قصيدة النثر: بديل للنظم
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
رعاة قصيدة النثر الأمريكية (5)
بقلم داڤيد ليهمان
ترجمة : علي أبو خطاب
لقراءة القسم الأول من هذه المقالة انقر هنا
القسم الثاني
لا تصل قصيدة النثر في البلاد المتحدثة بالإنجليزية أبداً إلى مرتبة الجنس الأدبي، لكنها فيما بعد لم يتعيّن عليها ذلك. الفرصة لكتابة الشعر النثري تحت أي مسمى كانت موجودة منذ زمن طويل. كما لاحظ شيلي فإن إنجيل الملك جيمس كان انتصاراً للنثر ووسيط للشعر "المدهش". يصنف كولردج "كتابات أفلاطون وبيشوب تايلور وثيوريا ساكرا من بيرنت" كتجارب لا يمكن إنكارها بإن الشعر الرفيع قد يوجد دون تفعيلة أو حتى دون ما يقابلها في القصيدة، "لا تكتمل قائمة لأسلاف الشعر النثري الحديث دون نثر شكسبير (في هاملت على سبيل المثال "جوهر الرمل" و"الاستعداد هو كل شيء") وعظات جون دن و"قرون من التأمل" لتوماس تراهيرن وترجمة جميس ماكفرسون للشاعر الاسكتلندي أوشن، وكذلك "حكم الجحيم" و"الأوهام التي لا تنسى" من "زواج الجحيم بالجنة" لبليك": قائمة متنوعة جداً تقاوم أي محاولة لتنظيمها.
تدين قصيدة النثر الإنجليزية بالكثير للفرنسيين، لكنها غيرت اتجاهها بشكل قاطع لتتكيف مع الأعمال الفريدة من نوعها التي تتجاوز التصنيف. في عام 1959 اشترطت الباحثة الفرنسية سوزان برنار وجود أربع شروط على قصيدة النثر تحقيقها. عليها أن تتضمن نية الشعر وأن تمتاز بالوحدة العضوية ويجب أن تكون أفضل مبرر لوجودها وأن تكون موجزة. وبعبارة أخرى فإن قصيدة النثر قصيدة قصيرة وجدت لتكتب بالنثر، قد يكون ثمة شيء في مزاج الـغالييين (ومن ضمنه الفرنسيين) ينجذب للتصنيف النظامي، لكن يبدو بأن ذلك لعنة للشعراء الذين قرنوا النثر بالرغبة في الفرار من الصرامة والأوامر. ولا يحتاج الشاعر الأمريكي للإيجار كمتطلب لكتابة شعره، تحضرني حالياً قصائد نثرية رائعة من الصعب عرضها هنا نظراً لطولها مثل "Caliban to the audience" لـ و.هـ.أودن، و"النظام" لجون أشبري، في عام 1848 كتب پو -صاحب التأثير العظيم على مالارميه وبودلير- بحثاً علمياً زائفاً سماه "يوركا" قام فيه بالتنبؤ مسبقاً بنظرية الانفجار الكبير عن نشأة الكون، سمـّا پو بحثه المكون من 150 صفحة "قصيدة نثر" رغم تصريحه المبكر بأن القصيدة الطويلة هي "تناقض واضح".
