فضاء الرأي

الطوق الأمني حول القدس: مؤقت اليوم دائم غدًا؟

مستوطنة يهودية في القطاع الشرقي من القدس
قراؤنا من مستخدمي تويتر
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك

دخل المشهد الميداني حول القدس مرحلة جديدة من التشدد الأمني لا تقتصر على إجراءات مؤقتة عقب حادث أمني، بل تبدو كخطوات متسلسلة تُمهد لتحويل السيطرة الميدانية إلى بنية دائمة تفرض على السكان نمطًا جديدًا من العزل والتحكم.

هذا الانطباع يتأكد عندما نُمعن النظر في نصب الحواجز الحديدية الجديدة، ونقاط التفتيش الإضافية، وإعادة تنظيم مسارات العبور بما يؤدي إلى طول زمن التنقل وتعقيد الحياة اليومية للسكان الفلسطينيين في القرى المحيطة.

وفي عطلة هادئة ظاهريًا قد يأتي القرار الأمني مفاجئًا: تركيب بوابات حديدية عند مداخل القرى، إغلاق مسالك فرعية كانت تتيح تجاوز الاختناقات، وتحويل خطوط سير مألوفة إلى متاهات بيروقراطية تتطلب تصاريح عبور جديدة أو تعديلًا في فئات المستفيدين. والنتيجة المباشرة أن جولة التسوق أو الذهاب إلى المدرسة أو التوجه إلى المستشفى تتحول لمهمة تتطلب حسابات زمنية ومخاطرة باحتمال الرفض أو التأخير من قبل عناصر التفتيش، وهذه التحولات المكانية ليست فقط عمليات مؤقتة وإنما تغير فعلي في خارطة الحركة.

أيضًا، تأثير القيود على التنقل يمتد سريعًا إلى الاقتصاد المحلي، من تجار يواجهون صعوبات في نقل البضائع، وموظفين يتأخرون عن دوامات عملهم، وطلاب يضطرون للتغيّب أو لتغيير جداولهم لأن التنقل لم يعد مسألة مسافة فقط بل مسألة تصاريح وانتظار. كما أن التكلفة المضافة على الوقت والنقل ترتفع، وتضع عبئًا اقتصاديًا ينعكس على مستوى المعيشة ويقلص هامش الصمود للأسر التي تعتمد على الدخل اليومي أو على وظائف مرتبطة بالقدس. وهذه المعوقات المتكررة تعمل كقوة معوقة للنشاط الاقتصادي المحلي وتدفع بنسب البطالة والافتقار الأمني إلى الارتفاع.

ووفقًا لما ذكره موقع "ميدل إيست بوست" فإن إجراءات الاحتلال لم تقتصر على إقامة الحواجز بل شملت إعادة تنظيم طرق العبور وإغلاق بعض المسالك الجانبية التي كان الأهالي يستخدمونها لتجنب الازدحام والتفتيش المطول وهو ما أدى إلى إطالة زمن التنقل وتعقيد الحركة بشكل أكبر مما كانت عليه في السابق. فالمشهد الأمني على الأرض لا يمكن فصله عن المسارات السياسية، ففي كثير من الحالات تُعلن السلطات أن الإجراءات "مؤقتة" لحين تهدئة الأوضاع، لكن تكرار نصب الحواجز وتثبيت بوابات تُفتح وتغلق حسب ما تقتضيه الحاجة يترك أثرًا دائمًا في نفس السكان، والخوف الشعبي أن تتحول ما كان استثناءً إلى قاعدة—أي ما بدأ كرد فعل أمني يتحول مع الزمن إلى بنية تحتية متواصلة تُعيد رسم الحدود على الأرض. ومن يعيش وراء هذه الحواجز يراقب التحولات بعين خبيرة: ما الفرق بين حاجز يُستخدم لأيام بعد حادث وممر تم تحويله إلى بوابة دائمة؟ الحدود بين الاستجابة المؤقتة والسياسة الدائمة تتلاشى.

ويثير هذا التثبيت المحتمل لحواجز الحركة والأسوار تساؤلات جدية حول التوافق مع مبادئ القانون الدولي الإنساني، لا سيما معايير حماية المدنيين وحرية الحركة في الأراضي المحتلة. فهناك مؤسسات دولية وأنظمة رصد توثق أن فرض قيود مزمنة على حرية التنقل قد يصل إلى مستوى يؤثر على الحقوق الأساسية مثل التعليم، والصحة، والعمل، ويجعل من الإجراءات الأمنية مبررًا لسياسات تمييزية على الأرض. ومن ثمّ يصبح السؤال القانوني محوريًا: متى تتجاوز التدابير الأمنية حدودها المبررة وتتحول إلى عقوبة جماعية تقوض الحماية التي يضمنها القانون الدولي للسكان المدنيين؟

وعلى المستوى الميداني، تُقرأ هذه الخطوات كجزء من شبكة أمنية أوسع من حيث مراقبة مكثفة ومداهمات متواصلة ونظام تصاريح مشدد يتم فيه تقليص الفئات المؤهلة وتقصير مدد التصاريح أو إلغاؤها من دون إيضاح. وهذا المزيج يولد شعورًا بعدم الاستقرار اليومي؛ فحتى بعد أي اتفاقيات لوقف النار أو تبادل أسرى، يستمر وجود الشرطة والجيش الإسرائيلي في الأحياء، ويستمر فرض قيود على الاحتفالات والتجمعات وإلزام عائلات بتسليم كفالات مالية لمنع أي مظاهر جماعية، لهذا فإن الهدوء الظاهري لا يعني بالضرورة عودة الحياة إلى طبيعتها.

