قصيدة النثرالأمريكية من بو إلى ايدسن
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
رعاة قصيدة النثر الأمريكية (5)
بقلم داڤيد ليهمان
ترجمة : علي أبو خطاب
القسم الأول
في ديسمبر 1978 صوتت لجنة من ثلاثة أشخاص على منح جائزة پوليتزر في الشعر لمارك ستراند عن كتابه "الصرح". لقد كانت نقلة جسورة. كان "الصرح" أي شيء سوى كتاب تقليدي في الشعر المنظوم. كان يتألف من تأملات شعرية نثرية قصيرة حول موضوع الموت، مع عبارات للمؤلف تـُقدم في مناظرة مع اقتباسات من شكسبير، أونامونو، السير توماس براون، نيتشه، والاس ستيڤينز واقتباسات أخرى وآخرين ممن لهم تجارب مع الفناء. في النهاية على أية حال، لم يفز ستراند بالجائزة لأن المحكم الثالث - رئيس اللجنة لويس سمپسون- عارض الاختيار بشدة. لقد رفض سمپسون "الصرح" على أساس سيطرة النثر عليه. لقد جادل بأن الجائزة الرفيعة خُصصت لتكريم النظم. هذا الجدال بدوره سيطر على مسؤولي پوليتزر الذين اعتمدوا على توصيات اللجنة. يـُعجب القارئ بـ"الصرح" لأسلوبه المميز حيث المراوغة واللامألوف والخروج عن التصنيفات الكلاسية، لكن هذه الخصائص كانت ضده حين جاء وقت التقييم. كان واضحاً حينها أن النثر لم يكسب القبول بعد كوسيط لكتابة الشعر. الشعراء الذين كانوا يكتبون هذا النمط كانوا لا يزالون في مواجهة مع الاعتراف الرسمي، وفي بعض الأحيان (أشبري في "ثلاث قصائد" وميروين في "أطفال عامل المنجم الشاحبون") رغم توجسهم الخاص من مصطلحات قصيدة النثر وشعر النثر، تلك المصطلحات لمـّحت لعلاقة مع تراث فرنسي حداثي كان الشعراء الأمريكيون واعين به لكن بمسافة لائقة. وقد لاحظ تشارلز سيميك "أن قصيدة النثر لها تميز لامألوف جعلها جديرة بالاعتبار مع شبهة ليست من قبل الكارهين المعتادين للشعر فقط، بل من كثير من الشعراء أنفسهم.
لذا، عندما فاز سيميك پوليتزر عام 1991 عن "العالم لا ينتهي" بدا ذلك بشكل مزدوج كحدث هام وعلامة ليس فقط في شهرة سيميك بل وفي مكانة قصيدة النثر نفسها. إن مشروعيتها كشكل أو كجنس أدبي مع ميل خاص للشعراء الأمريكيين أصبح لا يمكن إنكاره بعد. كتاب سيميك الفائز بـپوليتزر -مثل كتاب ستراند المنحوس قبل ثلاثة عشر عاماً- يتكون أساساً من قصائد نثر كانت متحدية ونجحت. قبل ذلك كان يـُظن أن النثر لن يصل لمستوى الجمال المفترض في النظم، الكتابة لم تكن "شعرية" بشكل واعٍ ذاتياً. على النقيض من ذلك كان النثر في هذه القصائد حاسماً في نجاحها، رغم طبيعتها النثرية التي قد تقلل من قيمتها.
قصائد النثر في "العالم لا ينتهي" موجزة وزائدة وأحياناً باردة ومظلمة: كثير منها كان يعبر عن طفولة سيميك في بلگراد أثناء الحرب العالمية الثانية. نزوة غريبة خلقتْ ذاكرة قاسية من الدخان وضباب ليس أقل ضراوة لكن ربما أكثر تعلقاً. إحدى قصائد النثر غير المعنونة تبدأ بـ: "لقد سرقني الغجر، والداي سرقاني ثانية، ثم سرقني الغجر مرة أخرى. هذا حدث في زمن ما".
هذا التتابع في الجمل -وليس الأسطر- ينتقل بنا لسرعة أكبر من النظم، ثم تأتي الجملة الصياغية الأخيرة لتبطئ الحركة. النتيجة هي جعل غير العادي يبدو بشكل ما نظاماً، ويقترب من إيقاع السرد النثري. في قصيدة أخرى نجد الجملة الافتتاحية تقدم استعارة، أما البقية فتستفيض في دعم تجليها: "كنا فقراء جداً، يجب أن آخذ مكان الطعم في شبكة مصيدة الفئران".
