قصة قصيرة
التهافت على الضلال
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
مرتضى الصادق العربيد النزق، الذي لا يرضى أو يقنع باللذة القليلة، ولا بالبهجة الضئيلة، أفنى عمره، وشبابه الزاهر، في مطاردة شهواته التي لا تكاد تنقضي، وحال الشباب في السودان في تلك الفترة كان لا يختلف كثيراً عن حال الشباب في المنطقة العربية، فكلهم لم يكن يعوزهم الرواء، ولا الخنا، ولا الرغبة الملحة، ومرتضى الذي تخرج من كلية الهندسة بتقدير ممتاز، كان مقياس النجاح عنده، أن يظفر ويوفق إلى كل ما يريد، وأن يستمتع بمباهج الحياة في إسراف وغلو، وقد يكون السبب في ذلك، أنه لم يجد من يمنعه عن الفتنة، أو يعصمه عن الغواية، فقد نشأ يتيماً توفي أبواه وهو في ميعة الصبا الأغر، وتكفل خاله خالد المهندس المدني برعايته، وخالد "المدني" اللقب الذي توافق الناس على منادته به، نسبة للقسم الذي تخرج منه وبرع فيه، كان طموحه الناهض أن يحرر شباب قريته من قيود الماضي. لقد تأثر "المدني" بالحضارة الغربية، التي اطلع على ما فيها من ألوان الحياة، حينما كان طالباً في كلية الهندسة بإحدى جامعات الاتحاد السوفيتي في ستينيات القرن المنصرم، وأراد بعد عودته أن يستأنف حياته الحرة المتهتكة، في قريته الواقعة على ضفاف النيل الأزرق، ولكنه لاقى ضروباً من المشقة، وألواناً من العنت. و"المدني" هذا كان لا يضيق بشيء مثل ضيقه من أعراف وتقاليد المجتمعات التقليدية، التي كانت تستهجن اللذة المحرمة، وتحصي على صاحبها الأنفاس، وتبث حوله العيون، لكل هذه الأسباب كان يستبد به الملل، ويسرع إليه الضجر، وينتظر بفارغ الصبر وظيفته التي يتأهب للنهوض بأعبائها الجسام، فقد تعلم من الغرب كيف يتفانى في أداء وظيفته، ويعرف قيمتها، ولا يقصر في فرائضها، لقد سئم "المدني" من قريته، ومن بساتينها الممتدة، ورياضها الجميلة، لأنه يعيش على غير سجيته وسط أهله وعترته، فهو مضطر لهذا الاحتشام المتكلف، والوقار المستعار، ووالد المهندس خالد الذي كان أول شيء جرى على خاطره بعد عودة ابنه، هو أن يزوجه من بنت أخيه، لذا كان ينتظر أن يثوب إلى ابنه شيء من الرشد، حتى يكمل له مراسم قرانه، فوالد "المدني" يرى أن الزواج عامل أساسي في إصلاح ولده، وأن ولده سيحب بنت أخيه، وسيسعد بهذا الحب، وبهذا ستنتهي قصته مع العبث، وستسكن نزواته بعد حركة، وتخمد شهواته بعد نشاط، ولكن صولات " المدني" في الحق لم يوقفها إلا نسيس الموت. تزوج "المدني" من بنت عمه وهي صبية في الخامسة عشر، أو السادسة عشر من عمرها، ومضى بها إلى مقر عمله في الخرطوم، والصبية التي استولى عليها الخوف المروّع، من فكرة العيش بمعية ابن عمها الذي كانت لا تعرف عنه إلا القليل، أدركت فيما بعد أنه وثيق الصلة بهذه الحركة الفكرية العنيفة، التي تلزم صاحبها بأن يزهد في العبادات والشعائر الدينية، وهذه الحركة التي كانت تتراكم، وتتراكب، حتى غطت مساحات واسعة من أنحاء العالم، قد يعرف الناس من أمرها وقد ينكرون، ولكن" المدني" آمن بها، لأنها كانت تدفعه إلى الغضب الجامح، والسخط العنيف على الأنظمة الحاكمة، كما أنها كانت تذلل له شائك الحياة الاجتماعية التي تتعارض مع طريقته في الحياة، فهذه الحركة مزاج بين التمرد، والعهر، والمعارضة السياسية.
