ثقافات

وعيٌ على ذكرياتي: "أنا العراق.." (1)

-
قراؤنا من مستخدمي تويتر
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
&&الثلج يغطي الكون كله..السماء والشوارع والازقة الضيقة وارصفة المحطات والحدائق بمصاطبها واشجارها ..البرد قارس والظلام رغم المصابيح النعسانة يسبح هنا وهناك في الزوايا وعند مداخل المحلات المغلقة وانا احمل حقيبتي ، اترنح ساحبا قدميّ لا اعرف اين اتوجه..انتهت مدة الانذار الممنوحة لي من قبل ربة البيت بمغادرة سكني لديها &فهي تخاف من ان وجودي فيه اغواء لابنتها الشابة والتي عقدت آمالا عليها وعلى خطيبها الايرلندي ذو الوظيفة الثابتة ذات الدخل المعقول .من قال ان الجحيم هو النار..الجحيم هو الثلج ، هو هذا البياض المقيت الميّت المميت .- لا اريد ان اغامر بمستقبل ابنتي .. ها قد انتهت مدة الانذاربالاخلاء وعليك المغادرة وبلا اي تاخير ... لم تنفع محاولاتي باقناعها بأن اغادر صبيحة اليوم التالي .ها قد لاحت خيوط تباشير الفجر والثلج يغطي السماء وكل معالم الارض المكشوفة السقوف والازقة وكل المصاطب التي تصلح للاستلقاء وحتى مداخل المحلات الظليلة قد زحفت فوق ارضيتها السنة الثلج الجهنمية فلا مكان فيها للقرفصة والاتكاء على ابواب المحلات المغلقة &.متعب نعسان جائع اسحب قدميّ بعناء حاملا حقيبتي الثقيلة ، دون وجهة معينة..وجدت نفسي وقد وضح النهار، قريبا من مسكن تلك العائلة البولندية ، التي رفضتُ غرفتها الصغيرة العابقة برائحة الثوم والبصل وبمربعات الكارتون السادّة لاجزاء من زجاج نافذتها .. صناديق مرصوفة بديلا عن السرير ولكن بفراش واغطية نظيفة.. باوند واحد اسبوعيا فقط .. "لقد رفست نعمتك ايها الاحمق المغرور" .. أجد نفسي امام باب بيتهم من جديد ... تفتح السيدة البولندية الكهلة الباب..تميل براسها متأملة وجهي برهة لا اكثر..تسحبني من ذراعي دون كلمة واحدة وانا اتبعها كالممغنط، تاركاً حقيبتي في الثلج..تجلسني جوار المدفأة التي تأزّ نيرانها الملتهبة بنغم مطمئن..لايزال هناك بقية من عصيدة وجبة الافطار قرب المدفأة..تضعها وهي صامتة ساهية في وعاء &وتقطع شرائح من رغيف خبز اسمر وتضعها امامي ... تأتي بحقيبتي من الخارج وتصعد بها..تعود فتسكب كوبا من الشاي وتضع شريحة خبز اخرى ... اصحو في المساء ، فأجد شابا خلاسيا يبحث في خزانة الحائط الخشبية والمح اكياس البصل والثوم .. يخرج فصوصا منها .. يتنبه الى صحوي .- كنت اخالك لن تصحو حتى الصباح .. أنا راندولف زميلك في الغرفة.. أنا من ترينداد ..سأنزل قبلك فقد حان موعد وجبة العشاء..إن أجرهذه الوجبة زهيد ونحن نتناولها في الغالب مع رب البيت، أنه شخص طيب رغم تقطيبة وجهه، لقد أكل فحم المنجم نصف رئتيه ، لكنه يعمل الآن جابيا للتذاكر في باصات مصلحة الركاب ، بديلا عن الحفر في اعماق الارض..لقد رأفوا بحاله قبل مدة قصيرة ...وجد لي راندولف عملاً &في نفس المطعم الذي يشتغل فيه..