وثمة من يبرر هذه الإجراءات بضرورة منع عمليات تسلل أو هجمات محتملة، وهي حجة لها منطق أمني لا يمكن تجاهله بصورة كاملة، لكن المنطق نفسه يجب أن يخضع لمعايير الانضباط والقياس: هل الأدوات المستخدمة دقيقة أم أنها عامة وتُلحق بالمدنيين أضرارًا تفوق نفعها في الميدان؟ عندما تصبح الحواجز أداة شبه دائمة، تفقد الإجراءات طابعها الاستثنائي وتُستبدل بسياسات تُغير من بنية الحياة اليومية. والسياسة الأمنية الرشيدة يجب أن توازن بين حماية المدنيين ومنع المخاطر، وبين الحفاظ على حقوقهم الأساسية وعدم خلق بيئة من الإحباط المزمن التي قد تؤدي إلى نتائج أمنية معاكسة.

وإذا تحدثنا عن المخاوف السياسية والاجتماعية، فهي تتغذى من وقائع ملموسة كعزلة قرى عن شريان المدينة تعني تراجعًا في الخدمات، وفقدانًا لفرص العمل، وتصدعًا للنسيج الاجتماعي مع مدن تصبح بعيدة جغرافيًا واجتماعيًا. وهذا العزل لا يؤثر على الأفراد فقط بل على المؤسسات الصغيرة والأسواق المحلية التي كانت تعتمد على تبادل مستمر مع القدس، ومثل هذا الانكماش الاقتصادي يعكس وجهًا آخر من العدوان: ليس بالأسلحة فقط بل بإفقار الحضور الاجتماعي والاقتصادي.

وفي النهاية، تتحول المسألة أيضًا إلى اختبار لقدرة المؤسسات الفلسطينية على الدفاع عن حقوق سكانها، فالسلطة الفلسطينية غالبًا ما تتخذ مواقف تميل إلى الحذر خوفًا من أن يؤدي أي تصعيد إلى تفكك أمني أوسع، وسط غياب آليات فعالة للطعن القانوني أو الضغط السياسي الدولي والذي يعطي انطباعًا بأن المجتمع المدني وحده هو من يدفع فاتورة التصعيد، في حين أن قنوات الضغط الدبلوماسي تبدو أحيانًا عاجزة أو مشروطة بموازنات سياسية أوسع.

بالرغم من ذلك، لا ينبغي إغفال البعد النفسي والاجتماعي، فالحواجز والبوابات لا تقطع الطرق فحسب، بل تزرع الشعور بالوصم والآخرية، من حيث الشباب الذين يتعرضون للتفتيش والاحتكاك الأمني المتكرر يتراكم لديهم شعور بالقهر والغضب، وهذا قد يخلق بيئة خصبة للتطرف أو للردود العفوية التي قد تقع بسهولة في فخ العنف الذي يُبرر مزيدًا من الإجراءات الأمنية والسياسة الأمنية التي لا تراعي البعد الإنساني قد تخلق دورة عنف مفرغة يصعب كسرها.

وإزاء هذا الواقع، يبرز سؤال عملي: ما الذي يمكن فعله لتفادي تحول السياسات المؤقتة إلى بنية دائمة؟ فهناك إجراءات واقتراحات قد تُقلل من احتمالات الانزلاق: توثيق مستقل ومنهجي لكل تركيب لحاجز أو بوابة، تعزيز قنوات الشكاوى القانونية أمام محاكم دولية أو مؤسسات حقوقية، وفتح حوار دبلوماسي مُحمّل بأدلة ميدانية واضحة تُعرّي آثار العزلة. كما يمكن للمجتمع المدني المحلي والدولي أن يعمل على حملات توعية تضغط إعلاميًا على صُناع القرار لعرض بدائل أمنية تراعي احتياجات السكان المدنيين.

وفي ختام الصورة القاتمة، يبقى أمل السكان معلقًا بمدى قدرة الوسطاء الدوليين والحقوقيين والضغط الشعبي على فرض معايير تحد من تشديد القيود، وإلا فإن استمرار تثبيت الحواجز سيعيد تشكيل مشهد القدس بطريقة قد تصبح فيها الحركة والوصال بين المدينة وقرى محيطها أمرًا يستحق مقاومة قانونية وسياسية طويلة ومضنية. فالمشهد اليوم متأرجح بين تهدئة شكلية ومسارات ميدانية تعمل على تقنين عزل دائم—ومن يعيش خلف هذه البوابات يعرف أن الفاصل بين المؤقت والدائم قد لا يحتاج إلى سنوات طويلة ليصبح أمرًا واقعيًا لا يمكن قلبه بسهولة.

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف