اقتصاد

في إيران الاحترام أهم من السلام

الاستثمارات الأجنبية تتدفق على طهران

-
قراؤنا من مستخدمي تويتر
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك

رغم بقاء العقوبات على إيران، يتقاطر المستثمرون الغربيون على طهران، طمعًا برابع أكبر احتياطات نفطية وثاني أكبر احتياطات غازية في العالم، وبإبرام عقود وصفقات بالمليارات.

جلس دانيل بيرنبك في سيارة رباعية الدفع، رمادية وسط زحمة السير في طهران، التي يقول إنها مدينة قاتلة بصخبها وتلوثها واحتقاناتها المرورية، دونما حاجة إلى عقوبات دولية أو تهديدات بضربة عسكرية.

جانب مظلم

يرن هاتف بيرنبك الخلوي لتخبره سكرتيرته الإيرانية أنها تنتظره، لأن نائب السفير الالماني وصل إلى المكتب، ومعه مصرفيان استثماريان من لندن وهونغ كونغ، ويطلبون معلومات عن أسهم إيرانية. يسأل بيرنباك متعجبًا: "اسهم إيرانية في هونغ كونغ؟"، ثم يقول بالفارسية التي يتكلمها بطلاقة: "إن المصرفيين نفسيهما كانا سيقولان قبل عام إن هذا جنون". ثم يطلب من السائق أن يسرع، وإن كان طلبه بلا جدوى في زحمة السير.

بيرنبك هو رئيس غرفة الصناعة والتجارة الالمانية ـ الإيرانية، ومهمته تعبيد الطريق لاقامة علاقات تجارية في إيران،التي يحاول السياسيون الغربيون منذ عقود أن يجعلوا مثل هذه العلاقات تحديدًا متعذرة، لا سيما منذ العام 2006، حين بدأت إيران توسع برنامجها النووي مثيرة مخاوف المجتمع الدولي.

وعلى امتداد خمس سنوات، يعيش بيرنبك بين عالمين متنازعين، أو "في الجانب المظلم من المريخ حيث يعيش آكلو لحوم البشر وناكرو المحرقة النازية ضد اليهود"، كما يقول بيرنبك عن طريقة الغرب في تصوير إيران.

محطة مهمة

لكن الوضع تغيّر، ولاح أُفق أكثر اشراقًا منذ 24 تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي، يوم توصلت الدول الخمس دائمة العضوية في مجلس الأمن، زائد المانيا، إلى اتفاق نووي مع إيران في جنيف، يهدف إلى فتح صفحة جديدة في غضون ستة أشهر. وينص الاتفاق على وقف إيران عناصر من برنامجها النوووي وتفكيك عناصر أخرى مقابل تخفيف الغرب عقوباته الاقتصادية.

ويعتقد بيرنبك أن الاتفاق يتيح فرصة لا تتوافر إلا مرة في كل قرن، كان ينتظرها بصبر رغم أن هذه الفرصة يمكن أن تُجهض، مثلما حدث في العام 2005. واليوم، بعد ثماني سنوات، تخلى الاميركيون عن مطالبتهم بتفكيك برنامج إيران النووي بالكامل، فيما أجبرت العقوبات الدولية والتهديدات بضربة عسكرية إيران على الجلوس إلى طاولة المفاوضات.

ولم تشهد السنوات الثلاث الماضية أي صفقات أو تحويلات مصرفية بين إيران والعالم الخارجي، فيما هبطت عائدات تصدير النفط الإيراني بحدة. والصينيون وحدهم ما زالوا يستوردون نفطًا إيرانيًا، لكنهم يسددون ثمنه بجرافات ومكائن بناء بدلاً من العملة الصعبة.

شكوك الحرس القديم

قصمت العقوبات ظهر الاقتصاد الإيراني، لكن الإيراني محمود حسين رافع لا يعتقد ذلك، بل يقول إن العقوبات زادته فخرًا ببلده. وينتمي رافع إلى جناح المحافظين والمتشددين من اتباع آية الله الخميني، وناضل في السبعينيات ضد نظام الشاه، ثم قاتل في الحرب الإيرانية ـ العراقية، وعمل فترة طويلة بعد ذلك في اجهزة الاستخبارات الإيرانية. وهو الآن موظف، على ما يُفترض، في معهد للمقاييس الاسلامية في الانتاج الصناعي.

ويرى رافع أن إيران نهضت في مواجهة الضغوط الدولية لتصبح دولة كبرى في العلوم والبحوث. ويقول رافع إنه لا يؤمن بالسلام أو المفاوضات النووية الحالية، وأن "اوباما يريد الحرب". ونقلت مجلة شبيغل اونلاين عن رافع قوله إن 50 ألف إيراني تطوعوا للقيام بعمليات انتحارية إذا اندلعت مواجهة مسلحة، لكنه رفض أن يكشف هوية المنظمة التي جندتهم.