اربعة ساعات في&في غسل الصحون ليلا .تحسنت اوضاعي ، فانا اتناول الآن وجبتين ، عصيدة الصباح مع قدح من الشاي&وشريحتين من الخبز الاسمرومساءً الوجبة الثانية مع سلافيتش بعد عودتهمن عمله في المساء . & & &&.. احيانا يدور نقاش بيننا.... سلافيتش يزمجر:- لقد تعاونوا مع هتلر في احتلالنا .. لقد ذبحوا خيرة ضباطنا .- دعايات رأسمالية لتشويه صورة الاتحاد السوفياتي العظيم- الم تسمعوا في بلدكم ايران ، بمجزرة كاتين .. لقد ذبحوا أكثر من خمسة وعشرين الفا من خيرة شبابنا في غابة كاتين محل اعتقالهم ذبح النعاج ..- اولا انا من العراق ، ثانيا واكرر انها اكاذيب الامبريالية بحق الاتحاد السوفياتي العظيم صديق الشعوب .ينهض سلافيتش وقد احتقن وجهه واخذ يسعل وضرب المائدة بكفه بقوة كادت أن تقع من فوقها اكواب الشاي ، وبصوت مختنق شبيه بالحشرجة يصرخ :- لقد وقفوا يتفرجون على مجنزرات هتلر وقنابله الحارقة وهي تبيد كتائب المقاومة البولندية التي نهضت الى العلن حاملة سلاح الثورة للتحرر ولمساعدة جيوش السوفييت الضخمة المتقدمة.. لقد وقفوا يتفرجون على المذابح والحرائق والخراب وهم على مبعدة كيلومترات معدودة ، وبعد ان صفّيت المقاومة دخلوا ..- انها تخرصات ابواق الراسمالية الاستعمارية..سيبقى الاتحاد السوفيتي العظيم .. &- ألا تترك يا &حبيبي سلافتش هذا الشاب المسكين وحاله..دعه يكمل وجبته ليذهب الى عمله .تدخلت ربة البيت مقاطعة وامسكت بذراع سلافتش مهدئة واجلسته على مقعده برقة ..- هل تريدان قدحاً آخر من الشاي ؟&بعد اسبوعين وصلتني رسالة من الجواهري من دمشق .." ولدي الحبيب فلاحأما يكفيك ضياعا ؟! إن لي صورة كاملة عن وضعك الآن، عن دراستك التي توقفت، عن حياة الفاقة والعوز التي تعيشها وعن الاعمال المرهقة المتدنية التي تتقوّت بها، لقد تركت كلية الطب الزاهية في بغداد ، واحرقت الاخضر واليابس لتغادرنا .أنا لا اعاتبك الآن ومن يدري ماستكون ضروفك وانا اغادر العراق الى الشاماغادر فتغادرون، اعود فتعودون. حملتكم معي في الصميم، وحمّلتكم ما في صميمي، واشركتكم بهذا الجحيم مرغمين من عذاباتي وشجوني وقلقي وثوراتي وغربتي وتغربي ، وبين الحين والاخر المتباعد بعضا من مسرة وومضة كاذبة من دعة البيت المستقر الدافيء.لابد وانك سمعت وقرات عني وانا " اخلّف غاشية الخنوع ورائي " ، نعم خلّفتها غير ذي ندم ،وها نحن في ضيافة دمشق البهية . نحن في شقة مريحة في منطقة السبكة في قلب الشام ومكانك جاهز فيها ينتظر قدومك لإن ايادي هذه الضيافة الكريمة لاتمتد للاسف الى انكلترا ولعلي لن اطلعك على جديد حين اقول أن الجامعة السورية من الجامعات العريقة واجواءها تناسبك تماما ، وقد تخرج من كلية الطب فيها زمرة من خيرة الاطباء الانسانيين المرموقين وهي المهنة الانسب الى مفاهيمك وطباعك وانا لا افهم حتى هذه اللحظة سبب رفضك لها وتمردك عليها في بغداد .دعنا من الماضي فالمستقبل هنا واعـِد ومبشّر .