آخر منتجي الملح في لبنان يخشون اندثار مهنتهم
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
انفة: أمضى الرجل التسعيني الياس النجار اكثر من نصف قرن من عمره في استخراج الملح من مياه البحر على شاطئ مدينته في شمال لبنان، لكنه وأقرانه الذين باتوا قلة، يخشون اليوم من اندثار مهنة لم يعرفوا سواها.
وبعدما كان استخراج الملح بالطرق التقليدية رائجاً على السواحل اللبنانية، بات يقتصر حالياً على شاطئ مدينة أنفه الواقعة على بعد 80 كيلومترا شمال بيروت.
ويخشى العاملون في هذا المجال ان تحرمهم السلطات اللبنانية من الملاحات القليلة المتبقية في انفه لتبني مشاريع استثمارية ضخمة على شواطئ البحر في بلد تكثر فيه التعديات على الاملاك البحرية.
وبنى الياس الملاحات بعدما استأجر الارض في العام 1952، ولم يبق الا القليل منها صالحا للعمل اثر تضررها على مر السنين من دون ان تسمح السلطات بترميمها.
ويقول بأسى لوكالة فرانس برس "هذا فقط ما تبقى من الملاحات".
ويضيف "في الخمسينات، كنت انتج وحدي ٣٠٠ طن من الملح، اما اليوم فأنتج في احسن الاحوال ٣٠ طناً".
ويشرف الياس الذي وضع قبعة تقيه حرارة الشمس، على قلة من العمال المتبقين معه، يجمعون الملح في أكياس بلاستيكية بيضاء قبل ان يغلقوها بإحكام عبر خياطتها ثم يضعونها جانباً.
- "الفترة الذهبية" -
وشهد هذا القطاع على مر العقود انتكاسات عدة بدأت بنقص اليد العاملة خلال الحرب الاهلية (1975-1990) وصولا الى إلغاء الرسوم الجمركية عن استيراد الملح من الخارج.
ويقول حافظ جريج (67 عاما) الذي يملك ملاحات خاصة على شاطئ أنفه لفرانس برس، إن الملاحات في لبنان كانت تستخرج بين العامين 1955 و1975 حوالى "50 الف طن" سنويا، و"لم يكن لبنان بحاجة للاستيراد، حتى ان الدولة كانت تفرض ضريبة 200 في المئة على استيراد الملح".
ويصف الخمسينات بـ"الفترة الذهبية".
لكن الامور تغيرت تماماً في العام 1975 مع اندلاع الحرب الاهلية التي استمرت 15 عاما وكانت احدى نتائجها موجات هجرة من لبنان الى دول العالم. ومن بين الفارين الكثير من اصحاب الملاحات والعاملين فيها.
وبمغادرة هؤلاء بدأ انتاج الملح بالتراجع تدريجياً مقابل ارتفاع الطلب، ما دفع السلطات في العام 1990 الى الغاء الرسوم الجمركية على الملح المستورد من الخارج. ولم يعد المنتجون المحليون قادرين على منافسة المنتجات المستوردة باسعار زهيدة.
في العام 1994، توقفت السلطات عن جمع الضرائب من منتجي الملح. وتوقفت البلديات بعد ذلك عن قبول طلبات الملاحين بالسماح لهم بصيانة الاحواض، ما ساهم في تهميش هذه الصناعة مع تضرر الأحواض تدريجياً.
وبحسب جريج، باتت نصف الاحواض في أنفه منذ العام 1994 غير صالحة للاستعمال.
ويحمل جريج بشدة على السلطات ويقول "اذا لم يتمكنوا من هدم الملاحات، يريدون وقفها عن العمل ليصبح من السهل اكثر على حيتان المال أن يشتروا الاراضي ويبنوا عليها منتجعاتهم".
ويعرب عن اعتقاده بأن "الاراضي التي تقع عليها الملاحات ستُسلم للمتمولين".
لكن المتحدثة باسم بلدية أنفه كريستيان نقولا تنفي ذلك بشدة. وتقول "ليس هناك اي اثبات على ان السلطات تريد تسليم الشاطئ الى اصحاب المال".
وتوضح "في العام 2010، توقفت الدولة عن استيفاء الرسوم الضريبية على الملاحات لانها اعتبرتها تعدياً على الاملاك البحرية العامة وبات الحصول على تراخيص لاصلاحها وترميمها صعباً".
- "نحن الاساس" -
وسط هذه الصعوبات، يكد منتجو الملح في أنفه حالياً لمواصلة عملهم. ويتطلب استخراج الملح جهداً كبيراً في فترة زمنية محدودة. إذ لا يمكن القيام بذلك الا خلال أشهر الصيف. وتتجمع المياه في البداية عبر مضخات تتلقى الطاقة من طواحين هوائية صغيرة في مربعات اسمنتية بعمق متر واحد. وتبقى المياه في المربعات التي تصل مساحتها الى 20 مترا مكعباً نحو 20 يوماً، بحسب قوة حرارة الشمس.
وتنقل المياه المركزة لاحقاً الى مربعات اقل عمقاً وتترك عشرة ايام لتتبخر نهائياً وتبقى كتل الملح الابيض تلمع تحت اشعة الشمس الحارقة.
ويعمل منتجو الملح على تصريف انتاجهم لتجار وافراد بقيمة تتراوح بين دولارين واربعة دولارات للكيلوغرام الواحد.
ويوضح دانييل فارس (37 عاماً)، وهو صياد يشتري الملح من جريج ويستخدمه في صناعة "مخلل سمك السردين"، "هنا مصدر الملح معروف (...) وأفضل من المستورد، لا مواد اضافية موجودة فيه".
وبشرائه الملح من جريج، يقول فارس "نشجع اولاد قريتنا الذين يعملون في مهنة ورثوها عن اهلهم".
في غضون ذلك، يحاول جريج الحفاظ على ملاحاته ويشارك في حملات شعبية تطالب بحماية الاملاك البحرية في لبنان من أطماع المستثمرين.
ويقول وهو يقف قرب اكياس من الملح "ملاحاتنا ليست تعدياً على الاملاك البحرية العامة مثل المشاريع السياحية".
وتقدر التعديات على الاملاك العامة البحرية والتي حصل الجزء الاكبر منها ابان الحرب الاهلية وفق تقرير قدمته وزارة الاشغال الى الحكومة العام 2012، بنحو 1200 تعد، على مساحة تبلغ نحو خمسة ملايين متر مربع.
وتشمل هذه التعديات خصوصا منتجعات بحرية.
ويتابع جريج بانفعال "ليس لدينا مياه صرف صحي تصب في البحر في أنفه مثل المشاريع التي تسمى سياحية. لا نمنع الناس من النزول الى البحر، لا نشوه البحر ولا نلوثه. نحن هنا الاساس".