هناك بعض المتحمسين لقصائد النثر يقتربون من الموضوع بطريقة شجب وإدانة، تصور سيميك الشاعر في حالة ملاحقة مجنونة لذبابة في غرفة مظلمة: "قصيدة النثر هي تدفق لغوي عقب التصادم مع قطعة كبيرة من الأثاث". يشبه رسل إدسون -أستاذ الخرافة السريالية الكوميدية- القصيدة النثرية بذرية الزرافة والفيل، تلك الذرية التي قد تبدو غريبة أو مخيفة لكنها رغم ذلك مرحب بها كـ"حيوان جميل"، أو قد تكون القصيدة النثرية "طائرة حديدية يمكنها أن تطير فعلاً وذلك أساساً لأن الطيار لا يبدو مهتماً بأنها تطير أو لا تطير". حين قارن لويس جينكنز كتابة قصيدة النثر برمي ورقة مكرمشة في سلة المهملات ("وهي مهارة -رغم أنها قد تدعم التناسق بين اليد والعين- لكنها لا تقود بالضرورة للقدرة على لعب كرة السلة") بدا ذلك كما لو أن الإخفاق كان مقدمة للمغامرة. ربما ذلك وربما الرفاق يملكون من الشيطانية بقدر ما يملكون من الاختلاف. يُفضل جينكنز أن يرمي ورقة في سلة المهملات عن الاستماع لمعلم "يثرثر بشعر تينسون". وأكد إدسون بمرح على اتساع الجنس الأدبي. "يمكن أن تسمى أجزاء من "أزرار ظريفة" قصائد نثر". هكذا قال لمحاوره الذي سأله عن گيرترود شتاين، وأضاف "يا للجحيم، يمكن للمرء أن يطلق على أغلب أي شيء قصيدة نثر وهذا هو الرائع فيها، فأي شيء ليس شيء آخر ربما هو قصيدة نثر". وسأله محاوره: ماذا عن "السبعينات عندما كنتَ أنت وبلاي وتايت وآخرون تكتبون قصائد النثر"، وقد كان إدسون الذي أحس بعطش نحو الأساطير قد رأى نفسه ملزماً بخلق واحدة منها. في وقت ما كانت "قصائد النثر غير مشروعة" وبدأ جيم [تيت] والكابتن [بلاي بعد الكابتن الحازم بليف] نشاطاتهم السرية. "بعد ليال طويلة من الكلام عن قصائد النثر أصبح بإمكاننا الراحة بمحاولة تخمين من الكاتب الشبح الذي كان يؤلف لباقي المجموعة التي ظهرت في جميع مجلات الشعر، إنها بدت كعمل مأجور".
في عام 1970 استخدمت قصيدة النثر وسائل مختلفة لتعارض أو تهرب مما خلفه الـ"عمل مأجور". قصيدة النثر كخرافة سريالية -حسب إدسون أو ماكسن تشيرنوف- تبدو كخيار اضطراري. قال ميشيل بندكت "ثمة مسافة أقل عن اللاوعي لقصيدة النثر من اللاوعي لمعظم القصائد المنظومة". لم تكن أبداً ثمة خطورة للطابع التقليدي الجديد، لكن ثمة من يراوغ قليلاً بأنك إن ذكرت قصيدة نثر في لعبة تداعي الكلمات فإن أول ما يتبادر للذهن هو السريالي. بلا شك أن قصيدة النثر في أمريكا اليوم يصعب التنبؤ بها -جزئياً- لأنها فصمت العرى مع التقليد الفرنسي. أصبح هناك إدراكاً جديداً بأن قصيدة النثر الأمريكية ذات الصفة الوطنية هي أمر لا يمكن وجوده دون أن تسبقها فكرة أمريكا. وهذه ليست قصة جديدة بكاملها، ففي عام 1957 عانى ويليام كارلوس ويليامز في مقدمة كتابه "كورا في الجحيم: ارتجالات" ليميزه عن "قصيدة النثر النموذجية" حيث "طريقها لم يكن طريقي" وذلك رغم الدَّيْن -الواضح في العنوان- لـ"فصل في الجحيم" لرامبو. السؤال عن "ماهية الأمريكي في قصيدة النثر الأمريكية" يبدو ثانوياً لسؤال "ماهية الأمريكي في الشعر الأمريكي" كموضوع مثار حوار ونقاش بشكل لانهائي دون أمل بحل، لكن بالتأكيد "رسائل لويندي" لجو وينديروث التي كتبها عن بطاقات الزبائن لسلسلة مطاعم المأكولات السريعة ما هي إلا أحد الأمثلة الحديثة عن قصيدة النثر التي تكسر القاعدة والتي أشبعت بالثقافة الأمريكية وباللغة المحلية للأمريكيين.
استثمر الكُتاب التجريبيون طاقة هائلة في النثر كوسيط شعري بينما وفي نفس الوقت كثيراً ما رفضوا أو قاوموا الدافع السردي. ففي عام 1980 كتب الشاعر اللغوي رون سيليمان بياناً تحت عنوان "الجملة الجديدة" أكد فيه أن الجملة -الجملة المتحررة في النثر والتي تعمل كشعر- ليست وحدة منطقية بل هي كينونة مستقلة مرتبطة بالجمل قبلها وبعدها بطرق غامضة متعددة ومعقدة. كما علـّق مارگوري بيرلوف على أعمال لسيليمان (تجانتنگ) ولين هيجينيان (صعودي) وروزماري والدروب (استنساخ صور جانبية) "في هذه الأعمال النثرية الجملة -بعيدة عن اتباع ما يسبقها أو تمهيداً لطريق ما يتبعها- تبقى مستقلة نسبياً كونها ناتجة عن تكرار كلمة أو صوت، هذا بالإضافة إلى كونها ناتجة عن التحول الدلالي وهو ما سماه الشكليون الروس "التوجه نحو الكلمة المجاورة". إذا كانت القصائد تشبه اللوحات فإن كتابة قصيدة النثر يمكن أن توازي تجريد موندريان إلى حد كبير.
يمكن أن نستمد نقاش كهذا من قراءة لـجيرترود شتاين لسبب واحد هو اعتبارها أم قصيدة النثر الأمريكية (مثل پو - من خلال تأثيره على بودلير - حيث كان عم قصيدة النثر الفرنسية)، إن قصائد النثر في "أزرار ناعمة" *استهلت التقليد التجريبي. كان لدى شتاين نية شعرية ثورية و"أزرار ناعمة" دعمت في معاملة الكلمات كأشياء -في مكانها - وليس كتمثيل رمزي لها. وحتى يومنا هذا لا يوجد هناك من أتقن الموسيقى التجريدية للجمل والفقرات بشكل أفضل، ولا هناك من خرج بشكل متطرف عن التقليدية في صناعة المعنى وهو يخلق شعراً مثيراً بشكل غني. خذ في الاعتبار "كلب" من "أزرار ناعمة" ها هي كاملة: "قرد صغير يصبح كالحمار ومعنى هذا القول معنى هذا القول [التكرار في الأصل] أن تنهدات أكثر راحت. انصرف معه، قرد صغير يصبح كالحمار".
في البداية تبدو هذه كنوع من الأحجية كما لو أن مهمة الكاتب أن يقترح شيئاً دون تسميته (إلا في العنوان). فيه سحر وإيقاعاته حيوية لكن فيه شيء آخر أيضاً. ثمة دراما في الجمل وبينها. العبارة المتكررة "معنى هذا القول" تكرر الإلحاح، ثم الأربع نبرات أحادية المقطع في "تنهدات أكثر أخيراً راحت" وأخيراً ظهور الحل في "انصرف معه" حيث الموضوع الاستهلالي. لدرجة ما فإن قصيدة النثر -حسب العبارة الشهيرة لوولتر بيتر - تطمح لحالة الموسيقى، لقد حققت التجريدية لكن ما يعرضه "كلب" أيضاً هو بنية تجريدية بالتركيب الذي يسبق المضمون ويساعد على خلق معنى، محملاً كلمات متداولة مثل "تنهدات" و"راحت" قوى دلالية لا نعلم بأنها تمتلكها. وفي النظم نجد التوتر بين السطر الشعري والجملة يمكن أن يكون مثمراً. المثال المعتمد هو مطلع "الفردوس المفقود" حين يعلن ملتون موضوع ملحمته:
منذ الخطيئة الأولى للإنسان، حيث ثمرة [fruit]
من الشجرة المحرمة ذات الطعم المميت
جلبت الموت لهذا العالم، وجلبت كل
بلاءنا،
مع ضياع جنة عدن، حتى إنسان أعظم
استعادنا، واسترجع المكان الآمن
انظر بكثب على السطر الشعري الأول، فنهاية السطر لا تتفق مع نهاية الفكرة وانقطاع السطر كان له تأثير على عزل الـ"ثمرة".تم عزل الكلمة بفاصلة ومقطعيين غير مشددين عن باقي السطر الشعري، وبمدى من فراغ أبيض عن تواصل الفكرة. العين ملزمة بالتركيز أولا على كلمة "ثمرة" المعلقة على حافة الفراغ بل أن يتوسع تركيزنا ليشمل "الشجرة المحرمة". وفي تلك اللحظة المتذبذبة يحدث أمر ما. نفهم -عند إعادة قراءة القصيدة إن لم يكن من القراءة الأولى-بأن "الثمرة" لا تشير فقط إلى الثمرة المادية من شجرة المعرفة أكلت منها حواء وآدم، بل لثمار هذا التصرف. ولا يشير فقط للنتائج المباشرة (الموت، البلاء، الطرد من الجنة) بل العواقب البعيدة (حياة أبدية، استعادة "المكان الآمن"). في النهاية المؤلمة للكتاب التاسع من الفردوس المفقود حين هبط والدينا الأولين ليتبادلا الاتهام بعد خطيئتهم، كان من المستحيل غض النظر عن إعادة ظهور الكلمة مرة أخرى، والثقل الذي أراد لها ملتون أن تحمله:
هكذا هم في اتهامهم المشترك قضوا
الساعات العقيمة [fruitless]
ولكن لا الإدانة
الذاتية،
أو الجدال العبثي بدا ذا نهاية
ذلك جزء من أسلوب ملتون بأن يحمـّل كلمة واحدة معنىً كاملاً من الدراما المسيحية، ما دعاه في البداية الـ"ثمرة الوهمية" يمثل الخطأ والسقوط تماماً كما هي كلمة "موهوم". إنها على أية حال أيضاً عامل الخلاص، الفردوس المفقود هو تنقيح واستفاضة للفصول الثلاثة الأولى لسفر التكوين، وهو يذكرنا بأن الله أمر آدم حين كان لا يزال في الجنة بأن "يكون مثمراً[fruitfull] متكاثراً" (سفر التكوين 1:28) رغم أن عقاب آدم أن يكدح في الحقول، وعقاب حواء وهو معاناتها لآلام المخاض والولادة من أجل أحد ذريتها القادمة -ثمرة [fruit]رحم مريم العذراء- الذي سيحمي البشرية، لذلك فإن الطرد من الجنة -كما يراه ملتون- هو سقوط محظوظ. الجنة ضاعت واستردت في آن واحد بأكل الثمرة [fruit]، وفقط الزمن البشري هو الذي فصل الحدثين. الكلمة ربطتهما كما هما مرتبطتين في عقل الخالق، وأصبحت مهمة الشاعر إعادة التصوّر السماوي والنهاية كانت واردة ضمناً في البداية.
في النثر يتخلى الشاعر عن قوى صنع المعاني التي تتمثل في انقطاع البيت الشعري، يجب أن يستخدم الشاعر في النثر بناء الجملة نفسها، أو الطريقة التي تحوّر كل جملة الجملة التي تليها لتوليد معنى فائض يساعد على فصل الشعر النثري عن الكتابة العادية. قسـّم و.هـ.أودن عادةً الناس إلى طبقات وأصناف فرعية، وتبنى التضاد كمبدأ لبناء الجملة في "فسبرز" والتي قدم نفسه بها نصيراً لجنة عدن واصطف ضد المثالية الشيوعية:
في جنتي الشخص الذي يكره بليني ذو أخلاق جيدة لأن لا يولد: في قدسه الجديدة الشخص الذي يكره العمل سيكون آسفاً جداً لأنه وُلد.
النقيض يخلق توازناً لكن يدعو القارئ أيضاً أن يزن الموازين. تكرار الفقرات يسمح بالتنوع ذي المغزى، لذا حين أعلمنا بأن المتهرب في القدس الجديدة "سيكون آسفاً جداً لأنه وُلد" وجدنا أن التعبير نفسه يجسد نوعاً من "الأخلاق الجيدة" التي جعلت جنة أودن مكاناً أكثر جاذبية.
يبدو أن جون أشبري يدمج التناقض الذاتي كمبدأ نشط في قصيدة نثره "تقديم لطيف". إنه يفعّل حركة محيرة داخل الجملة:
أكثر الأشياء لا تهم، لكن عجوزة من معارفي تتوقع دائماً كآبة وهلاك وتنبؤاتها هامة رغم أنها ربما لا تتحقق أبداً، ذلك بسبب واحد لأن لا أقلق أكثر من اللازم لكني أود إخبارها أنها كانت على صواب ولكن مخطئة أيضاً، لأن ما تقوله لن يحدث.
الجمل تجسد تراجع وتردد وتقترح نوعاً من المنطق، لكن في الغالب تكشف أن المنطق وهم، إنها تعمل كنقيض:
حيث أن المرء يمكن أن يكون في حركة دائمة رغم بقائه ثابتاً، مثل عقل حارس طوال الوقت يسابق من فكرة لأخرى.
في كتابة النثر تتخلى عن أشياء كثيرة لكنك تكسب الراحة، في احتمالات الفكاهة والتناقض في الإيجاز القصصي أو في شعور الهروب أو التحرر من التقليد أو التوقع. قصيدة النثر يمكن أن تشكل عطلة من صرامة النظم، كما هي الحالة أحياناً في مسرحيات شكسبير، في "هاملت" على سبيل المثال يمكن أن يخدم النثر أغراض "الطبع التهريجي" الذي يتصنعه الأمير ليعتقد الناس بأنه مجنون، وفي مسرحية "جعجعة بلا طحن" -من ناحية أخرى- يمثل النثر الإحساس البسيط، أما النظم فيمثل المبالغة والتهويل والزخرفة، بندكي شاعر قواف سخيف، لكن حبه لبياترس وحبها له وجد فرصة ليدوم لأنه ليس مبنياً على لغة فنتازية للمغازلة الرومانسية، لكن على تهجمات واحتقارات النثر الفكه.
قصيدة النثر يمكن أن تكون ضد الشعرية وواقعية ويمكن أن تكون بمثابة علاج للزيادات التي يتعرض لها النظم.
كان راسل إدسون مفتوناً بفكرة "شعر متحرر من تعريف الشعر، ونثر خالٍ من ضرورات القصة". ربط روبرت بلاي النثر بـ"الخطاب الطبيعي للغة الديمقراطية"، أما جميس تيت فيرى أن قصيدة النثر "وسيلة فعالة للإغواء وذلك لشيء واحد هو الحزمة البسيطة المخادعة: الفقرة. الناس عموماً لا يفرّون حين يواجهون فقرة أو اثنتان، تقول الفقرة لهم: أنا لن آخذ الكثير من وقتكم، وإذا لا يعنيكم وتمانعون فإنه ليس معروفاً عني التكلف والبلادة والغموض والعلو، تعالوا إلي". يبرر روبرت هاس سعادته بواحدة من جهوده لأنها كانت "بالضبط ما لم تكن تفترضه قصيدة النثر، لقد كانت أكثر من اللازم كصوت نثر تفسيري". في زمن الكتابة كان يبدو لهاس أنه يستكشف إقليماً مجهولاً بشكل تأملي "تبدو نوعاً من الهروب الطويل".
إن أياً من أشكال النثر يمكن أن يؤدي الغرض من النماذج البلاغية التقليدية حتى الاختلاقات المعاصرة. كتب مارك جارمان "رسالة إنجيلية" وكتب جو برينارد "مقالات قصيرة" في شكل قصائد الجملة الواحدة، تخصص جيمس ريتشاردسون فيما يسميه "مسارات" والتي هي حكم وأقوال ومقالات "المساعد الثاني". "ثلاثية بول ڤيولي" استمدت شكلها من دليل التلفاز وچارلز بيرنشتاين استلهم نفس المصدر في مضمون عمله "تناقض يتحول إلى منافسة". "نداءات باردة" لتايرون ويليامز يتكون من سلسلة من الهوامش ونص غائب. ثمة قصائد نثر على شكل كتابات صحفية (مثل "عشرين سطراً يومياً" لهاري ماثيوز) وقصص مختزلة بشكل كبير (مثل "في منطقة كساء" لليديا ديفيس) ورسالة عشاق (مثل "عزيزي بوي جورج" لإيمي گيرستلر) وجعجعة (مثل "دفاعاً عن الشعر" لـگابرييل گودنگ) واستعراض لغوي (مثل "غفوة شرجية" لفران كارلن حيث فقط استخدم حرف علة واحد) ومقالة (مثل "شك" لفاني هاو) ومثل سياسي (مثل "الكولونيل" لكارولين فروچي) وابتكارات أخرى من النوع الذي لا يمكن تلخيصه بسهولة. تظهر "چيخوف: سداسية" لمارك استراند كيف أن النثر يمكن أن يتكيف مع تعقيدات النظم، تماماً مثل "الغابة" في يوميات إمرسون حيث يمكن أن نعتبرها سوناتا نثرية. ظهور قصيدة مثل "لماذا أكره قصائد النثر" لتوم والن يشير بأن قصيدة النثر نفسها -رغم الحديث عن طبيعتها الهدامة- أصبحت جنساً واعٍ ذاتياً. حققتْ قصيدة النثر مستوى لم يسبق له مثيل من الشعبية بين الشعراء الأمريكيين، والأدلة كثيرة لمن يراقب عن كثب المجلات الأدبية. ثمة جرائد ممتازة كُرّست بشكل خاص لقصائد النثر. كل من "Key Satch(el)" و"اللامعنون" أعطتْ الأولوية لقصائد النثر الأمريكية العظيمة: من پو حتى زمننا الحاضر، وهكذا فعلت المجلات الفصلية التي يبدو أن كلاً منها خص نفسه بأحد أنواع قصيدة النثر. فصلية "الغرب" تخصصت في قصيدة النثر كقصة قصيرة. دورية سينيكا فضلت قصيدة النثر كمقالة غنائية. فصلية "بعد الثامنة" أعلنت بأن مهمتها الشعرية هي إعطاء مساحة للعمل الذي لا يلائم أي نوع أدبي: حيزاً يعرض التوتر بين الشعر والنثر، بينما المجلة المنطلقة من جزيرة رود -والتي عنوانها علامة كتابية للفقرة- تعتبر الشكل الطباعي للنص هو البنية الغائبة والشكل المثالي. ثمة مجلات تستمد كل وجودها من المناصرة. براين كليمنتس أطلق مؤخراً "الجملة: دورية الشعريات النثرية" وأسس بيتر جونسون في العام 1992 "قصيدة النثر: دورية عالمية"، انهارت فيما بعد لكن ليس قبل أن تعلن عن نهضة قصيدة النثر وتشكل حالة مفصلية لها. ثمة مغامرات ساحرة أخرى لقصيدة النثر قد حدثت في العديد من المجلات الأخرى أيضاً. وجدت قصائد نثر أود الإخبار عنها في "القبعة والجرثوم والمتألق"، و"الكتابة الأمريكية الجديدة وما يدور في فلكها"، و"مجلة شيكاغو الأخرى"، و"دورية الشعر الأمريكي"، و"الأنبوب والنظم"، و"عظم الفخذ وشفرات المحراث"، و"رسائل وتعليقات أمريكية". وهذه ليست بقائمة شاملة.
سبعة من الشعراء الذين عملوا كمحررين ضيوف لـ"الشعر الأمريكي الأفضل"- سيميك وستراند وأشبري وروبرت بلاي وروبرت هاس وجون هولندر وجيمس تيت- دافعوا عن قصيدة النثر وكتبوا أفضل أعمالهم بهذا الشكل (لو كان شكلاً) أو الجنس الأدبي (لو كان كذلك). كثير من قصائد النثر اختيرت كأفضل الشعر الأمريكي منذ انطلاق المختارات السنوية في العام 1988، وبالتأكيد إشارات على التبجيل المتأخر بدأت تكثر. العديد من المختارات "الدولية" قد نشرت في التسعينات. الأول كان لميشيل بندكت في 1976، إحداهما كان الإصدار التتويجي لقصيدة النثر في العام 2000 والنماذج العالمية المميزة لإستيوارد فريبرت وديـڤيد يونگ في العام 1995. الدراسات الأكاديمية الحديثة مثل "أسوار لا مرئية" لإستيڤين مونتيه (2000)، "The Amen can Prose Poem" لميشيل دلڤي (1998) -المتداخلان بشكل يدعو للاستغراب - خصبة ومتنوعة في هذا المجال. الإصدار الأخير من فصلية "ثلاثية" -والتي يديرها كامبل ماكـگراث كضيف محرر- تضم قسماً يدعى "شعريات النثر". قرأتُ مؤخراً مقالات مثيرة عن الموضوع في دورية "تاكسي المطر وأنتيوچ" بلا شك فإن المؤتمر حول قصيدة النثر المليء بـ"محاضرات حاذقة" والذي عقد في والبول -هامبشر الجديدة- في أغسطس 2001 كان الأول من نوعه. هذا فرق شاسع عما كانت عليه الحال في العام 1978 عندما أُنكر الصرح من قبل پوليتزر. قصائد النثر الممتازة كانت قد كـُتبت لكن ما زالت تبدو سرية. ومؤلف هذه المقالة -والذي رشح للدكتوراه فيما بعد في جامعة كولومبيا- كان قد دافع عن أطروحته في قصيدة النثر الإنجليزية، وقد اخترت أوسكار وايلد و گيرترود شتاين و و.هـ.أودن وجون أشبري كأربعة نماذج.
ثمة زخم في قصيدة فرانك أوهارا "لماذا لستَ رساماً" حين يقول الشاعر بابتهاج -وهو بوهيمي مهذب من رسامي الطليعة- في آخر أعماله الشعرية: "إنه حتى في أنا النثر، أنا شاعر حقيقي". ثمة غموض هنا ربما لا يلاحظه القراء في بادئ الأمر. إذا الاقتباس اختزل إلى "حتى في النثر، أنا شاعر حقيقي" يكون معناه "أنا شاعر حقيقي حتى عندما أكتب نثراً". والنثر سيحسب ليس كفضيلة ولكن كعيب. لكن بالطبع نقرأ السطر الشعري الذي يعني "إنه حتى في النثر، [ولذا] أنا شاعر حقيقي". كتابة قصيدة نثر تشهد بأني شاعر أمريكي طليعي أصيل 100% (رغم أني حتى هذه اللحظة أكتب نظماً). في حين أنه لا يجب أن نغض النظر عن التورية المفارقة بشكل مميز التي أعطاها أوهارا لكلماته، فإن قصائد النثر تختزن عنصراً من الحقيقة وعنصراً أكبر من الغموض، وفتوة هي بالضبط ما يجب أن يملكه القراء في أذهانهم حين يستعدون لمواجهة قصيدة نثر أمريكية في كل تنوعاتها المجيدة.
* الحلقة المقبلة من رعاة قصيدة النثر: جيروترود شتاين عشرون قصيدة نثر
ملاحظة: هذه المقالة مقتبسة من "مقدمة لقصائد النثر الأمريكية العظيمة: من پو حتى زمننا الحاضر" والتي حررها داڤيد ليهمان عام 2003. آخر مجموعات داڤيد ليهمان الشعرية هي "الشمس المسائية" (2002) وهو محرر سلسلة "الشعر الأمريكي الأفضل" والتي انطلقت في العام 1988، ومحرر "قصائد النثر الأمريكية العظيمة: من پو حتى زمننا الحاضر".
رعاة قصيدة النثر الأمريكية:
2- رسل ايدسن: لا كمال لقصيدة النثر(15 قصيدة نثر)