كما حدث فإن المطلع الافتتاحي من الجملة يكشف بشكل تام عن شعر مرسل، لكنه يملك قوته الخاصة لخلق التوتر بين رتابة المعنى والانعطاف المرعب في الحبكة. بوضع أسلوبه النثري المقتضب في خدمة الفنتازي والسيريالي، وجد سيميك طريقه لاحتواء حالته الأجنبية في تجربته الصبيانية في يوگوسلافيا. استخدام سيميك للجمل البسيطة التصريحية - وأحياناً المنفصلة السريعة- أعاد إلى الأذهان الأسلوب النثري لرفيقه خريج مدرسة أوك بارك (إلينويس) العليا إرنست همنگواي والذي كان رائداً لقصيدة النثر.
من الممكن قراءة قصائد سيميك النثرية كسرد حُلُمي ينتهي بشكل حاد فجائي وكلغز محيّر، وربما تقريباً تعاملهم كقصة نثرية لولا إيجازهم المتطرف وأسلوبهم الغامض في إنجاز الحلول، والنية الشعرية التي لا تخطئ للمؤلف. أخبر سيميك أحد محاوريه بأن كتابه عبارة عن "ترميزات سريعة" و"أفكار لقصائد" كُتبت بشكل عشوائي ونشط، لقد قال بأنهم انبعثوا من مكان ما حيث دوافع النثر والشعر تتضارب. "ما الذي جعلهم قصائد؟"، "ما يجعلهم قصائد أنهم مكتفون ذاتياً، وحالما تقرأ قصيدةً تجد نفسك مضطراً للرجوع وإعادة القراءة ثانية، هذا ما تفعله القصيدة".
ما هي قصيدة النثر؟ التعريف الأقصر والأفضل هو تقريباً ترادفياً. قصيدة النثر هي القصيدة التي تُكتب بشكل نثري أكثر منه نظماً. على الصفحة تبدو كفقرة أو قصة قصيرة متشظية، لكنها تفعل فعل قصيدة. إنها تتشكل في جمل أكثر من أسطر شعرية، وباستثناء كسرها للسطر الشعري فإنها تستخدم كل تكتيكات واستراتيجيات الشعر. ومثلما تجاوز النظم الحر التفعيلة والإيقاع، فإن قصيدة النثر تجاوزت السطر كوحدة للموضوع. إنها تستخدم وسائل نثرية لغايات شعرية.
ربما يمكنك القول أن قصيدة النثر هي شعر يموّه طبيعته الحقيقية، في قصيدة النثر يمكن للشاعر أن يضمن نماذج مستبعدة مثل مقالات الصحيفة، المذكرات، القوائم، الحكايات، الكلام والحوارات. إنه يشكل منهلاً باستخدامه اللغة الشعبية وبعزمه وضع منابع الشعر -بشكل متحدٍ- بعيداً عن منبعها من جبل هيليكون المقدس لربـّات الإلهام. إنه حداثي بشكل ملحّ. البعض قد يجادلوا بأنه يكون -أو كان- بشكل فطري هداماً. مارگوتيت ميرفي ترى في كتابها "تراث الهدم" 1992 أن ثمة طابع عدائي يسم هذا الجنس الأدبي. آخرون انجروا وراء صيغة ترميزية تربط بين قصيدة النثر وخطاب الطبقة العاملة التي تقلل من شأن البنية الغنائية للبرجوازية العليا. كثير من الأمثلة والسوابق تستعصي أو تصارع هذه الفكرة السلسة، وبدأ المعلقون بالتأكيد على شمولية هذا الجنس وليس على خواصه الهدامة المزعومة. في حين يبدو أحياناً أن التعميم الوحيد الذي يمكن أن تقوله بأمان فيما يخص قصيدة النثر هو أنها تقاوم التعميم، نجد أن مصطلحات معينة تتكرر في المقالات والنقاشات