خبز المدينة الحلقة الأخيرة (12)
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
الحلقة الأولى / الثانية / الثالثة / الرابعة/ الخامسة / السادسة / السابعة / الثامنة / التاسعة / العاشرة / الحادية عشرة
احضر ابطال العرض الريف المصري بمشاكله ونماذجه وبيوته الى طرابلس، ووضعوه امامكم فوق خشبة مسرح الهامبرا، حيث ينقسم المجتمع هناك الى باشاوات يملكون الارض والرقاب، وفلاحين معدمين فقراء، يخدمون هؤلاء الاسياد. وداخل هذه الهوة التي يصنعها التفاوت الطبقي، نشأت قصة الحب المستحيل الذي تتحدث عنه المسرحية بين ابن الباشا وفتاة تنتمي الى طبقة الخدم. وكان لابد للقوانين الظالمة الجائرة التي تحكم المجتمع ان تنتصر وتحقق انتقامها من مثل هذا الحب. لقد اثمرت العلاقة الغرامية بين ابن الباشا والخادمة جنينا بدأ يتحرك في بطن العاشقة المسكينة، ولانه من المستحيل ان تترك اسرة الباشا ابنها يتزوج من هذه الخادمة، فكان لابد، درءا للفضيحة من البحث عن ضحية من ابناء الفلاحين المعدمين يرغمونه على الزواج منها. وصكت اذنيك جملة كانت تتكرر في الحوار اثناء رسم المؤامرة والباس الفضيحة
للفتى الفقير هي:
- هذا ما يريده الباشا الكبير.
وتذكرت تسمية مختار العساس للمارشال بالبو، بالباشا الكبير، ولم يكن صعبا ان ترى بالبو في صو رة هذا الباشا الذي يرسم المؤمرات ويصدر الاوامر فلا يجد الا الطاعة والتسليم بما يقول، وان ترى نفسك في دور هذا الفتى الفقير الذي يريدون امتهان كرامته وتزويجه المرأة التي قام احد ابناء الباشا بثلويتها وانتهاك انسانيتها ويريد ان يبقيها في دور العشيقة بعد ان تتزوج الفلاح التعيس. ووجدت نفسك فجأة تشعر برعشة تهز جسمك هزا عنيفا. لا. لن تكون هذا الفلاح المخدوع، المقموع، ولن تقف موقفه الدليل الحقير. احسست بالغثيان. كانت امعاؤك تتحرك بقوة في جوفك، وتصل الى حلقك، وجاء اللعاب الحامض المر يملأ فمك. تركت الصالة فجأة و خرجت تعدو الى الشارع. اتجهت الى ركن مظلم، ترمي فيه بالقيء الذي يملأ فمك وحلقك ويكتم على انفاسك. احسست بالارتياح وانت تقف قريبا من دار العرض تستعيد انفاسك، وتملأ رئتيك بالهواء شهيقا وزفيرا. اتجهت راجعا الى دار العرض، ودلفت من الباب الرئيسي الى حيث السلالم الموصلة الى الطابق العلوي، لكي تستأنف مشاهدة المسرحية، الا انك بعد ان وضعت قدمك فوق اول العتبات توقفت، واستدرت عائدا. تركت دار العرض وواجهاتها المضيئة، كما تركت ميدان ايطاليا وضجيج دكاكينه وعرباته وسياراته وعدت الى الشوارع المعتمة، الخاوية، والى فندق الكبران، وصعدت الى غرفتك، ودون ان تضيء النور، ارتميت بكامل ملابسك فوق السرير، وطفقت تبكي.
كنت تعرف ان تلك هي نهاية العلاقة مع حورية.
وانك قد لا تراها مرة اخرى.
كنت تتمنى وانت تلتقي بها منذ ساعات قليلة مضت، بعد اسبوعين من الغياب، ان تكون قد تراجعت عن فكرة عقد هذه الصفقة معك، الا انك وجدتها اكثر اصرارا وتصميما، وترى ان العشرة ايام القادمة هي المدى الاقصى الذي يجب ان تتم خلاله الصفقة، ورأت في مجيئك الى بيتها علامة على ان كل شيء بينكما يمضي وفق الخطة المرسومة. كنت وانت تركب معها السيارة تدرك ان الاشياء تصل الى خواتيمها، لانه لم يعدهناك مجال للارجاء والمماطلة، ولم تكن تحتاج الا لذلك الموقف المسرحي، الذي جسد بلغة الدراما ومفرداتها القوية وحمولتها العاطفية البالغة التأثير، حالة تشبه حالتك، تجسيدا حيا، بالممثلين والحوار والديكور، لتعرف ان العلاقة قد وصلت الى نهايتها. لم يكن ممكنا ان تستمر في لعب دور الفتى الساذج الذي لا يفهم ما يدبر له وما يدور حوله، او الحائر الذي يحتاج الى بعض الوقت كي يصل الى اليقين. كنت منذ البداية تعرف ان هذه المهمة ليست لك، وانت لست لها. الا ان ولعك بحورية هو الذي جعلك تمد حبل المماطلة والتسويف الى حده الاقصى، وها قد وصل الحبل الى نهايته، وحانت اللحظة التي تخافها وتخشاها.
علاقتك بحورية كانت اجمل شيء طرأ على حياتك منذ ان جئت الى هذا الوجود، وما حدث لهذه العلاقة من تطور اوصلها الى تلك اللحظة الحميمة التي منحتك فيها نفسها، كانت ابدع هدية وهبتها لك ملائكة النور والفرح. لقد ارادت حورية ان تذيقك طعم تلك الفراديس، لكي لا تتحرر من سحرها ابدا، وها انت مسحورا بها ماتزال، مفتونا بجمالها السماوي، تفارقها، بينما كل خلية في جسمك، تهتف باسمها، وتتحرق شوقا للالتقاء بذلك الاريج المسكر الذي لم تفارقه الا منذ لحظات مضت، مدركا انك ستحرم منه مدى الدهر.
واصلت بلا روح ولا حماس، العمل في قسم الشكاوى، الذي بدا واضحا، وخلال فترة غياب الحاكم العام، ان لا احد من اعضاء ادارته، يريد هذا المكتب، او يتحمس لحل مشاكل هؤلاء البؤساء الذين يقصدونه.