ويتعين على الرئيس الإيراني حسن روحاني أن يكسب رافع وأترابه إلى سياسته القائلة إن زمن الثورات انتهى، والمطلوب تطور تدريجي بلا هزات. وقال بيرنبك إنه من الممكن استمالة محافظين مثل رافع إذا جنوا مكاسب مادية من الصفقات التجارية التي تُعقد مع العالم الخارجي.

كما يحتاج روحاني إلى نجاحات اقتصادية يقدمها لشعبه، وعليه أن يُنهي العقوبات المفروضة على إيران، لكن الأهم من ذلك أن يتحرك أسرع من معدلات التضخم الذي تتآكل بسببه الدخول المحدودة اصلًا لملايين الإيرانيين. فإن الحد الأدنى للأجر الشهري في إيران يبلغ 140 يورو أو 190 دولارًا فقط.

أفواج المستثمرين

ويعاني الإيرانيون تحت وطأة العقوبات والمقاطعة التي لا يحمِّلون الاميركيين وحدهم المسؤولية عنها. فإن سعر البنزين تضاعف عدة مرات، والحليب والجبنة يكلفان الآن ثلاثة اضعاف سعرهما قبل عامين. لكن يبدو أن المفاوضات النووية يمكن أن تحدث انتعاشًا اقتصاديًا في إيران. ورغم بقاء العقوبات دون الغاء أي منها حتى الآن، فإن افواجًا من المستثمرين الغربيين يتقاطرون على طهران طمعًا برابع اكبر احتياطات نفطية معروفة في العالم، وثاني اكبر احتياطات غازية. ويمكن أن تُبرم في هذه المدينة عقود وصفقات بمليارات اليوروهات.

اخيرًا وصل بيرنبك إلى ساحة وقوف السيارات تحت الأرض. وفي طريقه إلى مكتب غرفة الصناعة والتجارة الالمانية ـ الإيرانية بالمصعد، يعدد اسماء الدول التي توافد مستثمروها على طهران، باستثناء الالمان.

ويروي بيرنبك قصة يعتقد أنها ترسم صورة دقيقة للوضع في إيران، إذ اتفقت دول الاتحاد الاوروبي ألا يحضر مسؤول اوروبي رفيع مراسم تنصيب روحاني. لكن في اليوم التالي على تنصيبه، ارسلت روما مبعوثًا رفيع المستوى ليهنئ رئيس الدولة الإيراني الجديد شخصيًا. والآن، تحط في المطارات الإيرانية طائرات "مليئة بالايطاليين"، كما يقول بيرنبك، بينهم مدراء من شركة ايني العملاقة للطاقة. ووقعت فرنسا عقدًا بالمليارات لتجديد عقد تجهيز شركة خوردو الإيرانية لصناعة السيارات بمكونات بيجو.

وأضاف بيرنبك لمجلة شبيغل اونلاين: "إن الاميركيين اصلاً موجودون، ممثلين بشركتي اكسون موبل وشيفرون وبشركات أخرى"، موضحاً أن الاميركيين مسؤولون عن تجديد المنشآت النفطية العتيقة وصناعة المشتقات النفطية إلى جانب التنقيب عن حقول نفطية جديدة، "وهذه تجارة هائلة قيمتها مليارات اليوروهات"، على حد تعبيره.

صدمة ثقافية

ألقي بيرنبك التحية بالفارسية على اعضاء مجلس ادارة غرفة التجارة الذين كانوا ينتظرونه. ينحني بيرنبك انحناءة خفيفة ويضع يده على قلبه اثناء التحية. فهو رجل يعرف إيران وتقاليدها. ففي طهران كانت نشأته إبان السبعينات، بوصفه الابن البكر لقس بروتستانتي. وكان شاهدًا على الطفرة النفطية في عهد محمد رضا شاه بهلوي. وبعد سنوات قليلة، طلب ابنة شاه إيران فرحناز للرقص بعد يوم من التزلج على الجليد في منتجع شتائي رائع في الجبال التي تطل على طهران.

ثم قامت ثورة 1979، وفي ظل الجمهورية الاسلامية الفتية انخرط العديد من اصدقاء بيرنبك ايام الطفولة في قوات الحرس الثوري. وحين بدأت الحرب العراقية ـ الإيرانية في العام 1981، وفُرض التعتيم في انحاء طهران بسبب الغارات الجوية، كان بيرنبك يمضي وقته في القبو مع والديه واخوته واخواته.

وحين عاد بيرنبك إلى إيران بعد 26 عامًا على سنوات تكوينه فيها، تعين عليه أن يواجه صدمة ثقافية ايضًا. فإن غرفة التجارة كانت غارقة في فساد شبكة إيرانية أشبه بالمافيا، قبل أن يتولى رئاستها. ويعمل بيرنبك اليوم على غرس مفاهيم مثل الشفافية والصدق، وهي مهمة ليست دائما سهلة.