وبعد الزواج عاد "المدني" إلى ما كان عليه، شديد العاطفة، قوي الكلف والحس بالنساء، ولعل الزواج زاده شغفاً وإلحاحاً، فصار يكثر من مغامراته مع الجنس اللطيف وكأنه سيرتحل عن هذه الحياة في القريب العاجل، لقد كانت كل المشكلات التي تتألف منها حياته، كيف يضحي بالقليل من حريته التي يريد أن يحتفظ بها ما وسعه الاحتفاظ، لتتلاءم مع الضروريات التي تقتضيها حياته الطارئة الجديدة التي تحيط به وتؤثر فيه، ولعل الشيء المحقق أنه أحسّ أن والده قد ورطه في هذه الخطوة التي تخالف طبيعته وحريته التي عبث الزواج بحدودها وآمالها، وفي الجانب الآخر أخذت "نفيسة" المشرقة النفس، المبسوطة الأسارير، تراقب زوجها الذي يتهيأ للنهوض وتستطلع حركاته، ونفيسة كما نعلم قد نشأت في قرية على ألوان من العقائد، تقتضي من صاحبها الالتزام بها، مهما لاقى فيها من جهد وضيق، ومن أهم هذه المثل والعقائد طاعة زوجها، والصبر على علاته، وعدم النفوذ إلى دقائقه، هذه الأشياء توشك أن تكون "ديناً" عند ممن هم على شاكلة نفيسة، لأجل ذلك كانت تستحي حتى من النظر إلى ملامح زوجها، ولم تحط هي بتقاطيع وجهه، هل هي غائرة أم عميقة، إلا بعد فترة طويلة من عيشها معه في بيت الزوجية. ونفيسة التي لم تظفر من زوجها إلا بِشْرِ ما تظفر به الزوجات، حرصت بالرغم من معاناتها مع الخيانة، أن تقنع عقلها بأن حياتها مع "المدني" في جملتها وتفصيلها، كانت مزاجاً من الجمال والقبح، والسعادة والتعاسة، واللذة والألم، "فالمدني" الذي يألفها حقاً، ويحبها فعلاً، ولم تتغير عاطفته تجاهها مطلقاً، عجز أن يغل نزواته أو يقيدها، ونفيسة التي لم تترك خيانة "المدني" لها أي قسط من أمل، أو حظاً من عزاء، سعت أن تكبح من جماح زوجها، وتكفكف من غلوائه، ولما فشلت في مساعيها أخذت تضيق "بالمدني"، وتقسو عليه، ولا تلقاه إلا عابسة ساخطة، فضاق بها المدني، وأرسلها مع أولاده الصغار إلى قريته، وحرص على أن يأتي إليهم نهاية كل شهر، فيقضي معهم يومين أو ثلاثة، ثم يعود إلى الخرطوم التي يهيم فيها بكل ما هو جميل ورائع، ويظهر هذا الوله، وذاك التدله بأي امرأة يلقاها، ويتكلف هذا العشق الفاسد إلى أبعد حد، وينخرط في عوالمه وضروبه إلى أوسع مدى.
في هذا البيت الذي انصرفت سيدته عنه، نشأ مرتضى الذي سيقيم حياته على الخطيئة، ويعكف عليها حينما يكبر، مدللاً مرفهاً، وقد ساعده ثراء خاله، وحبه له، وعطفه عليه، ألا تقطب الدنيا جبينها عليه إلا بمقدار، وقد أكتسب مرتضى من هذا البيت باقة من الخصال التي أعانته على أن يشق طريقه في الحياة، وقد أسعفته هذه الخصال أن ينال جل ما أراد، فهو بخلاف هذه الابتسامة الساخرة التي ترتسم على محياه دائماً، كان نابها ذكياً مثل خاله "المدني"، وصاحب سحر طاغ، يستطيع أن يؤثل مكانته في القلوب، وسلطانه على النفوس، كما كان صاحبنا صاحب حظ عظيم من الرقي، واللباقة، وخفة الظل، ومرتضى مثل خاله "المدني" في عشق النساء والافتتان بهن، فما يرى أي غادة هيفاء، في أي روضة فيحاء، إلا سعى لأن يوقعها في أسره، ويسمعها حديثه الماتع الذي يخلب الألباب، ويملأ أذنيها بالوهم، والخيال، والأمل، في زواج