في المستقبل القريب، ربما خلال عام واحد، قد تتاح الفرصة لبناء دولة ديمقراطية في سوريا على أنقاض الدولة الإجرامية العنصرية، دولة بعيدة عن التعصب الديني والقومي. ولكن إذا لم تُستغل هذه الفرصة، ستطفو على السطح خلافات متعددة، بعضها يتعلق بفصل الدين عن الدولة وبناء نظام ديمقراطي، وأخرى مرتبطة بالطموحات التركية في سوريا، التي قد تتطور لاحقًا إلى صراع على السلطة بين الميليشيات المدعومة من تركيا، التي كانت تعمل تحت عباءة المعارضة السورية ومنظمات الحكومة المؤقتة، وبين هيئة تحرير الشام.

واليوم، مع زوال النظام وانتهاء دور المعارضة التقليدية، تستمر الفصائل التي تحتل مناطق عفرين وكري سبي وسري كانيه، وبدعم مباشر من تركيا، في تعميق الصراع القومي بين الكورد والعرب. هذا الصراع، الذي غرسه نظام البعث سابقًا، تغذيه تركيا بشكل منهجي لخدمة أجنداتها الخاصة، في حين كان يتوجب على هذه الفصائل العمل لصالح الشعوب السورية. تستغل تركيا البنية القومية والدينية الهشة لهذه الفصائل، التي تضم شرائح تجمع بين توجهات قومية عروبية تشمل منشقين عن نظام البعث، وأخرى إسلامية تتراوح بين الاعتدال والتطرف.

من المتوقع أن تبدأ هذه المنظمات بالصراع مع التيارات المنضوية تحت خيمة هيئة تحرير الشام، التي قد تتجاهل المصالح التركية بالكامل وتسعى إلى تحقيق مشروعها الإسلامي العربي السوري. الهيئة نفسها تضم تيارين رئيسيين: الأول يحمل فكرًا متطرفًا يشمل فلول داعش، والآخر يميل إلى نهج ليبرالي مستوحى من حزب العدالة والتنمية. على الأرجح، سيتفاقم الصراع بين التيارين داخل هيئة تحرير الشام قبل أن يتطور إلى مواجهة أوسع بين الفصائل ذات التوجهات الإسلامية والقومية.

ولا يمكن إغفال دور المعارضة السياسية التي كانت لها ثقل كبير داخل سوريا قبل ظهور النصرة وهيئة تحرير الشام، وقبل تشكيل المنظمات المدعومة من تركيا لخدمة أجنداتها الخاصة. هذه المعارضة، التي كانت تمثل طيفًا واسعًا من القوى السياسية، أصبحت تدريجيًا أقل تأثيرًا بعد صعود المنظمات الإسلامية التكفيرية والفصائل المسلحة.

إقرأ أيضاً: الأسد بين خيارات البقاء وأطياف الهزيمة

الصراع المحتمل قد يحول المنظمات السياسية المعارضة، التي تخضع لوصاية تركية أو إقليمية أخرى، إلى قوة سياسية مكافئة قد تواجه النفوذ العسكري لهذه الفصائل. هذا السيناريو يذكرنا بالقوى التي واجهت آلة النظام البائد في بدايات الثورة السورية، قبل أن يتم حرف مسار الثورة على يد التنظيمات التكفيرية والإسلامية المتطرفة.

المواجهة العسكرية بين المنظمات المسلحة تبدو احتمالًا واردًا في مرحلة قد تستغرق عامًا أو أكثر بقليل، لكنها ستكون كارثية مقارنة بالخلافات القومية والطائفية مع سلطة هيئة تحرير الشام، التي تبدو أقل تعقيدًا. هذه الخلافات يمكن معالجتها عبر مطالب قومية وحقوق ضمن إطار النظام القائم، لكنها تبقى مشروطة بمدى مرونة هذا النظام وقدرته على استيعاب التنوع وحل الأزمات بطرق عقلانية.

الصراع الحقيقي، مع ذلك، سيكون حول السيطرة على السلطة، إلى جانب محاولة تحقيق مصالح الدول الإقليمية المتنافسة، خاصة بين المحاور التركية والعربية، في مشهد مشابه للصراعات التي وقعت بين إيران وميليشياتها وبين الدول العربية. ومع انهيار أدوات إيران التقليدية في سوريا، تتصاعد أدوات تركيا المتمثلة في التنظيمات السنية التكفيرية والجماعات الإخوانية التي تدعي الليبرالية، محاولة أن تحل محل الميليشيات الإيرانية. رغم الاختلاف في النهج بين إيران وتركيا، فإنَّ الأهداف تظل متشابهة، وهو ما قد يؤدي إلى نزاع دموي يعمق الأزمات ويزيد من معاناة السوريين.