النقدية. قصيدة النثر هي جنس هجين وشاذ ما لم يكن متناقضاً أو تناقضي بشكل ملطَّف. إنه يقدم فتنة الهروب سواء من السلسلة اللامرئية من الأنا الأعلى أو من السيطرة الثقيلة للسطر الإسكندري الذي كسره تشارلز بوديلير بحماس في قصائده النثرية القصيرة 1862 والتي افتتحت جنساً جديداً في فرنسا. وعاجلاً أو لاحقاً في نقاشنا سيقال أن قصيدة النثر -التي وُلدت كتمرد على التراث - أصبحت في حد ذاتها تراث. وسيلاحظ بشكل يلاقي القبول أن قصيدة النثر تطمس الحدود. "تربيتي الأدبية الرسمية لا تتفق مع ما يسمى بالإنجليزية "قصائد نثر" وأنا لستُ متأكداً إطلاقاً ما الجنس الذي يتوجب علينا" هذا ما كتبه دبليو.إس. ميروين في 1994 حين أعاد طباعة "أطفال عامل المنجم الشاحبون" (1970). وأضاف "لقد أحييتُ ما اعتقدتُ أنه سوابق: أجزاء مبعثرة، مقالات، مطالع صحفية، تعليمات وقوائم، حكايات شفهية وخرافات. ما كنت أتطلع إليه هو جعل القصيدة كاملة، لكن ما كنت أكتبه كان نثراً وكنت مسروراً حين أثارت هذه المقاطع الأسئلة بخصوص الحدود بين الشعر والنثر، وأين نعتقد أنها يمكن أن تكون".
يبدو أن كلمتي شعر ونثر ندّان طبيعيان. شاعر النهضة الفرنسي پـيير رونسارد يرى بأنهما "عدوّان قاتلان". كان ماثيو آرلوند يلعن الشعراء درايدن وپوپ ويسميهما "كلاسيي نثرنا". أوسكار وايلد هذّب بذكاء هذه الإهانة: "ميريديث هو براونگ النثر، وهكذا براوگ، فقد استخدم الشعر كوسيط لكتابة النثر". في هذه الأمثلة النثر هو الذي يحمل الشحنة السالبة، لكن العكس يمكن أن يكون صحيحاً أحياناً. لن يشتكي كل شاعر يُتهم بكتابة الشعر النثري ما دام يرى في بودلير باريس 1862 مثالاً له. بلا شك أن الشعر والنثر سيستمران في الوجود في علاقة تناقضية، لأنهما - خاصة الشعر- لا يصفان بشكل حيادي بل يحويان معنى تقييمياً. هذا يُعقد أي نقاش يخص قصيدة النثر، وربما يذكرنا دوماً بطبيعته التناقضية الملطفة. برغم ذلك ثمة طريقة واحدة للحسم، فبمجرد أن نقبل أن النظم هو أمر تجميلي للشعر وليس خاصية ضرورية حينها يتقلص التناقض في مصطلح قصيدة النثر. إن النظم والنثر هما ضدان حقيقيان، والاختلاف الصامت بينهما هو في كون حدوث النظم في سطور شعرية بطول معين يحددها الشاعر، في حين يستمر النثر لنهاية الصفحة. حسب عبارة ريتشارد هاوارد فإن النظم يتوقف -حيث ينتقل القارئ عند نهاية السطر- بينما يواصل النثر. إن شكل قصيدة النثر ليس غياب الشكل، الجملة والفقرة يجب أن تحلاّن محل السطر والفقرة الشعرية، و نلاحظ فيها قوانين أقل وتقاليد مسيطرة أو قواعد وتراث مختلف، لأن قصيدة النثر تاريخها قصير نسبياً وتمتعت بطبيعة لا منتمية معظم ذلك الوقت. لذلك يمكن أن تبدو كتابة النثر أكثر تحرراً وخروجاً عن المألوف. إنها شكل يدعو ممارسه أن يعيد إبداعه.
التعريف الأنجح جاء كقول مأثور من تشارلز سيميك "قصيدة النثر هي نتيجة دافعين متناقضين -الشعر والنثر- ولذا لا يمكن أن تتواجد لكن أن تفعل". وأضاف "هي حالة فريدة حيث تكتمل الدائرة". في موضع آخر يقترح سيميك تشابه بين التفنن في المأكولات وهذا "الهجين الأدبي الحقيقي"، هذا "الخليط المستحيل من الشعر الغنائي والحكاية والخرافة والقصة الرمزية والنكتة والكتابة الصحفية، وأنواع أخرى من النثر". قصائد النثر هي "معادل لأطباق طعام مثل الباتيليه والبامية والتي تحوي تنوع كبير في المحتويات والنكهات، وهذا في النهاية بفضل فن الطبخ، الذي هو خليط بشكل أو بآخر، عدا ذلك فإن هذا التوازي ليس دقيقاً. إن الشعر النثري لا يتبع وصفة معينة ، الأطباق التي يخترعها لا يمكن التنبؤ بها، وغالباً تتنوع من قصيدة لأخرى". وفي فلك الاستعارة المطبخية يعلّق جيمس ريتشاردسون قائلاً أن الطبيعة المتنقلة لقصيدة النثر لها علاقة بالطماطم، التي قد تكون فاكهة في التصنيف النباتي لكنها تصبح من الخضراوات إذا أردتَ أن تعدّ سلطة فواكه.
مشكلة المصطلحات تبدو كـ"ثألول يؤرق الإنسان السعيد" كما تلاحظ ماريان مور في محاولاتها لتمييز الشعر عن النثر. آمي هيمپل لخصتْ بعض الآراء في عنوانها لمحاضرة خططنا أنا وهي لإلقائها سويةً في كلية بننگتون: "قصيدة النثر، اختصار الاختصار أو اللامنتهية؟" ستكون دائماً ثمة استثناءات، أي قطع نثرية تتحدى التصنيف، أو تصلح لأكثر من تصنيف، لكن الطريقة العملية للاستمرار هي التفريق بين العمل الذي يتصوره الكاتب كقصة وبين العمل الذي يتصوره كشعر. إن الكُتاب غير مجبرين لتصنيف كتاباتهم أمامنا، لكن نواياهم - إذا ما صرّحوا بها- يمكن أن تكون قاطعة. بالنسبة لكاتب القصة فإن قصيدة النثر (أو "اختصار الاختصار") ربما تكون منعشة للروح لأنها تدع فرصة للهروب من مقتضيات الرواية والرواية القصيرة والقصة القصيرة. لكن الكاتب رغم ذلك، ربما ينظر للنتيجة كرواية وليس كشعر. أما بالنسبة للشاعر فإن كتابة النثر تكسبه مدخلاً لعالم الإمكانية الشكلية -حيث تكون القصيدة كحكاية أو رسالة أو وسيط أو ملخص لحبكة- لكن ما ينتجه يظل في تصوره قصيدة. (التدخل التحريري يمكن أن يُعقد المسائل. كينيث كوخ كان مسروراً لأن ثلاث مقطوعات من كتابه "فندق لامبوسا" اختيرت لجائزة "قصائد النثر الأمريكية العظيمة"، ورغم ذلك فقد قال لي أنه لا يعتبر هذه المقطوعات قصائد نثر بل قصص بأسلوب ياسونارا كواباتا في مجموعته "قصص راحة اليد"). من بين المصطلحات المتداولة الآن يبدو أن "اختصار الاختصار" كالملبس الداخلي أو "القصة الومضة" التي تستحضر صورة شخصية غير حليقة في معطف شتائي يغطيه التراب، و"قصيدة النثر" تبدو قليلاً كصوف التويد المكون من ألوان مختلفة. قصيدة النثر تفيد للشاعر حيث لديها على الأقل فضائل البساطة والمباشرة. ربما جاءت المفارقة في قصيدة النثر من اللحظة التي استلم فيها أورسون ويلز قطب صحيفة "سيتيزين كان" برقية من مراسله تقول: "الفتيات مبتهجات في كوبا، هل أرسل لك قصائد نثر عن المشهد؟ لكن لا أنصحك أن تنفق نقودك، ليست هناك حرب في كوبا"، فردتْ الصحيفة عليه قائلة: "زوّدنا أنت بقصائد النثر، وسأزودك أنا بالحرب".