فقبل فترة ليست بعيدة، دس احد موظفيه في يده مظروفًا بداخله عملة ذهبية في محاولة لرشوته. وكان المطلوب من بيرنبك أن يبذل مجهودًا خاصًا لصالح شخص معين. لكنه أعاد العملة الذهبية إلى صاحبها بنفسه وقال: "أرسل لي باقة زهور أو كعكة، لكن لا شيء يزيد سعره على 100 الف تومان (نحو 30 يورو)".

الاحترام أهم من السلام

بيرنبك عاش في الغرب وإيران، لذا يستطيع أن يتخيل بسهولة كيف اقتربا من الحرب. يقول إن الأمر يرتبط بسلسلة من المواقف التي قد لا يفهمها الطرف الآخر. فإن راديكاليًا ساخطًا مثل الرئيس السابق محمود احمدي نجاد ما كان ليُنتخب إلا لأنه كان يمثل ارادة الاستقلال، حتى إذا أهدر مليارات على البرنامج النووي ودمر الاقتصاد وربما هدد السلام العالمي. ويقول بيرنبك إن الإيرانيين ظنوا أن احمدي نجاد سيعيد للبلاد احترامها، فالاحترام بنظر الكثير من الإيرانيين أهم من السلام.

يعد بيرنبك حقيبته ويرتدي معطفه للقيام بزيارة رسمية إلى الرئيس الجديد لغرفة الصناعة والتجارة الإيرانية، حيث ينتظر في طابور للقائه ممثلو شركات من انحاء العالم. وفي الطريق على جادة ولي العصر شاهد بيرنبك شابًا وشابة يمشيان بيدين متشابكتين وكان حجاب الفتاة بالكاد يغطي شعرها في محاولة غير جادة للالتزام بالقانون. وكانت الفتاة تضع احمر شفاه براقًا وآي لاينر. وكانت تمشي وراءهما شابات محافظات يرتدين عباءات تغطي الجسم من الرأس إلى القدم.

قال بيرنبك إن إيران أمة منقسمة. فالكثير من الإيرانيين يتطلعون إلى الحرية والفردية، والبلاد التي يحلمون بها هي الولايات المتحدة، على حد زعمه. بينما هناك إيرانيون ما زالوا يرددون شعارات مستهلكة مثل "الموت لأميركا" بعد صلاة الجمعة.

تحت الأرض

يريد روحاني دفع عجلة الاقتصاد، لكنه محاصر بقواعد صارمة تحكم المجتمع الإيراني. فالفتاة صاحبة المكياج في جادة ولي العصر يمكن أن تُعاقب على ايدي شرطة الآداب العامة. ويرى بيرنبك أن الاقتصاد قد يغيّر البلد، ولكن السؤال هو ما إذا كان هناكانفتاح اجتماعي ايضًا سيأتي مع المال والازدهار.

ومنذ تولي مقاليد الرئاسة، اشتد الضغط الواقع على الشباب الإيراني أكثر مما كان في الايام الأخيرة من ولاية احمدي نجاد. فإن شرطة الآداب العامة تداهم الحفلات الخاصة، وتُغلق مواقع على الانترنت والمسؤولون عن ادارتها يُسجنون. ويُشنق الآن عدد متزايد من المحكومين بالاعدام بتعليقهم من رافعات البناء في شوارع المدن.

وانكفأ الشباب تحت الأرض بالمعنى الحرفي للكلمة، إذ يُقام العديد من الحفلات والفعاليات الموسيقية والمعارض الفنية في الأقبية والسراديب، لأنها أرخص ولأن منظميها يخافون من الملاحقة. وقالت قيلاره شيباني: "انهم يلعبون معنا، ينعشون آمالنا ويضيعون وقتنا وأنا ليس عندي الكثير من الوقت".

وتتذكر قيلاره في سن الثامنة والعشرين الآمال العريضة التي علقتها على محاولات الاصلاح السابقة التي باءت بالفشل في نهاية المطاف، والآن يعتزم المحافظون في البلاد إفهام روحاني بأنهم ما زالوا اصحاب الكلمة الأخيرة.

تعمل قيلاره مغنية، لكن المرأة ممنوعة من الغناء الفردي في إيران بسبب تأثيره "الايروتيكي" على الرجل، بحسب ما يقول الملالي. غير انها قررت احتراف الغناء، وهي الآن تحيي حفلات في الخارج بصورة منتظمة.

يعود بيرنبك إلى بيته حيث عليه أن يعمل إلى ساعة متأخرة هذه الأيام بسبب كثرة الوفود الأجنبية التي تتوافد على طهران. يفتح بيرنبك بريده الالكتروني ويجد ثلاثة طلبات جديدة من المانيا لتزويد اصحابها بمعلومات عن الاستثمار في إيران. فالمستثمرون الالمان يأتون متأخرين إلى إيران ولكنهم آتون رغم ذلك.

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف