الجريمة والعقاب: طريق نجيب محفوظ في بحث مقارن (2/3)
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
4 ـ الجريمة:
لا يخفى أنّ موضوع الجريمة، روائياً، معروفٌ كأكثر المضامين والأشكال الفنية إثارة ً. إن شخصية الفاعل (المجرم)، هي المقدر لها أن ترتكب الفعل (الجريمة)؛ وبالتالي إدخال التغيير في مضمون الرواية، وتطوير سياقها الدرامي إلى ما يُعرف، نقدياً، بـ"مأزق العقدة". فالخطيئة والجزاء هما أكثر التحققات الشائعة للفعل الأساسي "يغيّر": أيْ تعارض
هكذا حلم / فكرة، كان قد راود " راسكولينكوف "، بطل رواية دستويفسكي " الجريمة والعقاب ". فهوَ في غمرة قنوطه ويأسه، يلوّح لخادمة النزل الذي يقيم فيه، بأنه يريد إكتساب: " ثروة كاملة، دفعة واحدة " (3). سنلاحظ هنا، أيضاً، موضوعة " الإختيار " وقد أضحت قدَرَ البطل؛ متمثلة بفعل الجريمة. وفي هذا الشأن، شكل لقاء راسكولنيكوف بوالد الفتاة " سونيا "، ومن ثمّ تلقيه لرسالة من أمه، ما يمكن وصفه بالحافزيْن الأساسيين لتصميمه على نبذ التردد وإنجاز " ذلك الفعل ": إنّ والد سونيا، يحدث بطلنا عن دفعه لإبنته هذه، الشابة، في طريق البغاء تجنباً لموت الأسرة جميعاً، جوعاً. ورسالة أمه، تفيده بعزم أخته، " دونيا "، على الزواج من رجل ثريّ في حدود الكهولة. إنّ راسكولنيكوف لا ينخدع بكلمات أمه المطمئنة، بل ينظر إلى هذا الزواج كما لو أنّ دونيا تبيع نفسها؛ وربما سيكون وضعها مستقبلاً أسوأ من سونيا، المومس.
قلنا أنّ فكرة ً / حلمَ يقظة، راودَ بطليْ " الجريمة والعقاب " و "الطريق"؛ وصفناهُ برغبة كل منهما في إكتساب الثروة تحقيقا لطمأنينة الحياة. على أنّ حلمَ المنام، بدوره، كان بمتناول كل من البطليْن، أيضاً. قبل كل شيء، يتعيّن علينا إيراد ما يراه النقدُ، فيما يخصّ دور الحلم في الفن الروائي، بوصفه خرقا لوحدة الحياة التي يُجرى تصويرها، فضلاً عن إمكانية لحياة من نوع آخر تماماً: أيْ أن بطل ذلك العمل الروائي، يصبح في الحلم إنساناً آخر، يستطيع فيه أن يختبر ويجرّب (4). كان للأحلام مكانها المميّز في أدب دستويفسكي؛ هوَ المعلم الفذ في المعالجة النفسية لأبطاله. وبما أن إزدواجية الشخصية تتحكم، عموماً، ببطل " الجريمة والعقاب "، كما سيأتي معنا تفصيله، فما كان له إلا التوقف في محطة الحلم قبيْل رحلة الجريمة: إثر تسكع مجهد، يغفو راسكولنيكوف في مكان منعزل، فيرى في منامه أنه بصحبة أبيه (المتوفي منذ صغره). وإذا بسكارى يخرجون، فجأة، من حانة ويضربون فرسا صغيرة حتى الموت. يثيره المنظر ويحاول إعتراضهم، ولكن الأب يقول له: " هذا لا يعنينا ". يفيق بطلنا من حلمه، ويتساءل ما إذا كان يستطيع هوَ أن يضربَ بالفأس رأساً بشرياً. يمكننا هنا تأويل هذا الحلم، وفق الخطاطة التالية: أ ـ الحانة (بطرسبورغ، كمكان بديل) = الرحلة. ب ـ مرافقته لوالده (كبديل عن الأم) = البحث عن الأب. ج ـ الفرس تجرّ عربة (أخته دونيا وهمومها، كبديل عن سونيا) = الحبّ المستحيل. د ـ السكارى يقتلون الفرس (إختبار " الفكرة ") = مجانية الجريمة. هـ ـ يحاول إعتراضهم، فيمنعه والده (معارضة خنوع الأم) = صحوة الضمير.
يمكننا على هذا مقاربة حلم بطل " الجريمة والعقاب " بحلم بطل " الطريق ". فهذا الأخير، كان وقتئذٍ حائراً بين حبّ سريّ لإمرأة ناضجة، هيَ " كريمة "؛ زوجة صاحب النزل، وحبّ معلن لفتاة شابة، إسمها " إلهام "؛ موظفة في الجريدة التي نشر فيها إعلانا بخصوص والده، المفقود. إنه يحلم إذن في إحدى الليالي بموعد في المقهى، مع ذلك الأب (وإسمه " الرحيمي "). يفاجأ هناك بحضور إلهام، التي يقدمها الأب على أنها إبنته، والتي لا تلبث أن تفرّ من المكان. يقدم صابر أوراق نفوسه لوالده، إثباتا لصلة الرحم بينهما. وإذا بهذا الوالد نفسه يمزق تلك الأوراق، فيهاجمه صابر قائلاً: " أنتَ تمحو وجودي محواً ". الغريب أنّ بطلنا، حينما يلتقي إلهامَ في اليوم الذي تلى الحلم، يعلمُ منها أنها، بدورها، عاشت حياتها مفتقدة لأبيها الغائب. وهيَ ذي خطاطة لمفاصل ذلك الحلم، وتأويلنا له: أ ـ المقهى (القاهرة، كمكان بديل) = الرحلة. ب ـ موعد مع الأب (هاتفٌ من الأم) = البحث عن الأب. ج ـ حضور إلهام وفرارها (الأخت، كبديل عن كريمة) = الحبّ المستحيل. د ـ الأب يمزق الأوراق (الإختيار الوحيد) = مجانية الجريمة. هـ ـ صابر يهاجمه (معارضة وصية الأم) = صحوة الضمير.
في الرواية التي تشكل المغامرة محورها، تلعب الصدفة دوراً أساساً لكل الصلات التي تربط مصائر شخصياتها؛ حتى أنها " توجههم " لإلتقاء ببعضهم البعض، في الزمان والمكان المطلوبَيْن فنياً. إن كل ما هو مفاجيء، وغير متوقع من وجهة النظر العادية، له حضوره هنا. لا غروَ إذا أن تلعبَ المصادفات دورها، فيما يخصّ بطليْ " الجريمة والعقاب " و " الطريق "، على حدّ سواء، ولتقود خطاهما على الطريق المرسوم لها: أ ـ تعارف راسكولنيكوف مع والد سونيا: ولقاء صابر مع كريمة = حوافز الجريمة. ب ـ إستماع راسكولنيكوف لطرف من حديث " ليزافيتا "، عن تغيّبها عن منزل شقيقتها، المرابية، في مساء اليوم التالي " لأمر خاص ": وما علمه صابر من كريمة بأنها تتغيّب عن بيتها في " يوم معلوم "، كل أول الشهر لزيارة أمها = مكان وزمان الجريمة. ج ـ يهتدي راسكولنيكوف لفأس " مناسبة "، لدى حارس البناء: فيما تعثر كريمة على قضيب حديديّ " مناسب "، تعطيه لعشيقها = أداة الجريمة.
لقد إجتمعتْ، إذا، لدى بطليْ دستويفسكي ومحفوظ، التعسَيْن، كل الشروط المتطلبة لإنجاز الجريمة؛ من فكرة وحلم وحوافز ومصادفات. بقيَ على هذا، تنفيذ " ذلك الفعل ". وهنا أيضاً، نجدُ الخطوات المرافقة لإعداد وتنفيذ الجريمة، على الإيقاع ذاته في الروايتيْن: أ ـ قبيل قيامه بزيارة العجوز المرابية لقتلها، كان راسكولنيكوف يودّ الذهاب إلى منزل أحد أصدقائه، ولكنه يعدل عن ذلك: وهذا ما كان أيضاً من أمر صابر، بخصوص رغبته بلقاء صديقته إلهام ثم تجنبه لها في آخر لحظة = حسمُ التردد فيما يخص الجريمة. ب ـ يرهن راسكولنيكوف بعض الأشياء عند المرابية العجوز: بينما يوصي صابرُ عشيقته بإخفاء بعض حليها والإدعاء بأنها سرقت من لدن قاتل زوجها = تمويه دوافع الجريمة. ج ـ إضطرار صابر للإختباء تحت سرير العجوز، قبيل دقائق من قتله: وهذا ما كان قد فعله راسكولنيكوف، لحظة شروعه بالقتل، حيث يسخر من نفسه قائلاً: " نابليون يزحف تحت سرير عجوز شمطاء! " = علامة على الإخفاق المرتقب للخطة. د ـ بعيد إرتكابه للجريمة الأولى، تتملك راسكولنيكوف فكرة مقلقة؛ وهي إمكانية أن تكون العجوز لا زالت على قيد الحياة: وكذا الأمر مع صابر، إذ يشك في موت العجوز ويحبّ أن يتأكد من ذلك بنفسه، ولكنه يشمئز من الفكرة = علامة على الجريمة التالية، غير المخطط لها. هـ ـ يغادر راسكولنيكوف بيت العجوز المرابية، متوجهاً فوراً إلى النهر (القنال)، ليرمي فيه الأدوات المستخدمة في القتل: وهذا الأمر يكرره صابر، بتوجهه إلى النهر (النيل)، للغرض نفسه = محو آثار الجريمة. و ـ في صباح اليوم التالي، الذي أعقب جريمته، يكتشف راسكولنيكوف أنّ جيبه ملطخ بالدماء، فيهرع إلى الحمّام ويستخدم الصابون لإزالتها: وهذا بالضبط، تقريباً، ما حصل لبطلنا صابر، في إفاقته في اليوم التالي للجريمة، حينما يجدُ في يمناه فردة القفاز الملطخة بالدم، فيذهب إلى الحمّام مع الصابونة ويتخلص من أثره = إشارة للإخفاق الحاصل في الخطة المرسومة. ز ـ يتساءلُ راسكولنيكوف ذلك الصباح نفسه، الشاهد لإكتشافه آثار الدماء على ملابسه، ما إذا كانت الخادمُ قد دخلت غرفته أثناء نومه ورأت شيئاً مريباً: إنه نفس السؤال، المتبادر لذهن صابر، بعدما تخلص من آثار الدماء؛ إذ يصادف الخادم أمامه فيعتبر ذلك بادرة سوء = إشارة اخرى على الإخفاق الحاصل لتلك الخطة.
5 ـ العقاب:
يلاحظ " تودوروف "، أنّ بعض الصفات المتفردة في كل قصة، تعمل في النص بطرق مختلفة. فالحدث نفسه يكون جريمة من منظور وعقاباً من منظور آخر. هكذا أمر يُظهر، بحسب وجهة نظر ناقدنا، الغموضَ في القصص التي يستمتع بها القاريء؛ فمثل هذا الغموض: " يترك إنطباعاً بمصير خاص، بمكيدة محكمة " (5). إن موضوع القتل في " الجريمة والعقاب "، كان حاضراً منذ البداية في ذهن بطلها، راسكولنيكوف. إن قتله للعجوز المرابية، لم ينظر إبه بطلنا كجريمة أبداً، بل كعقاب إجتماعيّ بحق " حشرة " تمتصّ دم المخلوقات البشرية المعذبة. علاوة على أن الجريمة، بالنسبة لهذها البطل، كانت عبارة عن وضع " الفكرة " في حقل التجربة. غير أنه بعد قتله لليزافيتا، شقيقة المرابية، والذي تمّ بغير إرادته؛ نراه يُصرّح في مونولوجه، أنّ على ذلك الذي يملك ضميراً: " أن يتعذب إذا كان يعترف بخطئه. إنه عقاب إضافة إلى عقاب الأشغال الشاقة " (الجريمة والعقاب، ص 446). بطل دستويفسكي، إذا، يرى ويعرف كل شيء منذ البداية. إنه غريبٌ عن الموتيف (الدافع) الذي يصرّح به بطل محفوظ للمحامي: " الحكاية كلها كالحلم. جئت من الإسكندرية للبحث عن أبي، فوقعت أحداث غريبة نسيت فيها مهمتي الأصلية حتى وجدت نفسي أخيراً في السجن " (الطريق، ص 184).
هذا الإختلاف، الموصوف، في دوافع البطليْن مردُهُ، برأينا، الشكل الفني الخاص بكل من دستويفسكي ومحفوظ، أكثر مما يرتبط بمضمون هذا العمل الروائي أو ذاك لديهما. ومن هذا المنظور، نقترح فهم مقاربتنا للخطوات المقررة في مسلك كل من البطليْن، الذي أعقب إرتكابه جريمته: أ ـ في الليلة ذاتها، الشاهدة على مقتل العجوز أبو النجا، يحلم صابر بعراك ينشب بينه وبين كريمة أمام أنظار ذلك الزوج العجوز، والذي لا يكترث لهما: بيْدَ أنّ راسكولنيكوف، على ما يبدو، كان أكثر نقمة على عجوزه المرابية. فهو يحلم بدوره أنه يهوي بالفأس على رأسها، فلا تموت بل تضحك منه مع كل ضربة جديدة = إشارة ذات دلالة، للعقاب المرتقب. ب ـ إثرَ إرتكابه الجريمة، يصمم صابر على ملاقاة إلهام في اليوم التالي مباشرة. لا بل وحتى راودته فكرة أن " يعترف لها بكل شيء ": وهذا ما كان من شأن راسكولنيكوف أيضاً. إنه يفكر برؤية صديق له في الدراسة، مباشرة بعد وقوع الجريمة المزدوجة، ولكنه يعدل عن ذلك. ثم لا يلبث أن يقع بطلنا فريسة للهذيان، فيقرر الذهاب إلى سونيا لكي " يعترف لها بكل شيء " = إشارة على صحوة الضمير. ج ـ في صباح اليوم المشرق على سقوط ضحيته، يؤوب بطل محفوظ للنزل فيجد رجال البوليس بإنتظاره. ولكنه يعلم من الخادم بأن هؤلاء قد قاموا بالتحقيق مع جميع النزلاء. مع ذلك، يجتاح الإضطراب بطلنا خلال إنتظار دوره في التحقيق، لدرجة تهيأ له فيها أنّ المحقق شبيهٌ للرحيمي، والده المفقود: الحالُ في اليوم التالي لجريمته، أنّ بطل دستويفسكي يفتح عينيه على رؤية دعوة خطية من البوليس. وبالرغم من أنهم هناك، في دائرة التحقيق، يعلمونه أن الموضوع يتعلق بالإيجار المترتب عليه لصاحبة النزل، فإننا نراه يضطرب بشدة إلى درجة الإغماء. وكانت صدمته تلك، نتيجة إرهاقه النفسي، أو ربما بسبب إنصاته لثرثرة رجال البوليس عن مقتل المرابية وأختها = إشارة اخرى على صحوة الضمير. د ـ جواباً على سؤال المحقق (لا يعطه المؤلف إسماً)، أين كان ساعة وقوع الجريمة، يقول صابر: " تجولت في الشوارع ": ويكون مشابهاً جواب راسكولنيكوف على السؤال نفسه، الذي قابله به المحقق (وإسمه للمناسبة: بورفير): " مضيت إلى الشارع " = علامة على الضياع. هـ ـ تُظهر أسئلة المحقق أن الشكوك تحوم حول صابر، فتبدأ الظنون تتناهش هذا الأخير: " هي خطة بلهاء. ومحاولة الهرب جنون. ولسوف ترصدكَ عين لا تغمض " (ص 134): أما بطل دستويفسكي، فيخرج من مقابلة المحقق يائساً، هاتفاً بحنق: " ينبغي أن أفرّ. أفرّ بأسرع وقت. أفرّ تماماً! ولكن إلى أين؟ " (ص 232) = علامة على المصير المحتوم.
في ما يُعرف أدبياً بـ " رواية الجريمة "، يتجه كل حدث طاريء، في حيوات الشخصيات، ضمن سياق حلّ العقدة؛ المتحدد بالعقاب. هذا مع تشديدنا هنا، بأنّ قصَتيْ دستويفسكي ومحفوظ هاتيْن، لا يدخلان في تصنيف رواية الجريمة وإنما يتخذان، بهذا الشكل أو ذاك، شيئاً من إسلوبها ومضمونها، الفنيين. وعلى كل حال، فإنّ وصول السرد، بشكل عام، إلى ما يُنعت نقدياً بـ " حل العقدة "، أو هدف الحبكة، إنما يرتبط بوظائف عناصر البنى الروائية؛ كنبرة المؤلف والحوار وخصائص القصّ. إنّ إتجاه التحقيق، في روايتيْ " الطريق " و " الجريمة والعقاب "، كان في خطة مؤلفيْها على النسق نفسه مما أوردناه آنفاً، من الوصول إلى حلّ العقدة في كل منهما؛ على الأقل كلاسيكياً فيما يخصّ دستويفسكي. على ضوء ذلك إذاً، نقدم مقاربتنا للمفاصل التالية في كلا الروايتيْن: أ ـ علمنا مما سبق، أنّ المحقق أخذ يشك بصابر. كانت لتلك الشبهة، على إعتقاد كريمة، علاقة بالخادم (وإسمه للمناسبة: علي سريقوس) الذي لمحها في إحدى الليالي وهي على السلم المفضي لغرفة عشيقها: والمحقق في " الجريمة والعقاب " يعلق أهمية على شهادة عامل الدهان (وإسمه: نيقولا)، ويسأله ما إذا كان رأى أحداً ينزل السلّم، ساعة وقوع الجريمة = عنصر المفاجأة. ب ـ في يوم الجريمة، كان صابر بحالة من اليأس والهذيان، حتى أنه يجيب صاحب الحانة المشتكي من رداءة الطقس: " أنا مجرم من سلالة مجرمين! "(ص 109): وفي هذا اصدد، كان راسكولنيكوف في الحالة النفسية، نفسها. إنه في الحانة، وخلال حديثه مع ضابط بوليس، يسرد تفاصيل تتعلق بإخفاء المال المسروق من المرابية، مختتماً وهو يغمز بسخرية: " هذا لو كنتُ أنا الذي قتلت العجوز وليزافيتا! " = عنصر التصعيد. ج ـ في غمرة هواجسه، يفاجأ صابر بخبر سعيد، ينقله له معاون صاحب الفندق، القتيل (وإسمه للمناسبة: محمد الساوي). ومفاد الخبر ذاك، أنّ البوليس قد قبض على الخادم علي سريقوس بتهمة قتل أبو النجا، بعدما ضبطوا لديه المال المسروق: مثل تلك المفاجأة الموصوفة، تعيد قليلاً من التوازن لراسكولنيكوف. إذ يعلم بخبر توقيف العامل نيقولا، بتهمة قتل المرابية وأختها، بدافع السرقة. كان دليل اليوليس، هنا أيضاً، بعضاً من متاع المرابية الذي حاول المتهم بيعه = عنصر القرين، المفترض. د ـ تتلاشى من جديد طمأنينة راسكولنيكوف، حينما يؤكد له المحقق عدم تعويله على إعتراف نيقولا بجريمته المزعومة. إن هذا الأخير، بحسب المحقق، ينتمي لطائفة صوفية تؤمن بتضحية النفس تكفيراً عن خطيئة البشر: أما مسألة إعتراف علي سريقوس بجريمته المزعومة، فما كانت بحسب سياق السرد، سوى خدعة من المحقق (المختفي في ظل محمد الساوي). كان هدف التحقيق هنا، أن يترك صابر حيطته ويتصل بعشيقته كريمة، ليصار إلى ضبطهما معاص وإدانتهما = عنصر القرين، على حقيقته.
ذروة القصّ فنياً، تنتهي بالخاتمة المقترحة. وفي هذا المضمار، يلاحظ الناقد الروسي باختين، أنّ كل روايات دستويفسكي تمتلك نهاية حوارية، فرضية، بإستثناء " الجريمة والعقاب "، ذات الخاتمة المونولوجية، التقليدية (6). يبقى أنّ تصورنا لإسلوب محفوظ، فيما يخصّ خاتمة روايته " الطريق "، محكومٌ حسب في دائرة مقاربتنا للرواية القرينة، المفترضة: أ ـ يتعمّق شعورُ راسكولنيكوف بالتغرّب عمن حوله. إنه يحاول جاهداً تجنب أمه وأخته كيلا يضطر، في كل مرة، للكذب أمامهما. إنّ فكرة " أن تعلما "، هيَ أكثر ما كان يعذبه: صابر من جهته، يتألم لإضطراره إختلاق الأكاذيب بحضور إلهام. وعلى هذا، يقرر قطع صلته بها خشية علمها بماضيه الملوث وحاضره الإجراميّ = العنصر الإجتماعي، منتبذا . ب ـ تحصل دونيا، فجأة، على مبلغ كبير من المال من تركة مخدومتها الراحلة، فتضعها بتصرف أخيها: وتتدبّر إلهام مبلغاً كبيراً من المال، تعرضه على صابر كيما يحاول إستثماره = العنصر الإجتماعيّ، متأخراً. جـ ـ الهذيان يقود راسكولنيكوف إلى منزل ضحيته، المرابية العجوز. يكاد المحقق أن يأمر بتوقيفه على الفور، لولا مفجأة إعتراف العامل نيقولا، حتى أنّ بطانا يفيق على نفسه مردداً في سره: " إنني أحياناً أترك الحماقات تعصف في رأسي " (ص 300): أما صابر، فهو في هذيانه أيضاً ينساق وفق لعبة المحقق، الماكرة، إلى منزل عشيقته كريمة، ليقع هناك في الفخ: " أجل كان الجنون يعصف به عصفاً " (ص 157) = العنصر الإجتماعيّ، مديناً. د ـ يعترف راسكولنيكوف، أخيراً، بجريمته المزدوجة. تهتم المحكمة بأخذ آراء علماء النفس بخصوص قضيته، التي تشغل الرأي العام: " ثمّ إنّ حوادث معيتة قامت فجأة، فأدى الكشف عنها إلى زيادة العطف على القاتل " (ص 855): في حالة صابر، قلنا أنه ضبط متلبساً بعدما إرتكب جريمته الثانية. هاهيَ الصحافة تقوم بإستطلاع آراء علماء النفس وغيرهم، بشأن القضية المستحوذة على إهتمام الجمهور: " وكم عجبوا للجانب الخفيّ الذي كشف عنه حبّ إلهام " (ص 165) = العنصر الإجتماعيّ، متفهماً. هـ ـ يقول المحقق لراسكولنيكوف، وهوَ يحثه على الإعتراف: " إبحث عن الله والمبدأ ولسوف تحيا " (ص 739): وبالنسبة لبطل " الطريق "، يقول في مسألته أحدُ رجال الدين ممن إستطلعت الصحافة آراءهم: " وإنّ صابر لو بذل في البحث عن الله عشر ما بذله في البحث عن أبيه، لكتب الله له جميع ما طمع " (ص 168) = العنصر الإجتماعيّ، مبرراً. و ـ في السجن يحتفظ راسكولنيكوف بكتاب الإنجيل، الذي سبق لليزافيتا القتيل أن أهدته لصديقتها سونيا: وصابر السجين، يطلب من المحامي أن يجلب كتاباً سبق لوالده، الرحيمي، أن أهداه لأحد أصدقائه = العنصر الإجتماعيّ، محرراً.
المراجع:
1 ـ روبرت شولز، البنيوية في الأدب / الطبعة العربية في دمشق 1984، ص 131
2 ـ نجيب محفوظ، الطريق ـ القاهرة 1981، ص 18: وجميع إستشهاداتنا هنا، مأخوذة من هذه الطبعة
3 ـ دستويفسكي، الجريمة والعقاب / الطبعة العربية لدار الحياة في بيروت، بلا تاريخ، ص 90: وحميع إستشهاداتنا هنا، مستمدة من هذه الطبعة
4 ـ ميخائيل باختين، شعرية دستويفسكي / الطبعة العربية في بغداد 1986، ص 316
5 ـ البنيوية في الأدب، ص 134
6 _ شعرية دستويفسكي، ص 131