لم يكن بودلير أول من كتب قصيدة النثر في فرنسا، لقد سبقه ألويزيوس برتران في عمله الملفت والذي لم ينل قدره "گاسبار الليل" في 1842، لكن كان بودلير هو من افتتح هذا الجنس الأدبي ومنحه اسمه وإقامته المحلية. لقد أعطى كتابه عناوين بديلة إحداها كان "المزاج السوداوي لباريس" والآخر هو "قصائد نثر قليلة". في رسالة لصديقه يكتب بودلير عبارة يقتبسها الدارسون منذ ذاك الحين: "من بيننا من لم يحلم -في لحظات طموحة- بمعجزة نثر شعري، موسيقى بلا تفعيلة أو إيقاع، مرن وقوي بشكل كافٍ ليكيّف نفسها للدوافع الغنائية للروح وتموجات النفس وهزّات الوعي؟". وليتحرر من المتطلبات المستعصية للنظم الفرنسي الرسمي، كتب بودلير بطاقة جهنمية أن الوسيط النثري يساعدنا على التحرر. لقد وظـّف مفارقة قاسية ربطتْ بين المعاناة والضحك. باريس هي المكان وأحياناً الموضوع، والإنسان ليس أعجوبة، بل مخلوق تافه، شهواني، يثير الغثيان وبذيء.
ربما كانت كتابة قصائد النثر تطهيرية لبودلير. فقد كانت واسطة تمكن بها من تحويل الضجر وأحلام اليقظة لأفعال رمزية. الشيطان المخالف -بعبارة إدگار ألان پو- يخرج من قمقم الظلال مثل الهو الذي لا يتوب. تنتج الغريزة بشكل متعدد في قصيدة نثر جدلية تنصح بأنه من الأفضل ضرب الشحاذ من إعطائه صدقة، أو تنصح القارئ في أغنية نثرية أن "كن دائماً سكـّيراً" سواء "بالخمر أو الشعر أو الفضيلة"، إنها أشبه بسرد هزلي مثل قصة "القزاز السيئ" حيث يستسلم الراوي للحافز الفطري ليؤذي غريباً مرّ بالصدفة، أو بائعاً لزجاج نوافذ لم يفعل شيئاً لإيذائه. من نافذة عالية يسقط أصيص من الزهور على رأس القزاز ويصيح: "اجعل الحياة جميلة! اجعل الحياة جميلة". يعترف الراوي أن مثل هذه الفكاهات تكلف مالاً، لكنه لن يدع ذلك يقف في طريقه. إنه يلجأ لتربية غير أخلاقية مصدرها ملاك ساقط حين يختتم بقوله: "لكن ماذا تكون أبدية اللعنة مقارنة بلانهائية اللذة في ثانية واحدة؟".
"الغريب" وهي القصيدة الأولى في متتالية بودلير تجعل من الشاعر والفنان لامنتمياً وغريباً غالباً ومقيماً متحرراً من الوهم، ويشعر بوحدته بشكل حادٍ وسط الحشود، وربما تحت ظروف مختلفة قد يلتقط سلاحاً ويجعل من نفسه شرطياً سرياً قاسي القلب. "الغريب" تتخذ شكل حوار قصير، ولذا لا نعلم شيئاً عن الرجل الآخر أكثر مما يقوله كرد على محاور لحوح لكن ودود، ربما في عربة قطار أو مقهى أو مكان حيادي حيث الغرباء يتقابلون ويشعرون باضطرار للحديث. إنه يعلن لامبالاته للمتطلبات العائلية وحقوق الصداقة والواجب الذي يطلبه الله أو الوطن والمنح المالية. ماذا يحب - "الغريب المبهم"؟ وهنا ينطلق في هتاف غنائي: "السحب تمر بـ.. فوق هناك فوق هناك.. السحب الرائعة!" لماذا هي رائعة؟ ربما بسبب شكلها المتغير بثبات، حركتها الدائمة وبعدها عن دائرة الحزن البشري. أعطى بودلير اسماً إنجليزياً لعدد آخر من قصائد نثره "أي مكان خارج هذا العالم"، والذي يتضمن أمنية رومانسية في الهروب. إنها تبدأ بالتأكيد على أن "الحياة مستشفى وكل المرضى يحتاجون لأسرّة متغيرة". وبشكل مشابه تأتي خاتمة "اعتراف الفنان" رومانسية وذات حكمة: "دراسة الجمال هي مبارزة يبكي فيها الفنان فزعاً قبل أن يُهزم".