إقرأ أيضاً: أردوغان والعباءة المزيفة: لعبة المصالح وخيانة الحلفاء

السوريون اليوم يعيشون نشوة التحرر من نظام طاغية غادر البلاد هاربًا مع حاشيته، كما قالت إحدى الناجيات من سجونه: "نحمد الله أنه لم يُقتل، وإلا لوجد من يصفه بالبطل، لكنه الآن هرب قذرًا وذليلًا". لكنَّ هذه النشوة قد تتبدد مع تعمق الصراعات وغياب الحلول السياسية، مما يترك مستقبل سوريا في مهب الريح، مرهونًا بإرادة القوى الإقليمية والدولية.

رغم هذه التحديات، يبقى الحل الأمثل هو بناء نظام ديمقراطي بعيد عن التعصب القومي والديني، حيث إن رفع الشعارات الدينية التي تنتهجها هيئة تحرير الشام لا يختلف كثيرًا عن الشعارات القومية العنصرية التي كان يروج لها حزب البعث.

في هذا السياق، يُعد حل القضية الكوردية مفتاحًا أساسيًا لمستقبل سوريا كدولة تتسع للجميع. الاعتراف بالحقوق القومية للكورد، وضمان مشاركتهم في صنع القرار السياسي، وإعادة الأراضي المصادرة، خطوات جوهرية تضمن وحدة سوريا وتبعدها عن شبح التقسيم والدعايات الموجهة ضد الحراك الكوردي. هذا التقارب لن يقتصر على طمأنة الكورد فقط، بل سيمتد ليشمل المكونات الأخرى الأقل ثقلًا، إلى جانب المكونات الدينية، مما يرسخ مفهوم الشراكة الوطنية. الكورد، بموقعهم الجغرافي وتنوعهم الثقافي، يشكلون عامل استقرار محوري لسوريا، وتحقيق العدالة لهم سيضع أسسًا لوطن يحتضن الجميع، حيث يساهم كل مكون في إعادة بناء البلاد بعيدًا عن سياسات الإقصاء التي دفعت بسوريا إلى حافة الانهيار.

إقرأ أيضاً: اللغة الكردية والذكاء الاصطناعي

النشوة بزوال النظام الإجرامي، ورغم أنها مبررة، ستتلاشى مع الوقت، ليجد الشعب السوري نفسه أمام أسئلة مصيرية حول طبيعة النظام الجديد، الهوية التي ستشكل ملامح المستقبل، والخوف من هيمنة الإسلام السياسي المتطرف. الجميع يعرف من هو الجولاني ومن هي جبهة النصرة، حتى وإن غيرت مظهرها أو اسمها.

سوريا، التي تخلصت من طغيان طويل، تقف الآن أمام فرصة نادرة لبناء وطن جديد يليق بتضحيات أبنائها، وطن يقوم على المساواة ويبعد شبح التقسيم، ليصبح نموذجًا يُحتذى به في المنطقة. لكن هذا الحلم سيبقى مشروطًا بتجنب السقوط في مستنقع شبيه بما كانت عليه سوريا السابقة، حتى لو أتى بوجه مختلف تمامًا.

ولإنقاذ سوريا من خطر الصراعات الداخلية، يصبح الحوار الوطني مع جميع الأطراف ضرورة ملحة، باستثناء مخلفات النظام المجرم وحزب البعث. على سبيل المثال، يُتوقع أن يبدأ قريبًا حوار مع حكومة أو قوى الإدارة الذاتية، والتي يجب أن تقدم مشروعًا يتسم بالوضوح ويتوافق في خطوطه العريضة مع المجلس الوطني الكوردي، حتى وإن كان المجلس الوطني الكوردي لا يزال جزءًا من الحكومة المؤقتة التي تمثل الائتلاف الوطني السوري.

إقرأ أيضاً: فلسفة المقاومة الكردية في مواجهة الهمجية التركية

المطلب الأساسي يتمثل في بذل جهود لإقناع قوى حكومة الإنقاذ بقبول الطروحات الوطنية التي ستُعرض عليهم، مع التأكيد على أن النظام اللا مركزي الفيدرالي يمثل الحل الأمثل لسوريا المستقبلية. هذا النظام ليس فقط وسيلة لحماية البلاد من خطر الانقسام، بل هو خطوة أساسية لمعالجة الدمار الهائل الذي خلفه النظام المجرم البائد.

الفيدرالية تفتح المجال لخلق شراكة حقيقية بين جميع مكونات المجتمع السوري، مما يتيح إعادة بناء سوريا كوطن ديمقراطي يحتضن جميع أبنائه. هذه الرؤية تتطلب التحرر من هيمنة الإسلام السياسي ومنطق الهيمنة القومية العربية، لتأسيس دولة تعكس تنوعها وتضمن العدالة والمساواة بين جميع مكوناتها.