بعد إحراق محمد البوعزيزي نفسه في تونس، اندلعت سلسلة من المظاهرات الشعبية التي أطاحت بحكام العديد من الدول العربية، وأدت في الكثير من هذه البلدان إلى حروب أهلية، مما نتج عنه ضحايا من المدنيين بالملايين ومهجّرين قسراً بالملايين ولاجئين في بلدانهم بأعداد لا تُعدّ ولا تُحصى، وهذه تكلفة بشرية باهظة، خصوصاً أنه لم يُولد من رحم هذه المأساة أي تغيير يُذكر.
لقد نجحت هذه الشعوب العربية بالإطاحة بحكامها المستبدين، لكنها لم تنجح في بناء نظام ديمقراطي بديل، بسبب التواطؤ على التغيير الذي كانت تطمح إليه هذه الشعوب الثائرة، التواقة إلى إنشاء دول ديمقراطية يسودها العدل والحرية، والقطع مع عقود الاستبداد ومشكلة الفساد المستشري في هذه البلدان. تلك العقود المريرة التي عاشتها هذه الشعوب، عانت خلالها ويلات الفقر والبؤس والجهل، والتي عرفت تفاقماً تصاعدياً رغم ما تزخر به هذه البلدان من ثروات طبيعية هائلة.
وقفت الدول الإقليمية التي لم تصلها شرارة الربيع العربي، حجر عثرة أمام التغيير، خشية أن يمتدّ إليها هذا الحراك. وقد كان ذلك من خلال مساعدتها المالية والسياسية من أجل الانقلاب على النهج الديمقراطي الذي شرعت هذه الدول في أخذه طريقاً لتحقيقه. وبذلك تم وأده في مهده. كما تجدر الإشارة إلى مساهمة معظم الدول الغربية في إفشال قيام أي ديمقراطية في المنطقة، سعياً وراء الحفاظ على مصالحها التي يضمنها لها الحكم الشمولي، والتي تهددها الديمقراطيات في حال قيامها.
وكما يبدو اليوم فالشعوب، تحت الضغط المعيشي المزري وتحت وطأة الظروف الحياتية الصعبة التي تعيشها في ظل الاستبداد والحكم الشمولي، بدأت تتحرك من جديد من أجل رفع الظلم والفساد، ونفض غبار العبودية عنها. وهكذا بدأ مشروع التغيير الجديد من سوريا، وهذه المرة عبر معارضة مسلحة، أعدّت لهذا المشروع العدة الكافية لإنجاحه منذ فشل ثورة سنة 2011. وقد استفادت من أخطائها السابقة التي أدت إلى فشل وتعثر حراكها في إسقاط النظام المستبد الجاثم على أجساد أفراد الشعب منذ عقود عديدة.
إقرأ أيضاً: السلم المتحرك للمعاشات في المغرب هو الحل
استغلت المعارضة السورية المسلحة الظروف المناسبة التي خلقتها الحرب في لبنان، وارتباك إيران، وإضعاف حزب الله من قبل إسرائيل، بالإضافة إلى انهماك روسيا في حربها مع أوكرانيا. ونفذت هجماتها القوية والمفاجئة والشاملة ضد قوات النظام، وبدأت تحرر مدنها وبلداتها واحدة تلو الأخرى بفضل عزيمتها وثقتها بالنصر. بدأت فلول قوات النظام تتقهقر أمام شراسة قتال الثوار وبسالة رجالها الذين صمموا وخططوا وعقدوا العزم على دخول العاصمة دمشق والإطاحة بأكبر دكتاتور في المنطقة.
يجب على الجميع أن يعلم أن "الربيع العربي الثاني" سيأتي بزخم كبير يذهل ويفاجئ العالم، لكون الشعوب قد استفادت من أخطائها خلال حراك 2011، وهي ستدخل معركة التغيير بخطة مدروسة، وأسلوب جديد، وأفكار مخالفة، وعزيمة قوية تمكنها من الإطاحة بالاستبداد والحكم الشمولي الدكتاتوري الذي عانت من ويلاته لعقود طويلة.
إقرأ أيضاً: وجهان لعملة إسرائيلية واحدة
على النظم التي لا تزال مستمرة في استعباد شعوبها أن تغير من نهجها وتحاول أن تبدأ بإصلاحات جذرية تقوم على الديمقراطية الحقيقية المبنية على الحرية والعدالة الاجتماعية، حتى تتفادى عواقب ما يمكن أن ينتج عن أي تحرك شعبي من أجل التغيير.
قد يتبادر إلى ذهن الكثيرين أن الحراكات والانتفاضات الشعبية قد انتهت ولن تشتعل نيرانها من جديد. وهذا أمر غير منطقي، فما دامت أسباب ومسببات الثورة قائمة، فإنها لم تخمد ولن تخمد أبداً، فهي كبركان يُرى أنه خامد، ولكن ما يلبث أن ينشط من جديد.
التعليقات