بامكاني ارسال تكاليف سفر العودة ، فقط اخبرني اين ارسلها اليك .الكل بشوق للقياك وبانتظار قدومك "وجد لي صديقي &خالد ( خالد احمد زكي..الحالم الجيفاري المغدورلاحقا)، عملاً في معمل للبيرة في ضواحي لندن حيث يشتغل هو هناك وبراتب احسن مما اتقاضاه في غسل الصحون في ولفرهامتن .انتقلت من جديد الى لندن ، ووجدت غرفة صغيرة عند عائلة يهودية في بيت متهالك في افقر احياء المدينة وبأجر زهيد..وبذلك استطعت ومن عملي المرهق ومن ساعات العمل الاضافية الليلية في تعبئة الشاحنات بصناديق البيرة، أن اوفر خلال شهرين اجور سفري ..ونش بحري عتيق عبر بي القناة الانكليزية ، قطار الى مرسيليا..وتحت سقف السماء فوق سطح سفينة من هناك-on deck-الى بيروت ثم بحافلة للركاب وصلت الى دمشق .&&& & & & & & & & & & & & & * & & & &* & & & & & *"..السفير على الخط مباشرة يقول لي:انا مكلف بابلاغك أنك مدعو من قبل قيادة اركان الجيش السوري للمشاركة في &تأبين (عدنان المالكي) ..تلا عليّ البرقية " نطلب اليك الاتصال بالسيد الجواهري لحمله على المشاركة في تأبين عدنان المالكي .."ومع معرفتي بان العراق متهم بقتل عدنان المالكي وقتها ومعروف ايضا ان عدنان المالكي كان رئيس الشعبة الثالثة في الاركان السورية..كماكان رئيس تنظيم الضباط البعثيين في الجيش..ومعروف ايضا ماكان يحاك في العراق ضد سورية وضد توجهاتها وما كان يجري من خلافات سورية عراقية حول الاحلاف والمعاهدات وما كان يخطط له نوري السعيد من انقلابات تجيء باشخاص موالين له لتولي السلطة في دمشق كما هو الامر في المؤامرة التي حاكها لقتل (الشيشكلي).مع معرفتي بكل ذلك وتقديري الوضع الدقيق والظرف الحرج ومغامرة السفر فقدكانت الحالة التي اعيشها والضيق الذي احياه ومعاناتي مع الزراعة وبحثي عن اللقمة الحلال ، كان ذلك كله كافياً لكي يدفعني الى ايجاد مخلص او مخرج، فكيف الحال وانا اعاني ذلك الجو السياسي المحموم بكل احكامه العرفية وكل معاهداته واحلافه .&.. في اليوم التالي اتصلت بـ(بهجت العطية) طالبا تحديد موعد لزيارته فقال ارحب بك كثيراً واذا اردت فهذه الساعة .ذهبت اليه وصارحته بامر السفرة الى سورية وغرضها وقلت له- يا ابا غسان..انا لا اريد التحايل ولا اللف والدوران وما اشبه الليلة بالبارحة ،هذه السفرة مشابهة لتلك التي كاشفتك بها عام 1948، والتي كانت تخص سفري الى بولونيا..انها الآن سفرة الى سورية وللمشاركة في تأبين المالكي، ولو كان غيري لقال انا ذاهب للاستجمام او الاصطياف..لكني لست ذلك الرجل الذي يحتال ولست انت عندي بالرجل الذي يحتال عليه..-يا ابا فرات إن قضيتك وقضايا من هم في طبقتك بيد وزير الداخلية وانت تعرف سعيد قزاز وتعرف كم هو يحبك لذلك ارجو ان تمهلني الى الغد، قلت: بكل امتنانفي اليوم الثاني..طرق الرجل الجرس وسلمني الجواز..عدت الى البيت مبتهجاً فرحا..سرعان ما اتصلت بالسفير السوري لاقول له:انا جاهز للسفر .