إذا كان بودلير قد أغنى قصيدة النثر بحكاياته وأمثلته ومقالاته القصيرة وحكمه، فإن آثر رامبو أضاف الشيء العظيم في "إشراقات" و"فصل في الجحيم". كتب رامبو حين كان في الخامسة عشر "لا يكون الإنسان جدياً في عمر السابعة عشر" وقد قام رامبو الناضج مبكراً باعتزال الشعر وتوجه إلى أفريقيا لمهنة أكثر "جدية" هي تجارة السلاح. لكنه قبل أن يبلغ العشرين كان قد خلق قصيدة نثر رؤيوية - أو بعبارة مارثا كيني "قصيدة النثر تبدو كفانوس أو كشيء مشرق أو عبارات وصور مسبوكة لكن بالكاد نفهمها". قصائد النثر في "الإشراقات" تبدو كمشاهد ورحلات حُلمية أو شذرات رؤيوية ساطعة لكنها منقطعة. إنها تمثل تقدماً ملحوظاً في التجريد والاقتضاب، وهي ثورية أيضاً في نصحنا بكسر النظام و"التشويش المقصود للحواس" كقانون ضروري.
رامبو -الشاعر الرائي المفعم شباباً وغواية- سيلتقط ثيمة رومانسية ويحولها إلى مصطلحات مجردة معنوية ومتميزة. نتذكر مثلاً قصيدته النثرية "الحرب" من "الإشراقات":
عندما كنتُ طفلاً ثمة سماوات معينة شذبتْ رؤيتي: كل شخصياتها انعكست في وجهي. الظاهرة انبعثت.. حالياً الانعطاف الأبدي للحظات ولانهائية الرياضيات تقوداني عبر هذا العالم حيث أتقابل مع كل مجد عام، يحبه الأطفال مع مودة استثنائية.. أحلم بحرب قوية وعلى حق وبمنطق غير متوقع.
إنها بسيطة كعبارة موسيقية
هنا نجد الشغل مجدداً على معجم ووردزوورث (كان ثمة وقت عندما كنتُ "مثل ظبية وثبتُ على الجبال... ذلك الوقت مضى وكل متعه المؤلمة لا وجود لها الآن... وتبع ذلك أعطيات أخرى... لذا مازلت عاشقاً للمروج والغابات"). البناء هنا شبيه بما لدى رامبو: الانتقال من الطفولة للحاضر، الضياع الكبير والنية التعويضية الجديدة. على أية حال نجد عند رامبو أن الانتقال من عبارة لأخرى يحتاج وثبة طويلة. العبارات نفسها تبدو كشذرات حرة الطفو، والخاتمة لها رائحة وعيد ثوري بعيدة جداً عن التعزيات التي وجدها ووردزوورث في الطبيعية.
في فرنسا أصبحت قصيدة النثر جنساً أدبياً بشكل سريع، لقد جسـّد النثر التحرر من البحر السكندري المستبد ذي الإثني عشر مقطعاً الذي سيطر على الشعر الفرنسي بشكل صلب جعل من النظم المرسل الإنجليزي أكثر تحررية وإيجابية بالمقارنة معه. يرى ستيفان مالارميه أن قصيدة النثر تعطي ذريعة لنغير مسارنا أو ندخل في منعطف جديد، قصيدة "الغليون" هي اكتشاف رائع -ما قبل پروستي- للذاكرة العفوية. خلق ماكس جاكوب في "كأس النرد" عام 1917 خرافات تكشف عن منطق عبثي وعن حدود كوميدية أحياناً وعن مناطق لا نتوقع أن نجد فيها تجليات. ثمة جمالية في الحكايات غير المقنعة التي تنتهي بشكل ناقص.. فكما نرى في "شحاذة نابلس" فإن الشخص يوصف لنا -على لسان الراوي الذي يرمي له بقطع النقود كل يوم- كـ"إطار خشبي طُلي بالأخضر عليه بعض التراب الأحمر وقليل من الموز نصف المتعفن..." واستخدم هنري ميشو بشكل بارع الشخصية النفسية ("أحب أن أضرب الناس") وأبطال ساخرين (پلوم المنحوس الذي اعتقل في مطعم لأنه تناول صنفاً غير موجود في قائمة الطعام). فرانسيس پونگيه "انحاز للأشياء" في قصائده التي ترفض الأنا الواعية لنفسها، وتكتشف نفسها كدراسات للأشياء. إن إنجاز هؤلاء الشعراء وآخرين (پـيير ريڤيردي، رينيه شار) جعل من باريس عاصمة لقصيدة النثر بدون جدال. (يتبع)
رعاة قصيدة النثر الأمريكية:
2- رسل ايدسن: لا كمال لقصيدة النثر(15 قصيدة نثر)