كنت تعرف ان فكرة انشاء المكتب، نبتت في رأس حورية التي وضعتها في رأس المارشال، واذا كانت قد رأت فيها وسيلة لرفع المعاناة عن بعض المواطنين، فان ذلك لم يكن وحده الهدف، لان الهدف الاول والاساسي لديها، كما افهمتك، هو ان تجد لك وظيفة في قصر الحكومة، تسهم في تأهيلك للاقتران بها، ها قد تقوضت هذه الركيزة الرئيسية التي شيد فوقها مكتب الشكاوى، ولم يبق الا ان يتقوض المكتب نفسه، تبعا لذلك، فانسحابك من صالة المسرح، لا يعطي الا تفسيرا واحدا، هو انسحابك من البرنامج الذي عرضته عليك، ورفضك له، الا ان التعبير عن هذا الرفض، جاء تعبيرا سمجا، سقيما، لا يليق استخدامه مع امرأة مثل حورية، لا تعامل الناس جميعا الا بارقى ما يتيحه السلوك الحضاري من ذوق ورقة وتهذيب، ولذلك رأيت ان تكتب لها رسالة اعتذار، الا ان الرسالة، بعد ان فكرت قليلا، وجدتها لا تفيد، لان حورية لن تتمكن من قراءتها، ولن تستطيع في ذات الوقت ان تدع احدا يقرأها لها، خشية افشاء سرها. ربما كان الهاتف هو افضل وسيلة لابلاغها اعتذارك، الا ان الهاتف يحتاج الى قلب شجاع يستطيع ان يواجه حورية ويصارحها بموقفه، وهو قلب لا تملكه، لانك مازلت ضعيفا حيالها، لا يأتي ذكرها، اويمر في خيالك طيفها، الا روادتك رغبة حارقة في البكاء.
تركت الامور تمضي في روتينها اليومي، دون ان تفعل شيئا سوى قراءة سورة الاخلاص الف مرة، لتحارب بها غول "التابعة" الذي يلاحقك ويفسك عليك حياتك. وتضاءلت الحشود التي جاءت مع بداية فتح المكتب، بسبب وجود الحاكم العام في اجازة، فهم يريدون شكاواهم، ان تصل الى المارشال ليبث فيها، ولم تشأ انت ايضا ان تكون اقل ثقة من الجمهور في سيادته، فاهملت النظر في كل ما يأتيك من اوراق، الى حين عودته سالما من ايطاليا.
انكفأت على نفسك فلم تتواصل مع احد، ولم تجد لديك رغبة في زيارة من وعدتهم بالزيارة، مثل نورية في سيدي عمران، او الحاج المهدي واسرته في بيتهم الجديد، ولا حتى الذهاب الى وكالة الشوشان لتسقط اخبار الاهل في اولاد الشيخ. اكتفيت بالمشوار الروتيني الى المكتب، دون ان تطيل البقاء فيه، واستقبال بعض من يقصدك من اصحاب الشكاوى في المكتب والفندق، والاستماع الى افكار الكبران الخيالية التي لا يستهدف من ورائها الا تصحيح واصلاح الاوضاع المائلة في حياة الجنس البشري، واقتراحه القديم الذي يقضي بضرورة انقاذ كنوز اطلنطيس، الذي يمثل هاجسا بالنسبة اليه، ما يفتأ يعود اليه بين الفينة والاخرى، وقد اغاظه كثيرا ما قوبل به من اهمال من قبل السلطات العليا، الا ان هذا الاهمال لم يمنعه من تقديم اقتراح جديد، يراه اكثر عملية وجدوى لاهل البلاد، يريد ان يعرضه على حاكم البلاد، لكي يبدأ في تنفيذه فورا ودون اضاعة مزيد من الوقت، وهو تعمير الصحراء واعادتها الى سابق عهدها عندما كانت حقولا وغابات وثروات حيوانية ومائية وارضا صالحة للزراعة والاستثمار. ولكي تريح المخ من مواضيع اخرى تضغط عليه سألته ضاحكا:
- وكيف يتحقق ذلك ان شاء الله.
- المسألة بسيطة جدا، جدا، جدا. وما عليك الا تقديمي لسيادة المارشال بالبو لاشرح له بنفس كيف يبدأ في تحيق هذا الحلم الذي يراود قلوب البشر، جيلا بعد جيل.
- احتاج الامر الى اكثر من عشرين الف عام، لتصبح الصحراء صحرا، فماذا ستفعل لتعيدها الى سابق عهدها في وقت قصير؟
- لن يحتاج الامر الا الى عدد من الات الحفر العملاقة، التي يصنعها الايطاليون في معاملهم، تباشر حفر قنوات من البحر الى عواصم الصحراء، لاستخدامها شبكة مواصلات بحرية، هل رأيت. سنعيد بها تجارة القواقل بشكل عصري حضاري، يوفر السرعة ويضاعف حجم التجارة مئات المرات، ونربط بها اطراف البلاد، ومن ناحية ثانية فان هذه المياه الكثيرة التي تعبر الصحراء سوف تبدأ في تغيير المناخ عندما تمتليء الصحراء بالابخرة التي تصنعها المطر، وفي غضون سنوات قليلة سنشهد جميعا كيف تصير الصحراء جنة باذن الله.
واثناء ذلك يمكن ان نقيم احواضا في الصحراء لتربية السمك تقضي على المجاعات التي يعاني منها اهل البادية، وإنشاء المراعي التي تروي بمياه البحر لتربية مواشيهم.
- تريد ان تنشئ المراعي والحقول بماء البحر.
ـ ولما لا. قد لا تعلم انه يوجد غابات في اعماق البحر اكبر واعظم من كل الغابات التي تسمع عنها، وبها من الاشجار والنباتات والاعشاب ما يفوق ماهو موجود منها فوق الارض، فهل هذه الغابات تعيش على مياه الامطار، الا تتغذي هي ايضا من مياه البحر، فكيف لا يمكن ا ستنبات مثلها فوق الارض.
- تعرف ان مستوى سطح الارض يرتفع كثيرا عن مستوى سطح البحر، فما العمل؟
- وهل هذه مشكلة؟ مجموعة من طواحين الهواء، مائة،الف، خمسن الف ان شئت، فهي لا تستهلك وقودا ولا تكلف نقودا، ترفع الماء الى مستوى احدى الهضاب المطلة على البحر، لينطلق منها بطريقة انسيابية فلا ترده الا جبال النيجر خارج الحدود.
كان قد صادر منك الحاكي لاستخدامه في الفندق، مقابل ان يعفيك من دفع اجرة الغرفة لمدة عام، وهو ما يوازي ثمن الحاكي، جديدا. صفقة رابحة بالنسبة لك، خاصة وانت تمر بهذه المرحلة القلقة التي لا يبدو فيها شيئا واضحا ولا توحي بالثقة فيما ستحمله لك الايام، فلا اقل من ان تضمن لنفسك منذ الان، هذه الغرفة، التي تريحك عاما كاملا من هم التفكير في تدبير اجرتها.
يراك الكبران شاردا، لا تتابع افكاره التي يعتقد اعتقادا جازما بانها تؤسس لواقع جديد سعيد للبشرية جمعاء، فيقول معاتبا:
- ما اقوله كلام علمي، ولكن عقول الليبيين للاسف الشديد تكره العلم والتفكير العلمي، بمن فيهم انت، لانني لا اري حماسا منك لمشروعي الذي سيغير وجه الحياة فوق الارض.
- ومن ادراك اننا نريد تغيير وجه الحياة فوق الارض او تحتها.