قاصد، وبيت رفيع الدعائم، ولكن وعود هذه الشقي على كثرتها لم تستحل إلى زواج سعيد، كانت مجرد وعود يستدرج بها قطيع الحسان إلى مخدعه، ولم يشق مرتضى عقله، أو قلبه، أو ضميره، بمصير ضحيته التي يتحول حبها له إلى غضب عارم، ثم يغسل هذا الغضب العارم، دموع ساخنة لا يتوقف وكفها إلا في مشقة وجهد، ثم تنصرف بعد ذلك محزونة مستيئسة عنه، هكذا تمضي حياة مرتضى كما مضت حياة خاله "المدني" لا يحد حظها من الحركة، ونصيبها من النشاط، إلا علة طارئة تجبر هدير مخدعه على الخفوت، ومرتضى الذي كان يُكْبِر خاله "المدني" ويُعْظِمه، أثار مرضه وهلاكه شططاً عليه، ودفعه لأن يظهر حزناً وأسى لا سابق عهد له به، ثم أخذت الأحداث تتلاقح، والخطوب تتدافع، ففي قريته والجموع ما زالت تترى معزية في فقد خاله، تناول مرتضى طعامه وهو كاره له، ومتبرم به، فإذا بسيارة عسكرية، ينزل منها رجل قاسي الملامح، حاد الغضب، فظ الطباع، لا يعرف العار ولا يرضاه، يجر خلفه شقيقته وقريبتها؛ إنها منى الرائعة، العذبة، التي كانت تذيقه ألواناً من الدعة والنعيم في شقته التي استأجرها خصيصاً لفسقه وضلاله، ولكن ما أسرع ما ضاق بها هي وبنت خالتها سلوى، ولكن مهلاً، ترى ما هو سبب هذه الزيارة الكريمة التي أتحفوه بها؟ قطعاً هم لم يتجشموا المشاق، ويقطعوا كل تلك الرحلة المضنية من أجل إظهار الحزن واللوعة على فقد خاله، ومرتضى الذي كان يعتقد أن حياته ستمضي في هدوء شامل، وسلام كامل، أفسدت عليه منى وسلوى كل شيء، وأبغضت إليه كل شيء، وأحس شيئاً مما تحسه النفس وهي في مثل هذا الموقف العصيب الذي ناله فيه ما ناله من الضعة والصغار، لقد أحس مرتضى لأول مرة بالندم على حياته الناضبة، و داهمه احساس جامح بأنه يبغض خاله الراحل، ويسرف في بغضه، فهو من عبّدَ له هذا الطريق الحافل بالزيغ والآثام، وهو الذي جعل شره أكثر من خيره، لقد أسدلت منى وسلوى أطوار القبول والرضا عن حياته السابقة، وفتحتا له أبواب التوبة، ومددتا له من أسبابها، لقد اضطر مرتضى أمام توبيخ أسرته، وتهديد شقيق منى وسلوى، أن يرضخ ويتزوج منهما، بعدما علم بأن كليهما حامل سفاحاً منه، وأخضعه شقيق "زوجتيه" لأن يوقع على مبلغ طائل من المال في مؤخر الصداق حتى لا يقدم على طلاقهن بعد وقت قصير.
ولم يرد مرتضى نفسه إلى الأمن، وقلبه إلى الطمأنينة طويلاً، ليمضي في تلك التوبة التي سكت صوتها سريعاً، لقد ترك مرتضى تلك الحياة التي ثقلت عليه، بعد أن أجبرته الظروف على الزواج، والزواج كان آخر شيء يطمح إليه، ترك مرتضى إذن منى وسلوى في قريته كما ترك خاله "المدني" نفيسة، وعاد لحياته السابقة، عاد لحريته المسرفة التي يبيح فيها كل لذة، ويمعن فيها في كل مجون، عاد الشقي كما كان يبتكر المعاني، ويتقن الأساليب، ويحسن الاختيار، ويعود نهاية كل شهر لزوجتيه وولديه، تماماً كما كان يفعل خاله "المدني" في حياته، والغريب أن مرتضى بعد أن طافت به هذه الخطوب، ورجع لحياته العابثة، أصبح أكثر قدرة على الحركة والاضطراب، وأميل إلى التروي والانتقاء، وأحرص على الاستمتاع بضروب الملذات في شره وعنف، وسار على هذا النهج حتى حضرته الوفاة، وطوته يد المنون.