هل المكيافيلّية مقبولة؟!
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
في منفاه في ريف توسكانا الإيطالية سنة 1513، ألّف نيقولا مكيافيلّي كتابه الشهير "الأمير".
لقد قدّمه مكيافيلّي هدية لأمير فلورنسا لورينزو دي مديتشي، سليل عائلة مديتشي ذائعة الصيت، وعرّابة العلوم والآداب والفنون، والتي أسهمت في صناعة عصر النهضة في إيطاليا، ثم في كل أوروبا لاحقاً.
أحدث هذا الكتاب نقلة نوعية في كل المفاهيم والأخلاقيات السياسية، التي كانت معروفة آنذاك.
لقد شبّه الكثيرون الأثر الذي أحدثه هذا الكتاب في العلوم السياسية، بالأثر الذي أحدثه كريستوفر كولومبس في العلوم الجغرافية، بعد اكتشافه العالم الجديد!
لم يكن كتاب "الأمير" مجرد مؤلَّف في فن الحكم، بل لحظة تحول تاريخي حقيقي في الفكر السياسي الأوروبي.
وبخلاف ما كان سائداً في تلك الحقبة من تقاليد دينية وتعاليم كنسية، فقد جاء مكيافيلّي ليضع السلطة أمام معطى جديد لم تعهده من قبل، أمام مرآة الواقع لا المثال، أمام الحقيقة لا الخيال؛ لقد أراد مكيافيلّي أن يرى الأمير العالم كما هو، لا كما ينبغي أن يكون.
لقد أشار إلى أنه &"أن تكون مهيباً أكثر أمناً من أن تكون محبوباً&".
وبحسب مكيافيلّي، فالناس يحبون على هواهم، ويخافون على هوى الأمير.
وكان أشد قسوة حين أشار إلى أنه حين يكتسب الأمير سلطة بالقتل أو الخيانة، فمن الضروري أن يقتل كل ذرية الحاكم السابق، وإلا فإن البقية سيشكلون خطراً مستمراً على حكمه. هذا الخطر في رأي مؤيدي مكيافيلّي قد يعني حروباً أهلية لا نهاية لها، وبتكلفة باهظة قد تفوق تكلفة القضاء على ذرية الحاكم السابق!
الفعل هنا قاسٍ جداً، لكنه ضروري لتحقيق استقرار الدولة؛ لأن السياسة في نظريته لا يمكن أن تقوم على الأخلاق وحدها.
لقد قدّم مكيافيلّي الأساس المبكر لما سيُعرف لاحقاً بـ"المدرسة الواقعية في علم السياسة".
لقد فكّك وهم أن الدولة يمكن أن تُدار بالمُثل العليا وحدها، كما أنه فصل بين الأخلاق الخاصة والأخلاق السياسية. وهي قراءة عبقرية في الفكر السياسي عند مكيافيلّي.
أحدث الكتاب جدلاً أخلاقياً حاداً، فقد رأى فيه رجال الدين فصلاً بين الأخلاق الدينية وإدارة الحكم، حتى إن اسمه تحوّل في الأدبيات الأوروبية إلى مرادف للمكر والخديعة والدسيسة "المكيافيلّية".
وجادل آخرون بأن رؤيته للحكم تنتج قائداً بارعاً في السلطة لا في الإصلاح، في الحكم لا في مصالح الشعب، في حين رأى المدافعون عنه بأنه لم يخترع القسوة، بل وصفها ولم يوجد الشر بل قلل منه.
لقد رأى مكيافيلّي أنّ من أراد أن يصنع فرقاً فعليه أن يتخلى عن وهم الكمال، وأن الناس لا يقادون بالمثال وحده بل بالخوف، وأن القائد الذي يسعى لأن يُحب فقط سينتهي به المطاف مكروهاً! أما من يسعى لأن يُخشى فسيحظى على الأقل بالاستمرار.
قد تكون فلسفة مكيافيلّي دعوة للقسوة والظلم، أو قراءة واقعية لطبيعة السلطة، لكن ومن خلال تأكيده على القوة والهيبة، يقدم "الأمير" رؤية صادمة للبعض، لكنها تظل مرجعاً أساسياً لفهم آليات السلطة والسياسة في كل العصور.