- يا للبشارة-قالها السفير- وكم نحن شاكرون، ولكن للاسف فان موعد الطائرة هوغداًقلت اعرف ذلك ولكني اعرف ايضا أن موعد سيارة نيرن الذاهبة الى دمشق هو اليوم&قال : صحيح..ولكنه بعد ساعة فقط-هذا يكفي فانا جاهز وحقيبتي الصغيرة جاهزة والمهم لدي ان اسافر اليوم..خلفت ورائي الزرع والضرع..والارض والماكينات، والحنطة والشعير بيد الناهبين وخلفت غاشية الخنوع كلها، خنوعي وخنوع الآخرين وخنوع البلد ورائي وذهبت " أقبسُ جمرةَ الشهداءِ".في اليوم الموعود وكان عدد الحضور على مدرج جامعة دمشق لايقدر بعدد ولحسن حظي وسوء حظهم انني كنت آخر من سيعتلي المنبر ولست ادري كم من اللعنات انصبت على مسؤولي التنظيم وعلى الذين اطالوا خطاباتهم او عليّ وانا اعيد مقاطع قصيدتي،لأن معظم الحضور كان صائما ويريد ان يعود مهرولا الى بيته .انني ولاول مرة في تأريخي الشعري اجد المدرج يضج بهتاف وتصفيق كبيرين، مطالبة باعادة الشطر الاول & من مطلع القصيدة قبل اتمام البيت " خلفت غاشية الخنوع ورائي .." ومضت القصيدة شاقة طريقها الى قلوب هذا الحشد الكبير، حتى وصلت الى المورد المتوهج منها :حاسـبتُ نـفـسي &والأنـاة تـردهـا & & & &في معرض التصريح للايمــاءِبِـيني &لُعنتِ فلستُ منكِ وقد مشى & & & فيكِ الخمول ولستِ من خلطائي&ماذا يميزك والسكوت قسيمة & & & & & & عن خانع ومهادن ومرائيابضعف الايمان يخدع نفسه & & & & & & من سن حب الموت للضعفاءخلي النقاط على الحروف واوغلي & & في الجهر ما وسعت حروف هجاءما انت إذ لا تصدعين فواحشاً & & & & &إلا كراضية عن الفحشاء..وصاح الجمهور الحاشد برمته وبكلمة حلوة وباللهجة السورية الدارجة " ما بيرجع..ما بيرجع " ..خلفتُ غاشيةَ الخنوعِ ورائي & & & & & واتيتُ اقبسُ جـمرة الشـهداءِ &قف بي فلستُ بمأتمٍ لرثاءِ & & & & & & &أيهانُ عرس رجـولةٍ ببكاءِحاسبتُ نفسي والأناة تردها & & & & & في معرضِ التصريح للايماءِبِـيني لُعنت فلستُ منكِ وقد مشى & & & & & &فيكِ الخمول ولستِ من خلطائيماذا يميزك والسكوت قسيمة & & & & & عن خانع ومهادن ومرائيأبضعف الايمان يخدع نفسه & & & & & من سـنّ حب الموت للضعفاءخلّي النقاط على الحروف وأوغلي & &في الجهر ما وسعتْ حروف هجاءِما أنت اذ لا تصدعين فواحشا & & & & إلا كراضيـةٍ عن الفحشــاء & &يا من رأى حلفاً عجيباً أمره & & & & & & بين الثرى وكواكب الجوزاءِوتعلقتْ هزءاً على اضوائه & & & & & بنيوب ذؤبان أكارعُ شــاءِستدوس اقدام الشعوب كخرقة & & & &مهرؤءة من كان صوت بلاءِستعود تُـصهر طلقـةٌ وقذيفة & & & & &ترمي الطغاة سلاسلُ السجناءِيا شام يا لمح الكواكب في دجى & &يا موكب الاعراس في صحراءِيا أم اقيــال ومدرج امـة & & & & & & وعرين اشبال وكهف رجاءلله أنت أكلُ يومك حاشد & & & & & &برجولةٍ ومرؤةٍ وفَـتــاءاليوم عيد الواهبين وفي غدٍ & & & &عيد الفتوح وأمس عيد جلاءِ
الجواهري..ذكرياتي


&&&

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف