة، أي رزمة متكاملة.
بمعنى آخر، فإنَّ الضمان الرئيسي في عدم انزلاق سوريا إلى مستنقع نظام دكتاتوري إسلامي وحرب أهلية يكمن في إطلاق الحريات السياسية، وتشكيل دولة علمانية وغير قومية، تُعرّف البشر فيها بهوية المواطنة. يجب أن يكون هذا جزءًا رئيسيًّا من دستورها الذي ينظم العقد الاجتماعي في المجتمع.
التعليقات