قراءة في خطاب خامنئي بعد خمسين يومًا من الغياب:
سلامُ غزة يتقدّم ودورُ طهران يتراجع
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
بعد خمسين يومًا من الصمت المطبق، خرج علي خامنئي ليكسر الغياب بخطابٍ صاخب النبرة، قليل المضمون. تحدّث عن &"صفعةٍ&" تلقّتها الولايات المتحدة وإسرائيل في &"حربٍ استمرّت 12 يومًا&"، وعن زيارة دونالد ترامب لـ&"رفع المعنويات&"، وسخر من &"ادّعاء تدمير الصناعة النووية الإيرانية&"، قبل أن يختتم بالتشديد على أنّ &"الصاروخ الإيراني هوية الشاب الإيراني&". على السطح، بدا المشهد استعادةً لقاموس القوّة؛ أمّا في العمق، فكان إقرارًا بأنّ نظام وليّ الفقيه يفتقر إلى أوراقٍ جديدة في إقليمٍ تغيّرت قواعد لعبته منذ مسار سلام غزة.
بين لهجة التحدّي وضيق الخيارات
لم يُقدّم خامنئي أيّ مراجعة لثلاثيته المعروفة: النووي&-الوكلاء&-الصواريخ. رسالته الأساسية أنّ هذه الأعمدة ليست موضع تفاوض، وأنّ أيّ حديث عن تقييدها &"تدخّلٌ سافر&". لكنّ المتغيّر هو البيئة: التسويات الإقليمية التي فُتحت أبوابها بغطاء عربي ودولي غير مسبوق، أخرجت طهران من موقع &"اللاعب المُعطِّل&". باتت الأدوات القديمة (التصعيد عبر الوكلاء وتدوير الأزمات) أقلّ فاعلية وأعلى كلفة. وهنا تتبدّى مفارقة الخطاب: كلّما ارتفع صوت التحدّي، اتّسعت فجوة القدرة. فالإقليم يسير نحو ترتيباتٍ أمنية&-سياسية جديدة، وتتراجع هوامش مناورة طهران تحت ضغط العزلة وتآكل النفوذ الميداني. وبدلًا من مراجعةٍ مؤلمة لكنها لازمة، يختار رأس النظام تثبيت المسار نفسه.
جمهورٌ منهك ورسالة للوكلاء
أهمّ مستهدَفٍ بخطاب خامنئي هو القاعدة الداخلية الصلبة التي أصابتها إنهاكاتٌ متراكمة: اقتصاد متداعٍ، تفكّك اجتماعي، وتصدّعات داخل النخبة، إضافة إلى ضربات وحدات الانتفاضة التي تكسر جدار الخوف. أراد الخطاب بثّ &"طمأنة قسرية&" مفادها: القائد حاضر، الهيبة قائمة، والسلاح جاهز، في محاولة لإسكات الأسئلة مؤقتًا.
أما المخاطَب الثاني فهم شبكات الوكلاء في المحيط. أوحى الخطاب بأنّ الهدنات هشة، وأنّ تدفّق &"القدرة&" مستمرّ. لكنّ هذا الرهان يقوم على أمنياتٍ أكثر ممّا يقوم على معطيات؛ فالمزاج العربي والدولي يميل اليوم إلى تثبيت وقف النار وإطلاق مسارات إعادة الإعمار، لا إلى إعادة تشغيل ماكينة الحروب.
قفل باب المراجعة الداخلية وارتدادات سلام غزة
الخيط الثالث في الخطاب هو قطع النقاش الداخلي حول إمكان التراجع التكتيكي أو الانخراط المشروط. أوصل خامنئي رسالة صلبة مفادها: لا تفاوض على الجوهر، محاولًا فرض &"إجماعٍ قسري&" على استمرار النهج، وإسكات أصواتٍ ترى أنّ كلفة المماطلة باتت تفوق العائد.
ليس سرًّا أنّ مسار غزة أطلق سلسلة ارتدادات على &"العمق الاستراتيجي&" الذي استثمرت فيه طهران عقودًا. ففي سوريا، تتكرّس استحالة العودة إلى ما قبل الحرب؛ وفي لبنان، تُقيّد كلفة المواجهة المفتوحة قدرة &"حزب الله&" على إعادة إنتاج &"شرعية السلاح&"؛ وفي العراق واليمن، تتزايد مؤشرات &"التعب&" لدى الفاعلين المحليين مع تضاؤل القدرة الإيرانية على التمويل. هكذا، تحوّل &"العمق&" إلى عبء، وباتت طهران تتحرّك من خلف المعركة بدل التقدّم في صفوفها.
الإعدام كسياسة: ترهيبٌ عاجز والمقاومة تتقدم
في الداخل، يواكب النظام هذا الانكشاف الخارجي بسياسةٍ أكثر خشونة: إعداماتٌ يومية لبثّ الخوف ومنع التفكير في انتفاضةٍ جديدة. لكنّ التجربة تُظهر أنّ المقصلة لا تصنع شرعية؛ هي تؤجّل الانفجار وتُراكم الغضب، وتجد وحدات الانتفاضة مادةً إضافية لتعرية صورة السلطة أمام مجتمعٍ يزداد ضيقًا.
بالتوازي، تواصل المقاومة الشعبية المنظّمة بناء شبكاتها وخبرتها الرمزية. أثبتت وحدات الانتفاضة أنّها قادرة على تثقيب جدار الخوف وإبقاء القضية حيّة في الفضاء العام. ومع كلّ خطابٍ يَعِد بالمزيد من القبضة الحديدية، يترسّخ لدى قطاعاتٍ أوسع أنّ الإصلاح من داخل المعادلة الراهنة غير ممكن.
سيناريوهات اليوم التالي: حدود القوّة والضجيج بلا أثر
خارج إيران، يُقرأ خطاب خامنئي بوصفه وثيقة عنادٍ مكلّف. العواصم المعنية ترى أنّ طهران ليست في وارد تقديم مقايضة حقيقية، وتفضّل البقاء في &"منطقة رمادية&". غير أنّ ديناميات المنطقة لا تمنح مكافآتٍ للمُعطِّلين
أمام النظام ثلاثة مسارات، جميعها وعرة:
التصعيد المدروس: رفع السقف النووي والصاروخي وتحريك الوكلاء، مما يؤدي إلى عقوباتٍ أشدّ وعزلةٍ أعمق.
القبول المشروط: اختبار صفقة نووية&-إقليمية تتضمّن تقييد الأذرع، مما يُهدّد ركيزة السردية الحاكمة ويفتح تصدّعاتٍ داخلية أكبر.
إطالة الوقت: مفاوضاتٌ بلا أفق وكسبُ أيام، لكنّ البيئة الإقليمية المتحوّلة تجعل كلفة المماطلة أعلى من طاقة الاقتصاد والمجتمع.
أراد خامنئي أن يقول إنّ القوّة باقية، الردع حاضر، والهوية لا تُساوَم. لكنّه قال فعليًا إنّ النظام يفتقر إلى خطةٍ بديلة، وإنّ الخطّ المستقيم الذي يسير عليه يقود إلى حافةٍ يعرفها الجميع: مزيدٌ من التشدد في الخارج يقابله مزيدٌ من التصدّع في الداخل. وحين تصبح المعادلة صفرية — لا مساومة ولا قدرة على فرض الشروط — تتحوّل &"الرسائل&" إلى ضجيجٍ بلا أثر. يتّضح أنّ الزمن يعمل ضدّ استراتيجية النظام لا معها، وكلّ يومٍ إضافي يُستهلَك في الخطابة والقمع يقرّب اللحظة التي تُصبح فيها المعادلة واضحة للجميع: إمّا مراجعةٌ مؤلمة تفتح باب السياسة، أو انفجارٌ داخلي تكتبه حقائق الميدان لا عبارات المنابر.