حلم جارتي السنونو…
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
لمسة برد ناعمه على حافة الليل وقبل الفجر بقليل، مرت على اصابع قدمي التي كانت لاتبالي بغطاء الشرشف الخفيف خلال ليالي الصيف الاخيرة، جعلتني أتلمس بحثاً عن الغطاء السميك عند طرف السرير.
انه أيلول اذن! مر بخاطري بين النعاس والحلم، مع نسمة خريفية متسللة من شقوق هذا الفجر، فتدثرت متحصنا بدفء مبكر.
لكن هل ستكون مازالت هناك عند الصباح… صحوت مفكرا؟!
أم تراها قد احست مثلي بأول الريح الباردة، فشرّعت أجنحتها على آخر النسمات الدافئة نحو الجنوب؟!
كان الفجر يتهيأ ليرسم أنفاسه الأولى على سماء غرناطة، وقفت على شرفة منزلي متأملا تلك اللحظة الساكنة قبل أن تستيقظ المدينة.
نسمة خريفية باردة مرت بلطف، فتذكرتها، كانت تشاركني صباحات الصيف بتحيتها المبهجة.
لكن اليوم، كان الهدوء يعم الشرفة.
لم أرَ اجنحتها المنجلية تقص السماء، ولم أسمع صفير صوتها العذب يثقب الهواء.
تُرى هل رحلت مع أولى نسمات أيلول الباردة؟ أم أنها ماتزال هناك، مختبئةً في شق القرميد؟!
كانت تشطر السماء بأجنحتها المنجلية أمام شرفتي بسرعة البصر، حينما أفتح باب الشرفة، وكأنها تلقي تحية الصباح.
فأبقى مأخوذاً لبعض الوقت برقصة طيرانها الساحر عاليا مطلا على المدينة بانسيابية موسيقية، وهي تقسّم السحب المتفرقة كالمقص على سماء الصيف، نازلةً من على تلة قصر الحمراء، هبوطا وبسرعة مناورة وطيران منخفض بين سقوف القرميد المتراصة بين تفاصيل مدينة غرناطة القديمة.
كانت ترقص مع الريح، يميناً ويساراً، كأنما ترسم لوحةً لا نهائية في السماء.
تتبع خريطةً غامضة محفورة في قلبها.
ترسم عالما ساحراً تمتزج فيه الحرية بالدقة، السرعة بالهدوء، والرحلة بالعودة.
حينها فقط، وبعد بهجتي بهذا الأداء الصباحي المبهر، امضي لممارسة حياتي اليومية، مطمئنا بأنه سيكون نهار جميل …
مساءا، وعند الغروب يكون طيرانها أشد سرعة وانخفاضا وبمناورات سريعة ومجنونة بين السقوف، تكاد تلامس الجدران الناتئة، لكن تراوغها بأعجوبة، وكأنها تحاول ان تطمئن بأن جميع أهالي المدينة قد عادوا بسلام الى بيوتهم وشرفاتهم العابقة بالياسمين.
وبعد مناورات راقصة وحنونة بمحاذاة الجدران القديمة، تتشممها وتشعر بدفء طابوقها المشوي تحت أشعة الشمس الأندلسية لمئات السنين.
عندها فقط، تقوم بمناورة اخيرة تهبط فيها بسقوط حر و بطرفة عين تضم جناحيها وتتسلل بدقة الليزر المذهلة في الشق الصغير بين بلاطات القرميد على شرفتي.
هناك، في عشّها الصغير، تغلق عينيها، وتبدأ بالحلم!
في عتمة ذلك الشق الدافئ بين بلاطات القرميد، ستنام على وسادة من هواء صيفي متبقي، تطوي جناحيها المنجلية حول جسدها الصغير، كأنهما لحاف من الريش والسماء. وحين تغمض عينيها، لا تنسل في نوم عادي، بل تدخل إلى فضاء آخر، تحلّق فيه بأحلامها الشاهقة.
تحلم بالريح، تلك الرفيقة التي تحملها دوما وتداعب أجنحتها.
أو برائحة الياسمين المنبعثة من الشرفات
في حلمها، لا تتقيّد بحدود غرناطة ولا جدرانها القديمة، بل ترى نفسها تقطع المحيطات والبحار دون تعب.
تمر فوق سهول الذهب الإفريقية، حيث يتلألأ العشب تحت أقدام الغزلان، وتستريح للحظة على غصن شوكي، فتسمع أغاني أطفال يلهون بين الأكواخ.
ترتفع، وتجرّها الريح نحو الشرق، حيث الصحارى تلمع مثل مرايا نحاسية، هناك يلمع السراب كأنه نهرٌ من زجاج يجري ولا يُمسك.
تشعر بدفء الشمس على ريشها، ورائحة الزهور البرية تملأ الهواء.
لكنها لا تحلم بالمسافات فقط. أحياناً ترى نفسها تطير بين ذاكرة البيوت. تدخل من نافذة مفتوحة في إحدى ليالي الصيف، وتشاهد امرأة عجوزاً تصلي بصمت، ورجلاً يكتب رسالة حب على ضوء شمعة، وطفلاً يرسم على جدار غرفته سنونوةً تشبهها تماماً.
وفي أعماق حلمها، تتداخل الأزمنة ايضاً:
قد تسمع أصوات مؤذنين قدامى من أبراج الحمراء، تختلط مع دقّات أجراس كنائس بعيدة، وكأنما الذاكرة كلها تعيش في جناحيها.
وربما اخيرا تحلم أيضاً بإنسانٍ يقف كل صباح على شرفة منزله، يبتسم لها ويظن أن تحيته مجرد صدفة، بينما تعرف السنونوة في الحلم: أن طيرانها ليس إلا رسالة صغيرة ستكتبها على الهواء، كي تطمئن قلب ذلك الجار.
وحين يقترب الفجر، يبدأ الحلم بالتلاشي. تستيقظ السنونوة على أول خيط ضوء يزحف بين القرميد، ترفرف قليلاً، وتطير نحو السماء كأنها لم تحلم بشيء.
اذن ربما لم ترحل بعد. ربما هي هناك، في شق القرميد، تحلم حلمها الأندلسي، بانتظار أن يشرق الصباح لتعاود الرقص مع السماء من جديد.
قررت اذن أن أفتح الشرفة غداً مبكراً، لأرى إن كانت ستحييني كعادتها، أو إن كانت قد حملت أحلامها وطارت إلى الجنوب، تاركةً خلفها وعداً بالعودة مع صيفٍ جديد.
لكنني، حين سأراها تقصقص الفضاء من جديد، أُدرك بأني لست وحدي من يحلم في هذه المدينة…