- انني لا امزح و اقول لك جادا ان الله خلق الانسان واعطاه العقل، وجعل لهذا العقل ثلاث مناطق في المخ، منطقة في الجزء الخلفي من الرأس مسئولة عن الابتكار وانتاج الافكار، ومنطقة في وسط الرأس مسئولة عن التخطيط الذي يضع الاسس والخطوات اللازمة لتنفيذ هذه الافكار، ومنطقة في مقدمة الرأس مسئولة عن التنفيذ ومباشرة الحياة اليومية. الا ان الله اراح الليبيين من مطقتين عقليتين من هذه المناطق الثلاث، اراحهم من العقل الذي ينتج الافكار، والثاني المعني بالتخطيط، ولم يترك لهم الا ذلك الجزء الذي يباشر الامور عند وقوعها ولا يقوى على فعل شيء سوى ردود الافعال، ولذلك فان الامل ضعيف في ان يصبحوا بشرا كبقية البشر.
- الست انت ايضا احد هؤلاء الليبيين.
- اليك مقياس لا يخيب في اختبار ليبية الليبي، اذا قال لك فكرة جديدة فتأكد ان في تكوينه عنصرا اجنبيا، وانا لست استثناء من هذه القاعدة، الا انني لا ادري الى اي عنصر اجنبي انتمي.
-ـ انت تهاجم الليبيين لانهم لا يؤمنون بافكارك الخيالية.
- رغم احترامي للخيال الا ان ما اقوله ليس خيالا وانما مشاريع مكتملة تنتظر التنفيذ.
وبدأ اعضاء شلته يهلون واحدا بعد الاخر. قال الذي جاء اولهم وسمع جزءا من الحوار:
- لا نريد هذه الافكار مهما كانت عظيمة لانه لن يستفيد من تعمير الصحراء الا الطليان.
وطالب صديق ثان بسماع صوت الحاكي، فهو وحده الذي يقول كلاما اجمل من كل ما نقوله من كلام، ثم بادر الى وضع الاسطوانة في الجهاز، فانطلق صوت الانسة ام كلثوم ينشر المرح وايشذو بجمال الموسيقى والغناء:
- على وطني المحبوب وديني.
فارتفعت اصوات الحاضرين تردد مع المطربة مقاطع الغناء، بينما عدت انت الى التهويم في عوالمك الخاصة، تمارس لعبة الترقب والتوجس لما ستأتي به الايام، مستفيدا من هذه الميزة التي وهبها الله لكائناته من الليبيين، كما يقول الكبران، عندما اراحهم من عناء التخطيط وابتداع الافكار، وجعلهم يتصرفون وفق ما تأتي به الاحداث والايام، مدركا بطبيعة الحال ان الاحداث لن تمضي في مسارها المألوف، وان هناك وقائع جديدة مرشحة للظهور في حياتك عليك ان تهيء نفسك لاستقبالها.
ولم تتأخر هذه الوقائع كثيرا، فبعد ايام قليلة من عودة الحاكم من اجازته، واثناء وجودك في المكتب، تباشر اعداد التقارير عن الحالات التي سترفع اليه، وقف امام بابك رجل ضخم الجسم، يرتدي البذلة العربية الكاملة، بالصديري والعباءة البيضاء والطاقية الحمراء التي يتدلى منها زر الحرير الزرق، وفوق العباءة وضع برنسا فاخرا، زيتي اللون، رغم ان الطقس لم يكن يستدعي وجودالبرنس، الا انه لزوم الوجاهة والابهة، وفي يده عصا من الخشب البني اللامع وسبحة من الكهرمان وخاتم بفص كبير يلمع في احد اصابع يده، وقد ظهرت له لحية اختلط بياضها بسوادها، زادته مهابة ووقارا، وقبل ان تقف لاستقباله وسؤاله عن الخدمة التي يريدها منك، انطلق رجل ضئيل الحجم، مسحوب الوجه كالجرد، يرتدي بذلة افرنجية شهباء كثيرة التجاعيد، يسبقه لدخول المكتب، قائلا بصوت اشبه بالصراخ:
- الكومندان بشير بيك الغرياني.
دخل الرجل المهيب الى المكتب مختالا، ووقف يدير بصره في جدرانه الاربعة، ودون ان يلقي التحية خاطبك بلهجة تحمل معاني الدونية والازدراء:
- هل انت من يسمونه عثمان الشويخ؟
لم تدر كيف تجيبه، فآثرت السكوت. لم يكن اسم الرجل غريبا على مسامعك، فهو احد كبار الاعيان ممن تربطهم بالادارة الايطالية علاقة شديدة الخصوصية.
- ما الذي تفعله هنا؟
القى في وجهك بهذا السؤال الذي كان من حقك انت ان تتوجه به اليه، الا انك كتمت غيظك، واضعا في الاعتبار فارق السن بينك وبينه.
- اعمل هنا في مكتب شكاوى المواطنين.
- منذ متى تعمل في هذا المكتب؟
- منذ شهر وبضعة ايام.
- واين كانت الشكاوى واين كان المواطنون قبل هذا الشهر؟ هل ظهروا فجأة من تحت الارض، ام ان هناك قصرا هو قصري في الشارع الغربي،
ظل على مدى الاعوام يستقبلهم ويحل مشاكلهم.
ودون أي اثر للانفعال، وبلهجة هادئة، باردة، قلت له:
-ـ سيادتكم تعلمون جيدا بانني لم اقم بتعيين نفسي في هذا المكان، ولم افتح قصر الحكومة عنوة وافتح فيه مكتبا اديره لحسابي الخاص، وان هناك مسئولا في هذا القصر يمكن لمن لا يعجبه الحال ان يتفاهم معه.
فقال مغضبا:
- لقد تفاهمت معه وانتهى الامر. سيتولى فوزي الجلوس في هذا المكتب واحالة ما يرد من شكاوى وعرائض لي، لاتولى النظر فيها، لانني ادرى بشئون الاهالي من الحاكم العام نفسه. ورأفة بك سابقيك تعمل بالمكتب، شرط ان تلتزم بالتعليمات التي يصدرها لك فوزي.
- انني لا اتلقى اوامري منك ولا من تابعك فوزي، وانما من المسئولين في هذا القصر.
كنت تريد ان تطرده من المكتب هو الجرد الصغير الذي معه، الا انك تعلم على وجه اليقين ان الرجل مدفوع من جهة ما لكي يتصرف بهذا الاسلوب، ويقول هذا الكلام، فهو لا يتكلم من فراغ، ولاشك ان اية معركة تفتحها معه ستخرج منها خاسرا، فلا ضرورة لاعطائه نصرا رخيصا. تركت له المكتب وذهبت الى رئيس القلم الاداري، تقتحم عليه مكتبه، وتسأله في لهجة حانقة ان يحميك من تسلط رجل جاهل لا يعرف الاصول ولا يحترم قرارات الحاكم العام ولا يعطي لهذا المكان حرمته، اسمه بشير الغرياني.
خرج الرجل من رواء مكتبه، يحذف جسمه نحو الشمال ثم اليمين، يسأك ان تهدأ، وتريح اعصابك، وامسك بيدك يقودك للجلوس على المقعد، ويطلب لك مشروبا باردا:
- ليبيا كلها تعرف عصبية بشير بيك. الا انه رجل ابيض القلب، فلا تغضب منه، واعتبر كلامه لك، كلام اب يخاطب ابنه. فهو ساخط ثائر، لان الحاكم العام انشأ مكتبا للشكاوى دون علمه، وهو الذي كان يتولى، وبشكل غير رسمي، استقبال شكاوى المواطنين الليبيين، ولكي لا يجعل الموضوع قضية خلافية، اقترح عليه الحاكم العام ان يزورك ويتفاهم معك على كيفية ادارة المكتب تحت اشرافه. هذا كل شيء. فاترك الامر معى لمدة يومين فقط، وسأعرف خلالهما، كيف ارتب الامور، بحيت تستمر انت في عملك بالمكتب، دون تدخل من أحد، واتولى انا احالة الشكاوى التي تحتاج الى رأي بشير بيك، اليه في قصره.
تركت المكتب والشكاوى والبيك والتابع الجرد وقصر الحكومة والكاتب الاعرج وخرجت الى الشارع يلاحقك الوجه الممسوخ لوحش " التابعة"بعينيه الحاقدتين الناريتين. ما حدث ليس معزولا عن سياقه العام، والوعد الذي اعطاه لك رئيس القلم، باستمرارك في عمل المكتب، مجرد تهدئة لخاطرك، فالطريق صار مسدودا امامك نحو القصر الحكومي، بمثل ما اضحى مسدودا امامك نحو بيت حورية، وما هذا الا الاعصار الذي سيعصف بكل ما اسست عليه حياتك في هذه المدينة. لقد حقق غول " التابعة " انتصاره عليك، واطبق حصاره حولك رغم كل ما قرأته من سورة الاخلاص، لان غول التابعة لا يعمل وحده، وانما له جيش من الانصار والمريدين، يتشرون في اصقاع الدنيا، ويسدون امامك كل المنافذ والطرقات. لم تعد تدري الى اين تتجه، وماذا تفعل بنفسك، او تتصرف بوقتك، فلم يبق لك الا الغرفة الرطبة في فندق الكبران، تعود اليها دون ان تدري ماذا يمكن ان تفعل بداخلها، وتتركها فلا تدري ماذا تفعل خارجها، ورأيت بعد مرور يومين من الدوران في الفراغ، ان تذهب الى السنيور كالفي في القلم الاداري، تسأله عما حدث، فوجدته يطلب مهلة اخرى، ويطمئنك بان مرتبك سيصرف كاملا، كما لو كنت منتظما في العمل. كتبت له ورقة باخذ اجازة طارئة لمدة اسبوع واحد، لكي لا يعتبر الكومندان غيابك امتناعا عن العمل، ويستصدر من الحاكم العام قرارا بطردك. استمر اصحاب الشكاوى يترددون على الفندق بشكاواهم، ولم تجد بدا من استلامها منهم والابقاء عليها في غرفتك، دون ان تعبأ بقراءتها او اجراء مقابلات مع اصحابها، كما كنت تفعل سابقا. وبعد يومين انصرفوا جميعا عنك، فقد جاء من طرف الكومندان من يبلغهم بان علاقتك بمكتب الشكاوى قد انتهت. وعندما رآك الكبران تتأخر في مغادرة الفندق صباحا، وتتخذ، عندما تغادره، اتجاها غير طريق العمل احيانا، وعرف انك في اجازة من مكتب الشكاوي، تقضيها متسكعا على الشاطيء، ربط بين هذه الاجازة وبين مشروع الشاطيء السياحي لمدينة طرابلس الذي تتحدث عنه الصحف ويتناقل الناس اخباره، وبشكل خاص الجزء الواقع غرب الميناء الذي مازال مهملا مهجورا رغم جماله، والذي رآك الكبران اكثر من مرة تتجه اليه، فذهب في يقينه ان الحاكم العام، بما يعرفه عنك من اهتمام وارتباط بهذه المنطقة، قد عهد اليك اختيار الاماكن التي ستقام عليها المنشآت السياحية الجديدة، ولديه فكرة، ستجعل من مشروع الشاطيء السياحي لطرابلس، اسطورة من اساطير العصر الحديث، وهي انشاء فندق في قلب البحر، والامر، كما يقول الكبران، لا يكلف كثيرا، لان برج ابو ليلة الذي ينتصب فوق هضبة داخل البحر موجود، والجسر الصخري الذي يقود اليه جاهز من صنع الطبيعة، كل ما يحتاجه الامر هو وضع خطة هندسية لتطوير ذلك البناء وتحديثه واضافة طوابق جديدة فوقه وتشييد مرافق تابعة له، داخل الماء، أي بناء مقهى ومنتدي على شكل غواصة لها نوافذ زجاجية، حيث يجلس الزبائن، بين الاسماك والشعب المرجانية والاحياء المائية، وسيكون لهذا الفندق جاذبية سياحية اكثر من الريفييرا الايطالية.
قلت ضاحكا مرددا مطلع الا غنية التي سمعتها من الحاكي:
- يبدو انك وقعت تحت تاثير هذا الحاكي وبالذات الاغنية التي تقول " في البحر لم فتكم، في البر فتوني ".
- لا وانت الصادق، المقطع الاهم هو الذي يقول " بالتبر لم بعتكم، بالتبن بعتوني " لان هذا مصير ما اقوله لكم من افكار تساوي ثمنها ذهبا. قل لي بذمتك، اليست هذه فكرة عظيمة، لا تحتاج الا الى رجل عظيم مثل بالبو لكي ينفذها.
رجل طيب هذا الكبران، الذي لم يفقد ثقته فيك حتى وهو يراك مشردا، تتسكع قرب برج ابو ليلة ومقبرة اليهود المهجورة. هل تنهزم وتترك ميدان المعركة هاربا امام هذا الكومندان، الذي لا تدري من أي ثقب في الارض خرج لك كما تخرج الثعابين. ام تذهب، وتصارع وتحاول ان تأخذ حقك وتستعيد موقعك، حتى وان لم تحقق نتيجة لنفسك، فيكفي ان تكون مصدر قلق وازعاج له، واذا كان المثل الليبي يقول بان الذبابة لا تقتل وانما تثير القرف والتقزز، فمهمتك ان تقوم بدور هذه الذبابة التي لا تقتل الكومندان وانما تخلق له من القرف والازعاج ما يجعله يكره اليوم الذي فكر فيه ان يقتحم ذلك المكتب هو وجربوعه فوزي.
تذكرت بان لديك ارتباطا باقوى مؤسسة في الادارة الاستعمارية، هي الحزب الفاشي. هذا الحزب الذي استلمت بطاقة عضويته من الحاكم العام نفسه، والذي لم تذهب اليه منذ ذلك اليوم ولم تنتظم في حضور برامجه ولم تحصل على شيء من امتيازته غير البطاقة والقميص الاسود. يجب ان تذهب اليه حالا، وتبحث لديه عن العون الذي تحتاجه في معركتك مع الكومندان، والتعبير الذي يقول بان من يعضك يفكرك باسنانك، ينطبق على حالتك تماما، اذ ما الذي فعله الكومندان ان لم يكن عضا ونشبا لانيابه في لحمك، وما الذي يمثله الحزب الفاشي ان يلم يكن اسنانا قادرة على ان تبادل العض بعض اكثر قوة والما، وما فائدة هذه البطاقة ان لم تأت لعونك في هذه الايام العصيبة.
تهيأت للذهاب الى المقر الرئيسي للحزب بان حلقت رأسك لدى حلاق ايطالي، حلاقة حديثة، استخدم فيها اداة لكي الشعر وتصفيفه حسب الموضة، وحلقت وجهك ووضعت فوقه نوعا فاخرا من ماء الكولونيا له عبير الياسمين، وارتديت القميص الاسود، والبنطلون الابيض، ووضعت في يدك صحيفة " الكورييري ديلا سيرا" الايطالية التي تزين صفحتها الاولى صورة الدوتشي، لكي تبدو في صورة العضو المتابع للاحداث، ومع الساعة السادسة كنت في المعرض التجاري حيث مقر الحزب. وجدت انهم اعفوك فعلا من برنامج التدريب العسكري واللياقة البدنية، باعتبارك عسكريا محترفا، عدا ذلك، فانت مطالب بمباشرة كل المهام التي يباشرها بقية الاعضاء، واهمها حضور برامج التوعية السياسية، واعمال المناوبة الدورية في المكتب، والحراسات التي لا تزيد عن يوم واحد في الشهر، وكانوا على وشك الدخول لحصة الدرس السياسي، فوجدت نفسك مجبرا على الحضور، حيث دخلت مع حشد كبير من لابسي القمصان السوداء، الى صالة واسعة وجلستم قبالة شاشة كبيرة اعدت لعرض الافلام، وادرت بصرك شمالا ويمينا، فتطلعت الى هذا التنافر الشديد بين القمصان ولابسيها، فاغلبهم ليبيون من ذوي البشرة السمراء، واحيانا الداكنة الى حد السواد، ممن لا يناسبهم ارتداء هذا اللون، وهو ما يؤكد ان مؤسسي هذا الحزب، لم يكونوا يضعون في حسابهم واعتبارهم ان بشرا سمر الوجدوه سوف يرتدون قميصهم الذي اعدوه على مقاسهم ومقاس بني جنسهم من اصحاب الوجوه الحمراء. اطفئت الاضواء، ليبقى فقط شعاع الضوء الصادر عن آلة العرض، الموجودة في وسط الصالة والتي تصدر ازيزا كريها مزعجا، وقد سلطت ضوءها على الشاشة فظهر الدوتشي وهو يقف في شرفة عالية وامامه حشد جماهيري كبير، يهتف باسمه بشكل هستيري، قبل ان يبدأ في القاء خطبته، وقد اختلط صوته بازبز الة العرض، فجاء مشوها ممسوخا، وهو يهدد القوى المعادية للزحف الفاشي، قائلا، بان القوة الكاسحة لايطاليا ستهزم شرادم العصاة وتجار الرقيق في اثيوبيا، كما ستساهم في صناعة النصر على القوات الجمهورية العميلة في اسبانيا، من اجل قيم العمل والنظام والاتحاد في شبه جزيرة ايبيريا وتطهيرها من البلاشفة والمخربين. واشارة الى ليبيا اشارة عابرة، ذاكرا قصة الانتصار الكاسح للفاشية فوق هذه الارض التي تنعم بخيرات الاستعمار الايطالي.
استمر الخطاب اكثر من ساعتين، تم خلالها تغيير خمس بكرات من الاشرطة، وكان قد اصابك الملل منذ البكرة الاولى، وقاومت النوم طوال الوقت خوف ان يلحظ نومك احد الفاشست المتحمسين للدوتشي ويشي بك للادارة، وانت لست بحاجة الى مزيد من التعقيد، وما ان انتهى الخطاب واضيئت انوار الصالة، وبدأ الناس يخرجون، حتى وضعت جسمك بين المتزاحمين على الابواب وخرجت.
جئت الى مقر الحزب، هاربا من احساسك بالضيق والغبن، تبحث لديه عن نجدة ترفع عنك الحصار، فاذا بك لا تزداد الا حصارا وضيقا، ويتوافق مجيئك مع خطاب الدوتشي، لتجد ان الزعيم الايطالي نفسه، ينضم الى غيلان التابعة التي تلاحقك، ويجثم ببدنه العريض المديد، على صدرك حتى يصيبك الاختناق، ولا تصدق، عندما ينتهي الفلم وتضاء الصالة، انك نجوت من كوابيسه الكريهة، فتركض هاربا الى الشارع، موقناان الحزب ليس لديه ما يقدمه لك، غير مزيد من الاذلال، خاصة بعد ان عرفت من قراءة احدى الاوراق ان عدد الاعضاء وصل الىعشرة الاف عضو، يزدادون كل يوم، في طول البلاد وعرضها، بحيث لن يمضي عام واحد، حتى يصل عددهم الى عشرين الفا، فاي موقع متميز يمكن ان تصل اليه، او يصل اليك، وسط هذا الزحام من اصحاب القمصان السوداء، والوجوه الاكثر سوادا، الطامعين مثلك في الجاه والسلطان. ولا تدري لماذا وانت تجر معك حصاد الخيبة من هذه الزيارة لحزب السلطة، تذكرت نورية. ماذا لو ذهبت اليها الان؟ لقد تأخر الليل قليلا، فالساعة توشك على بلوغ العاشرة، الا انك واثق من انها سترحب بك في كل الاوقات، بل ستجد في حضورك، وانت بهذه الملابس السلطوية فرصة للتباهي بك امام صاحباتها. خوضت عبر الحواري المظلمة، حتى وصلت الى بيتها. الحي الصاخب الذي يسهر حتى منتصف الليل، صار صامتا، مظلما، بعد انتقال بيوت الدعارة الرسمية الى منطقة المعرض التجاري وشوارع دانتي وفرجيل وداننزيو وماتزيني وغيرهم من شعراء الحب الذين سيطربون لصحبة هذه الباقة من بنات الهوى.
كان البيت غارقا في الصمت والظلام. طرقت الباب فلم يفتح احد. وطرقته مرة ثانية وثالثة ورابعة، باكثر قوة والحاح، دون جدوى. لعل زبونا غاضبا، لم ياخذ من حظه ما يرضيه، وشى بنساء هذا البيت الى الشرطة، فجاءت تأخذهن الى السجن بتهمة ممارسة الدعارة دون ترخيص. فالاعتراض ليس على المبدأ ولكن على الاسلوب، لان الحكومة لا تحب ان يشتغل الناس من وراء ظهرها حتى في مجال بيع الجنس. كما لا تحب لمن يجني نقودا ان يستفرد بها، فلا يدفع لها حصتها ضرائبا ورسوما.
تأبي الظروف هذا المساء الا ان تناكفك. حتى سيدة الاوقات الطيبة، التي تعودت ان تشتري منها ساعة للترفيه والتسلية، اوصدت بابها دونك. لم يبق امامك الا العودة المؤسفة الى الغرفة التي تسبح في العتمة والرطوبة واملاح البحر. وتذكرت بعد ان مشيت بضع خطوات في اتجاه الفندق، الملهى الشرقي بسوق المشير الذي يبقى ساهرا حتى ساعة متأخرة من الليل، والذي يمكن ان تجد لدى مطربيه وموسيقييه ما يبدد احاسيس الكدر والضيق. الا ان هناك مشكلة تواجهك هي هذه الملابس التي ترتديها، والتي لا تدري ان كان مسموحا بارتيادها في مثل هذه الاماكن، ومن ناحية اخرى، فان الطريق الى الملهي يمر بمناطق كوشة الصفار وقوس الصرارعي، وقد يثير منظرك بهذه الملابس مشاعر المتعصبين من شباب هذه الاحياء فيتعرضون لك بالاذى، ولذلك قررت العدول عن الذهاب الى الملهى والعودة الى الفندق عبر حارة اليهود التي بدأ اهلها يقفلون دكاكينهم ويأوون الى بيوتهم. تجاوزت الحارة، وسلكت سبيلا امنا، هادئا، يصعد الى هضبة باب البحر، حيث وقفت هناك ترقب موج البحر، وتستنشق انسامه المشبعة برائحة نفاذة لها نكهة رحيق الشيح، تلك النبة التي يتطبب بها اهلك في اولاد الشيخ ويتبركون بزيتها. رائحة لا تجدها الا في هذا الجزء من البحر، المحادي للمدينة القديمة، ربما لانها منطقة جبلية، غنية بالاعشاب والنباتات البحرية والخلجان التي تنبت فيها الاشجار كالادغال، والتي منها جاءت لاشك هذه الرائحة الزكية التي يستقبلها جسمك كله بنشوة بالغة، لانها تذكره بنكهة البراري والارياف التي ينتمي اليها. كانت الانسام تضرب وجهك باردة منعشة، وفي البعيد ظهرت اضواء سفن بعيدة، تغطيها غلالة شفافة من الابخرة التي يصنعها البحر، وفوقها بدر اكثر شحوبا وشاعرية، بينما كانت الامواج التي تصطدم بصخور الشاطيء تصنع صخبا لذيذا وتسهم في صياغة هذه المعزوفة التي تعزفها كائنات الليل والبحر.
اخذت طريقك هابطا الى الشاطيء، الى ان وصلت تل الصخور الذي يواجه برج ابو ليلة، فجلست هناك، امامك البحر، وفوق رأسك النجوم، ومن حولك الكون ينعم بلحظة سلام وسكينة لا يجرحها الا صوت الموج عند ارتطامه بالشاطيء، صانعا اشجارا من الماء، يصلك منها رذاذ خفيف منعش.
تضاءلت معارك النهار واحباطاته وتبددت سحب الضيق التي كانت تملأ صدرك، واحسست بجو السلام والسكون والامان الذي حولك يتسلل الى وجدانك، فقررت ان تبقى حيث انت، لكي تنعم ولاطول فترة ممكنة بهذا الجو الذي ينعش الروح ويغسل القلب من ادرانه، ويمنح الانسان احساسا بالراحة والهناء والاكتفاء، كانه استوفي كل احتياجاته من الحياة فلا يريد من احد شيئا. بقيت جالسا حتى شعشع ضوء الفجر، فانطلقت الىجامع قرجي، الذي تفضله عن كل اماكن العبادة الاخرى في طرابلس، وكان قريبا، فتوضأت وصليت الفجر دون انتظار الجماعة كي لا ترى احدا ينظر بازدراء لملابس الحزب الفاشي التي ترتديها. وعدت الى غرفتك لتنام، وقد امتلأت بفكرة انك لا تريد من الناس شيئا، ولا يملك احدهم لك ضرا ولا نفعا، ولا تطلب من احدهم خدمة ولا فضلا، فالله وحده واهب الملك، يعطي من يشاء بغير حساب، ويحجب فضله ونعمته عمن يشاء.
ورأيت ان الانسان الوحيد الجدير بان تزوره، وتنعم ببركاته هو الشيخ البلبال، رجل يتعامل مع عالم الروح، لا مع دنيا المنافع والمطامع، والاغراءات المادية، التي وقعت اسيرا لها، وركضت وراء سرابها فكنت كالقابض على الريح، فالى هذا الشيخ يجب ان تتجه، ان رمت تطهرا وتوبة وعلاجا لاسقام الروح وخلاصا من اعباء الماضي.
وما ان صحوت واغتسلت وتناولت افطارك من خبز وشاي وجبن، حتى توكلت على الله متجها الى بيت الشيخ البلبال في زنقة شايب العين، قريبا من ميدان الساعة. هبطت السلالم ويممت صوب باب الفندق فاذا الشيخ البلبال يجتاز العتبة داخلا، فلم تزد على ان قلت لحظة ان رأيته، والدهشة كادت ان تعقد لسانك لهذه المصادفة الغريبة:
- كنت في الطريق الى زيارتك يا مولانا.
- جئت الى هنا، لاعفيك من عناء مشوار لا طائل من ورائه.
- لماذا تحرمني من عونك يا مولانا.
- لانك لن تجد العون لدى احد غيرك انت.
- الا تتكرم وتتلطف وتجود علي بكلمة انتفع بها.
- كم مضى من الوقت لم تزر والديك، الا تعلم ان رضاهما من رضوان الله.
اعطاك الكلمة التي طالبته بان يجود بها عليك، واختفى، في حين رجعت انت صاعدا الدرج الى غرفتك، ودون ابطاء وضعت في شنطة الكتان ما تحتاجه اثناء السفر الى القرية من اغراض، وانطلقت الى وكالة الشوشان، تبحث عن سيارة متجهة الى اولاد الشيخ.
كانت اخبار الحظوة التي تتمتع بها لدى الحاكم الايطالي قد جعلت منك واحدا من اصحاب الجاه والسلطان في اعين ابناء البلدة، وما ان سمعوا بوصولك حتى توافدوا على بيت والدك حيث اقمت، لاستقبالك وتهنئتك بما وصلت اليه، ولم يتوان والدك في تأكيد هذه الوجاهة، فنحر كبشا على شرف قدومك، يطعم به هؤلاء الضيوف، وكان خلال الايام الماضية قد استثمر هذه السمعة، فصنع لنفسه مكانة بين اكابر القرية، حتى اصبح بيته مكانا يقصده هؤلاء الاكابر لمشاركته في تصريف امور البلدة والاستعانة به في اجراء الاتصالات مع الحكومة، وهو الذي كان قبل ذلك مجرد رجل بسيط من عامة الناس، يقبع في دكانته يبيع العلك للاطفال والشموع والقناديل لزائري القبور، لا صلة له باكابر القرية وشيوخها ولا يدرون بوجوده في الدنيا.
وجاء منذ اللحظة الاولى لوصولك، من يحمل لك العرائض والشكاوى، يريد حلا على يديك، وكنت تريد ان تشرح لهم انه لم يعد لك صلة بالمكتب الذي يتولى هذه الامور، لانك تركته لمشرفين آخرين، وعدت عسكريا في جيش الطليان. الا ان والدك، منعك من الخروج اليهم، ومصارحتهم بمثل هذا الكلام الذي يراه سابقا لاوانه، فانت مازلت لم تترك رسميا مكتب الشكاوى، ولو تركته فان هذا لن يلغي صلتك الوثيقة بالحاكم العام التي يعرفها اهل القرية ويفخرون بها، وعندما ترفض استلام شكاواهم، فانت بذلك ترفض خدمتهم، وتكسر خاطرهم، وتجلب السمعة لنفسك واهل بيتك. وهكذا كان هو الذي يخرج اليهم ويستلم منهم شكاواهم وعرائضهم، ولا يتردد في وعدهم بالنتائج السريعة التي سيوافيهم بها ابنه وما سيبذله من سعي لتحقيق مطالبهم، كما جاء الشيوخ والمدراء برسائلهم ومذكراتهم الرسمية المرفوعة الى الحاكم العام، يطلبون فيها ان يشمل قريتهم بعين الرعاية والرضا وان يساعدهم في التغلب على الفقر والبطالة بالموافقة على عدد من المشاريع التي تاخر تنفيذها مثل تعبيد الطريق الموصل لعاصمة الاقليم وبناء المستوصف الجديد وحفر بئر جديدة للشرب تنقذ اهل البلاد من شرب المياه الجيرية الموجودة في البئر القديمة، فاخذها منهم الاب مع التأكيد على استعداد ابنه لاقناع صديقه الحاكم العام بتلبية هذه المطالب، فلا خير في صاحب المسئولية والنفوذ اذا لم يذهب خيره لاهل بلدته قبل كل الناس.
جئت الى اولاد الشيخ هاربا من المدينة، تنشد فيها السكينة والسلام، بعيدا عن الاجواء التي اصابتك بتعب البدن والروح، فاذا بتلك الاجواء تسبقك اليها، وتقضي على ما كنت تجده من الفة وعفوية عند لقائك مع اهلك وذويك في هذه البئية الريفية القروية الخالية من تعقيدات المدينة وعلاقاتها القائمة على المنفعة وتبادل المصالح، فاذا بك تجد هذه المصالح تدخل في اكثر العلاقات حميمية وخصوصية مثل علاقتك بوالدك، الذي سد اذنيه واقفل قلبه وعقله عن سماع ما كنت تقوله له، بان هذه الاخبار السارية عن علاقتك بالحاكم العام، مجرد شائعات لا اساس لها، وان العمل في مكتب الشكاوى تولاه اناس آخرون، وان ذلك لا يغير من حقيقة انك بخير وعافية، ولك رتبة في الجيش تضمن لك راتبا يكفي حاجاتك ويفيض بما يمكن ان يساعد به اخوته من حين لاخر، فما ضرورة الادعاء بامتلاك ما ليس لنا، الا انه ظل متشبتا بهذه الاوهام التي جعل منها بديلا للواقع، فلم يعد قادرا على مواجهة الحقيقة. ذهبت تنقل بعض همومك الى امك، قائلا لها، بلغة بسيطة تناسب مداركها كل ما قلته لابيك، مضيفا اليه انك لا تدري كيف تعالح الامر مع والدك، الذي صار الان يقدم الفتوى لاهل القرية ويمني اصحاب الشكاوى بالاماني الجميلة، وينسب لك قوة ونفوذا لا اساس لهما في الواقع. فلم ترد عليك الا بالبكاء، لان كل ما لديها هو الدموع، تعبر بها عن حالات الفرح والحزن، والرفض والاستجابة، والاحتجاج والرضا، والوداع والاستقبال، وعندما سألتها لماذا كل هذه الدموع، قالت بانها دموع الفرح للمكانة العالية التي وصلها ابنها في الحكومة، والتي جعلته كبيرا في اعين اهل البلدة، وانك مهما اسرفت في الانتقاص من قيمتك تواضعا ونكرانا للذات، فان الناس الذين يعرفون قدرك، ورأوا عن قرب ما بلغته من مكانة عالية بين اهل المدينة، لا يستطيعون انكار شهادتهم، فقد جاءوا يبشرون اهل القرية ويهنئون اسرتك، وكان اول المبشرين والمهنئين قريب العائلة المقيم في المدينة عبد المولى، الذي يلهج دائما بالثناء عليك لما اصابه من خير على يديك، وما قدمته من احسان للبؤساء والمساكين في طرابلس وما بلغته من شأن عظيم في الحكومة، وصداقة مع الحاكم العام، وكلام كثير آخر لا يعني الا انها لا تصدق كلمة واحدة مما قلته لها، فالحقيقة ليس ما تقوله انت عن نفسك، وانما ما يقوله الاخرون من شائعات عنك، وهي تريدك الان وبعد ما اسديته من خدمات للاغراب، ان تلتفت لاخوتك، فهم اولى بالمعروف من سواهم، وان تساعدهم في الحصول على منح وهبات من الحكومة ومرتبات حتى وهم دون سن العمل والوظيفة، ولم تجد فائدة من تكرار الحديث عن مكانتك المتواضعة التي لا تسمح بهذا الترف الذي تطلبه، فقد بدا لك ان المنبت المتواضع الفقير لاسرتك، سواء من ناحية الاب او الام، هو الذي ساعد على تشبت افراد العائلة بهذا الوهم، لانهم ما ان لمحوا كوة في سقف عالم الفقر الذي يعيشون تحته، حتى احسوا بان السماء اخيرا انتبهت الى وجودهم، وقررت فتح خزائنها لمنحم شيئا من حقوقهم، التي حرمتهم منها وحجبتها عنهم لدهور طويلة، ولم يكن سهلا اقناعهم ان تلك الكوة لم تكن الا كذبا، وان جدران الفقر والعوز ستظل تحاصرهم وتطبق على صدورهم دون هواده ولا هدنه، وان انصاف السماء وعدالتها، سوف يتأخران لبضعة اجيال اخرى. اكتفيت بان قلت لها بان اخوتك من امك او من ابيك مازالوا صغارا لم يبلغوا سن العمل والوظيفة، وان المساعدة الوحيدة التي يحتاجونها، ليست في يدك وانما في ايدي الاسرة باولاد الشيخ التي يجب الا تمنعهم من الالتحاق بالمدرسة الايطالية، باعتبار ان التعليم هو افضل ضمانة للمستقبل، وقلت نفس الكلام لابيك عندما جاء هو الاخر على ذكر اخوتك ومستقبلهم، كما فعلت امك، وكأنهما رغم انفصالهما، الذي مر عليه عقد ونصف من السنين، يتمتعان بتواصل الافكار وتماثلها.
كنت متلهفا للهروب من هذه الاجواء الخيالية التي احاطك بها الاهل، عائدا للاحتماء بغرفتك في فندق الكبران، قبل ان يأتي من يعري الاكذوبة ويكشف للناس حقيقة امرك، الا ان الاسرة الكبيرة التي تضم اسرة ابيك واسرة امك، اتفق رجالها الكبار، على اقامة وليمة يحضرها كل الاهل، فرضخت لما طلبوه منك، وجلست بين الاعمام والعمات، والاخوال والخالات، تسمع الى منطق الاهل الذين يتحدثون عن زواجك القادم، الذي خططوا له دون علمك، ووصل الامر الى اختيار العروس، ولم يبق الا كتب الكتاب وتعلية الجواب:
- لابد ان تعرف ان قبيلة المساعيد، هي اكبر قبائل القبلة، وشيخها الحاج اسعد هو اكبر شيوخ المنطقة واكثرةهم قوة وثروة وعزوة، والتصاهر مع هذه القبيلة سيضمن لاهلك في اولاد الشيخ سندا قويا يحتاجون اليه في اوقات الشدة والحاج اسعد يرحب ويتمني ان يجد لابنته شهلة، عريسا مثلك hellip;hellip;
وقبل ان يكملوا كلامهم، اعتذرت لان موعد سفرك قد حان، وان لديك مشاغل ومهمات تمنعك من الزواج الان واخذت حقيبتك وغادرت البيت.
لم تكن على علم بوجود سيارة في طريقها الى طرابلس، الا انك اردت مغادرة البلدة باي وسيلة، فاندفعت ماشيا عبر الطريق الرئيسي المؤدي الى المدينة، برجاء مرور اية سيارة شحن تنقلك فوق بضائعها، وجاء بعض افراد الاسرة يركضون وراءك، يرجون عودتك، فلم تعرهم انتباها. مشيت مسافة ميلين او ثلاثة اميال، قبل ان تأتي سيارة تفتيش عسكرية، عائدة من احدى نقاط المراقبة الصحراوية، فاوقفت سائقها واريته بطاقتك العسكرية، وركبت بجواره عائدا الى طرابلس، تبحث في ذهنك عن السر وراء نصيحة الشيخ البلبال في ان تزور اهلك هذه الايام.
اخبرك الكبران، وانت تصل ليلا الى الفندق، ان نورية ترددت عليك اكثر من مرة خلال اليومين الماضيين، وانتظرت عودتك هذا المساء، وعندما تأخرت، ذهبت برجاء ان تعود غدا، ثم اضاف:
- انها تلح الحاحا شديدا في رؤيتك، وكان حظنا طيبا انها لم تجدك، لان ذلك اتاح لنا فرصة ان نستمع الى غنائها الجميل.
- من؟ نورية مغنية؟ هل هذا مزاح؟
- لا تقل انك لا تعرف ذلك، لانك تعرف ولم تشأ ان تقول لنا، كما تعرف ايضا ان لها دراية كبيرة بالغناء الشعبي.
- كل ما اعرفه انها تقيم في بيت " الزمزامات".
- ربما لانك احضرت لنا الحاكي الذي يقدم الاغاني المحفوظة، شئت ان تحتفظ بهذا النوع من الطرب الحي، لنفسك.
- ولكن ما الفائدة، فها قد وصلتم اليها، واخشى ما اخشاه ان تصادروها كما صادرتم الحاكي.
- ان لها صوتا مثل الكروان.
- غناء الكروان في فندق الكبران، سيكون اعلانا يجذب الجمهور لو قررت ان تقيم لها حفلا فنيا في الفندق.
ودون ان يعير الكبران اهتماما لاقتراح صاحبه واصل الكبران حديثه الحماسي عن نورية:
- ليتك كنت هنا عشية الامس، فقد اجتذب صوتها البديع كل زبائن الفندق الذين التموا حولها وهي تغني اغنيتها الجديدة عن بالبو.
ثم صار يدق ايقاع الاغنية على الطاولة التي امامه مرددا مطلعها:
-ـ حبيتك اعظم حب
ياللي قلبك من ذهب
بالبو يا حاكم دولتنا
ياسيد اسياد حكومتنا
انعيشوا معاك فرح وطرب
استغربت من اين لنورية ان تعرف بالبو، حتى تغني له هذا الغناء، وتحبه كل هذا الحب، الا اذا كانت اجهزة الاوفرا قررت ان تتدخل في شغل الزمزامات وتقرر عليهم هذه الاغاني التي تحض على حب الحاكم العام، ولكن منذ متى صارت نورية من اهل الطرب، مع ان عمل الاعراس لم يكن غير غطاء للمهنة الاخرى التي تدر ربحا كثيرا، وتحظى باهمية اعظم عبر العصور باعتبارها اقدم مهنة في التاريخ.
اعطاك الكبران مجموعة من الالتماسات والعرائض، كان اصحابها، ممن لم يعرفوا خبر طردك من مكتب الشكاوى قد تركوها معه، فاخذتها معك الى غرفتك والقيت بها، في كيس يمتلىء باوراق استلمتها من اصحابها قبل سفرك الى اولاد الشيخ واخرى جئت بها من هناك، ونمت فلم تعبأ بمغادرة سريرك صباحا. استمتعت بيوم بطالة لا يتخلله أي جهد. فكرت في القيام بمشوار صغير الى رئيس القلم الاداري لمعرفة آخر التطورات، ثم عدلت عنه. انه يعرف عنوانك ويستطيع ان يرسل اليك احد السعاة لو اراد، فلتنعم اذن بهذه البطالة التي فرضت عليك فرضا. ولتبق ان شئت في سريرك حتى ينقضي النهار، خاصة وان لديك شيئا تنتظره بلهفة، هو مجيء نورية، ليس فقط لانها قوتا جنسيا يأتي في وموعده، وانما ايضا لكي ترضي فضولك وتفهم سر هذه التحولات الكبيرة في حياتها التي نقلتها من امرأة تبحث عن رخصة للعمل في بيوت الدعارة الرسمية، الى مغنية البلاط الملكي في طرابلس، لصاحبه الملك غير المتوج،ايتالو بالبو.
لا تدري لماذا يكون للجنس في لحظات التوتر والعصبية هذا التأثير الشافي الذي يحرر الجسم من توتره، بل اكثر من ذلك بالنسبة لك، اذ تجد له هذا المذاق الحراق وهذه النشوة التي تفوق نشوة الممارسة الجنسية في ايام الامان والاستقرار. انه الكهف السري، الذي تلجأ اليه من ملاحقة غيلان " التابعة "، وتهنأ فيه بضع لحظات بعيدا عنها. والمرهم الذي تمسح به جراح القلب فيفلح في تسكين اواجاع هذه الجروح ولو لفترة ودجيزة. وتحس بان له تأثير حبة الحلوى في الريق المر، عارفا ان الريق سيعود في فمك مرا بعد ان تمضي لحظات الحلاوة هذه، او هذا ما احسست به عندما جاءت حورية، فاتحا ذراعيك لاحتواء هذا الجسد الفارع، تحاول طيه طيا وسط مساحة السرير الصغيرة، وقبل ان تسألها عن أي شيء آخر، تلقفتها ودخلت بها الفراش، فالاولوية، مع امرأة مثل نورية، للجنس قبل أي شيء آخر، الجنس الذي تمارسه وتستمتع به، لوجه الجنس وحده، لا تخالطه هموم ولا اوهام ولا وساوس تتصل باداء الواجب، ولا هدف الانجاب واستمرار الحياة الزوجية كما في العلاقات الشرعية، ولا تلونه تلوينات اخرى كما هي العلاقة بين العشاق. الجنس، النقي، المصفي،