غالوري الفنون

الحلقة الثامنة من خبز المدينة

قرائنا من مستخدمي تلغرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك

الحلقة الأولى / الثانية / الثالثة / الرابعة/ الخامسة / السادسة / السابعة /

اخيرا تحقق حلمك بالبقاء في طرابلس دون ان تعرف على وجه اليقين صاحب الفضل في هذا الاعفاء، هل هو حقا الحزب، كما يقول الشاويش عنتر، ام حورية التي ترى شخصيا ان لا احد يمكن ان يهتم بتلبية رغبتك غيرها، خاصة وانك لم تفصح عنها لاحد سواها، ام ترى ان الحاكم العا م، الذي اعدك لمهمة في الحرب خاصة بكتابة التقارير عن اوضاع الليبيين هناك، اختار لك مهمة اخرى اراد ان تبقى في طرابلس لتنفيذها، ايا كان الامر، فقد علمتك الاشهر الماضية، ان لا احد في هذه المدينة، وداخل هذا النظام الذي يحكمها، يخدم احدا بلا مقابل، وان الذي ابقاك، لم يفعل ذلك خدمة لك او لمصالحك، وانما خدمة لاهداف تخصه، رآى ان وجودك هنا يحققها له بافضل مما لو ذهبت الى هناك. انها قاعدة للتعامل لا تزعجك، ولا تثير لديك رفضا ولا نفورا، هذا ما طلبته وهذا ما حصلت عليه، راضيا دائما بدفع الثمن الذي يجب عليك دفعه.
عندما حان الوقت للقاء حورية، كسائق يعمل تحت امرتها، ويتلقى تكليفه بالعمل منها، رغم وجود السيارة في حوزة سائقها الاصلي، صعدت الى شقتها في وقت بتوافق مع انتهائها من افطارها، فوجدتها تستقبلك في الصالون وقد اتخذت سمتا باردا، جادا، لا اثر فيه ولا اصداء لما حدث بينكما صباح الامس داخل غرفة نومها، وكانها تريد ان تشعرك بضرورة ان تفصل فصلا كامل بين العمل كسائق لديها وبين ذلك الجانب الشخصي ولحظته المفصولة والمعزولة عن زمن العلاقة العملية والوظيفية. استقبلتك جالسة في كرسي الصالون، وانت واقف امامها بزيك الرسمي، تعبر لها عن بالغ الامتنان والعرفان بالجميل لما بذلته من جهد اثمر في صدورهذا القرار الذي يقضي باعفائك من الاعمال القتالية في الحبشة، واستبقائك في هذه الوظيفية المدنية عندها، وتعرب لها عن استعدادك لان تكون على الدوام خادما مطيعا لها، ولصاحب الفضل الاول في اصدار القرار المارشال ايتالو بالبو. سألتك بعد ان فرغت من كلامك ان تجلس، وسألت حواء ان تحضر لك فنجانا من الشاي. ثم قالت لك بان قرار الاعفاء لا يصدر الا ومعه مسبباته القوية كالمرض الطارىء، او الحادث الخطير الذي يعيق الانسان عن الاعمال، بينما لا يحتاج التأجيل لاي اسباب غير حاجة العمل.
- وكلاهما يؤدي الى نفس النتيجة، وهي ان تبقى هنا معنا.
ثم انتقلت فجأة، ودون تمهيد، الى ما حدث بينكما صباح الامس، وكأنها ضجرت من اساليب التمويه والمماطة، التي تبعدها عن الهدف، قائلة:
- لاشك انك عرفت الان، وربما قبل الان، وقبل ان يحدث ما حدث بيننا بالامس،انني احتفظ لك بمكانة خاصة في قلبي.
انتهى الحديث الهامشي الذي لم يكن الا غطاء لهذا الحديث الذي يتصل بجوهر ما يجمع بينكما، ويصب مباشرة فيما تريدة منك سيدة هذا البيت، وربما فيما كان السبب وراء استبقائك في طرابلس. احسست انت برعشة في اطرافك افلحت في السيطرة عليها، وبقيت صامتا منصتا لما تقول السيدة، التي بدا واضحا انها لم تكمل ما تريد ان تقوله بعد.
- لم اكن اريد ان يصل الامر الى هذا الحد الذي وصل اليه بالامس، وبعد ان حصل، تمنيت لو حدث في الحلال وعلى سنة الله ورسوله.
لم تستطع ان تسيطر على الافكار التي استدعاها حديثها عن الشرع والسنة، ورغم الفارق بين علاقتها بالمارشال، والعلاقة العابرة التي سمحت لك بها، لم تفهم كيف ترى حورية هذا الفارق فيما يتصل بقضية الحلال والحرام، او لماذا يكون الحلال مطلوبا في حالة ولا يكون مطلوبا في حالة اخرى، هل لان شراكة الدين والوطن التي تجمع بينكما تشترط ان يكون هذا النوع من العلاقات في الحلال، بينما يتمتع الاجنبي برخصة الاستثناء من هذا الحلال؟هل هذا ما قاله له عقلها حقا؟ انتظرت حورية حتى وضعت حواء الشاي وانصرفت قبل ان توصل حديثها:
- ارجو ان تفهم موقفي، انني امرأة تحن ان تحقق امومتها، وان يكون لها طفل تحمله في بطنها تسعة اشهر وتحضنه وترضعه وتربيه وتراه يكبر وينمو امام عينيها. وهذا الطفل لابد ان يكون نتاج علاقة شرعية، ومن صلب رجل احبه، ينتمي الى ديني وملتي كما يفرض الشرع، هل فهمت؟
طبعا فهمت، فهى لم تترك شيئا غامضا، كما لم تترك لك فرصة للرد لانها استمرت في الحديث الذي يعفيك من أي رد قبل ان تستجمع شتات ذهنك.
- المارشال يفهم ذلك تماما. فانا وهو لا نستطيع ان نتزوج لاسباب معروفة، لا اظنك تجهلها. وانا لن ارتكب جرما في حق طفل المستقبل بانجابه سفاحا. المارشا ل يفهم هذه الحاجة لامرأة مثلي، ترى سنوات عمرها تمضي دون ان تستمتع بحق الامومة.
انت ايضا تفهم توق امرأة مثلها لان تكون اما، بل ان هذا التوق للامومة شرط اساسي لا تكتمل انوثة المرأة الا به. ما لم تستطع فهمه حتى الان، او تفهمه ولكن تريد ايضاحا اكثر، وتحديدا اكثر، هو ما تريده حورية منك بالضبط، وان كان بامكانك طبعا ان تدرك، ان امر اعفائك من الذهاب الى الحبشة في هذه الدفعة، لم يكن مجردا من الغايات، وان احدى هذه الغايات، او اهمها، يتصل بما تقوله حورية الان. هناك مهمة لا تقل خطورة عن القتال فوق هضاب الحبشة، مرشح انت للقيام بها فوق هذه الهضاب العسلية التي تجلس امامك على مقعد مطلية حوافه بماء الذهب ومغطاة اخشابه بالقطيفة الزرقاء.
ظلت حورية صامتة يغمرهها نوع من الاسى الشفيف، فلم تستطع ان تبقى انت ايضا صامتا، وجازفت بالقول:
- انت ما شاء الله في سن الصبا والجمال، وامامك سنوات كثيرى قبل ان تشغلي نفسك بالانجاب والامومة.
- ارجو الا اكون قد اصبحت اما منذ صباح الامس، لان ما حدث بيننا حدث دون تمهيد، فلم اتخذ اية احتياطات.
وقبل ان تمنحك اية فرصة لكي تتأمل ما تعنيه بهذه الكلمات التي قالتها، نهضت وهي تقول:
- سنواصل الحديث فيما بعد، فلابد ان لك اصدقاء مسافرون تحرص على توديعهم في الميناء.
ستذهب الى الميناء لا لتوديع احد، ولكن لتتأكد فقط من انهم فعلا قد رحلوا، وانك فعلا مازلت واقفا على الارض، باقيا في طرابلس.
امسكت باكرة الباب استعدادا للخروج lsquo; فاستوقفتك حورية لتقول لك بانك ستتقاسم العمل مع عياد الفزاني، وستترك لكما وضع جدول لهذا التقسيم بدءا من الغد.
عندما ذهبت الى الميناء كانت السفن قد اخذت حمولتها، ومكبرات الصوت المبتوتة في الشوارع والميادين تنقل كلاما لاحد الخطباء، ممن جاءوا للمشاركة في توديع الدفعة الاولى من الجنود الليبيين الذاهبين للمساهمة في الحملة الحبشية، وكان يتحدث بلغة عربية فصيحة، بالنيابة عن اهالي الجنود، ويعبر عن افتخاره بالرسالة الحضارية التي يذهب هؤلاء الجنود اللييبيون لتقديمها للشعب الحبشي الصديق، فهو شعب يعيش تحت حكم الطغاة، وتفتك به الامراض، ويباع ابناؤه وبناته في سوق النخاسة على ايدي تجار الرقيق من اعضاء الاسرة المالكة، وستكون رسالة ايطاليا الفاشية وجنودها البواسل، ومنهم هؤلا ء الابطال المغاوير من ابناء ليبيا، هو انقاذ ذلك الشعب من معاناته ونشر السلام والعدل والامن بين ربوعه، تحت الراية المثلثة الالوان.
لم يعنيك هذا الكلام، وما فيه من كذب وتدليس، بعد ان نجوت من خدمة هذه الرسالة الحضارية الفاشية، ولم تكن متحمسا للدخول في هذا الزحام الذي يصنعه رجال يرتدون البرانس والعباءات ونساء يرتدين الملاحف والاردية، هم اهالي هولاء الجنود المسافرين. ولكنك تذكرت شيئا، اشعل في قلبك الحماس لولوج هذا الزحام، اذ لابد ان تكون ثريا موجودة هنا مع عائلتها وعائلة زوجها فتحي، لالقاء نظرة عليه قبل الرحيل، فلعلها تكون باذن الله نظرة اخيرة على الزوج الذي سيلقى مصيره الفاجع في ارض الاحباش، وسيكون شيئا جميلا ان تلتقي بها وسط هذا الزحام. سوف تصافحها فقط، بل ان جسمك كله، يمكن، بفضل هذه الحشود المتلاطمة ان يصافح جسمها مصافحة حميمة، وينعم بسخونته اللذيذه المثيرة. فكرة هائلة، مدعومة بقدر كبير من النذالة، ولكن متى كانت النذالة بعيدة عنك وعن هذا المحيط الذي تعيش فيه حتى تدعي انت او أي احد غيرك النبل والشهامة. هاهي الاجواء المثقلة بالنذالة امامك، متمثلة في هذا العرس الكاذب الذي يقام لشبان يذهبون كقطيع الاغنام الى المسلخ، وهذا الصوت القادم عبر مكبر الصوت، لواحد يتكلم كاذبا عن هذه المناسبة السعيدة وسط هذه المناحة التي تقيمها امهات المجندين، مفتخرا بحضارة القنابل التي ستحرر الشعب الحبشي. نعم ستقتلهم، ليكون هذا القتل انعتاقا لهم من العبودية. فلماذا اذن لا تسبح في بحر النذالة كغيرك من السابحين، ولماذا، لمن يرتكب النذالات الكبيرة، ان يتحرج من ارتكاب نذالة صغيرة مثل الترصد للمرأة التي يحبها حبا مشنوقا بائسا يائسا، والالتصاق بها وسط الزحام والاحتكاك بجسمها من الخلف الى حد الاستمناء. ثريا التي اقترنت في ذهنك بالعذوبة والشفافية، لا تستحق معاملة كهذه المعاملة الرخيصة، مهما كنت نذلا مع الاخرين. اذ ان مجرد التفكير في لقائها بهذه الصورة المبتذله، اهانة للعاطفة التي تدعي انك تحملها لها، ام تراك لم تعد قادرا على التعامل بالقواعد الحقيقة لهذه العاطفة التي اسمها الحب،بعد ان رأيت كل شيء يعرض في سوق البيع والشراء، حتى العواطف والاحاسيس والقلوب والضمير. هاهي الخطة المغلفة بورق مفضض، التي اعدتها لك حورية، تتكشف ورقاتها الفضية واحدة بعد الاخرى، حيت ستحتاج وانت تدخل هذه اللعبة ان تكون مسلحا باكبر قدر من النذالة. ستمثل في البداية دور الابله، الذي لا يعرف ما يدور حوله، او ماذا يريدون منه، الى ان تتكشف امامك كل ابعاد اللعبة، تحت اكثر الاضواء سطوعا وقسوة، لكي تبدأ اللعب من موقع القوة.
لهذا الزحام رائحة تعرفها جيدا،لانها رائحة العوز والفاقة، القميص الذي يبقى حتى يذوب فوق جلد صاحبه لانه لا يملك قميصا غيره، والعرق الذي يتراكم فوق جلد انسان لا يملك صابونا يزيله به، ستصيبك هذه الرائحة بالدوار ان لم تخرج الان من هذا المكان الخانق، وتذهب لمباشرة مهام عاجلة يجب ان تكرس لها ما تبقى من النهار، وان تترك رؤية ثريا ليوم آخر، تكون فيه اكثراستعدادا للقائها. واكثر هذه المهام استعجالا هي تدبير مكان يأويك بعد ان رفع الجيش الايطالي الغطاء الذين كان يحميك من شراسة السوق ويعفيك من التفكير في مشاكل السكن والطعام والملابس. انت الان خارج الجيش مؤقتا،او بالاحري جندي في مهات غير عسكرية، وبامكان الجيش ان يستردك متى شاء لانك احد عناصره، اما الان وخلال فترة الاستثناء، او التسريح المؤقتة اذا شئت، فعليك ان تتولى تدبير نفسك بنفسك، والاعتناء بشراء وتحضير طعامك، وغسل ملابسك، لان المعسكر الذي كان يأويك سيخضع منذ الغد لاعمال الصيانة، وتجهيزه ليكون قاعدة عسكرية ايطالية، لها مهمات غير مهماته الاولى، ومعنى ذلك انه لن تكون هناك دفعات اخرى تذهب لحرب الحبشة، بحجم هذه الدفعة التي ضمت ما مجموعة خمسة عشرة الفا من كافة المراكز في شرق البلاد وغربها. سيكون هذا العدد هو مساهمة ليبيا الفاشية وحاكمها ايتالو بالبو في الحملة الايطالية لاحتلال الحبشة، مع امكانية ارسال اعداد قليلة يمكن تدريبها في مراكز التدريب المحلية.
تمنيت لو كان بامكانك ان تحصل على اجازة قصيرة تذهب خلالها لزيارة الاهل في اولاد الشيخ، الذين يعتقدون انك الان في الطريق الى ميادين القتال في الحبشة، الا انك تعرف بان اجازة كهذه غيرممكنة، فقد سعت حورية لاصدار قرار التأجيل بحجة ان هناك عملا يحتاجك احتياجا ضروريا، فكيف يستقيم اعطاء الاجازة مع هذا الترتيب الذي ابعد عنك اهوال الحرب. ثم ما الذي طرأ على عقلك وجعلك فجأة تحب "اولاد الشيخ " التي خرجت منها هاربا، ناقما على حياتك فيها، غاضبا على حياة البؤس والخمول والكسل العقلي التي يعيشها اهلها، بمن فيهم والدك وامك، الذي كرهت ما فعلاه بك، وما سبباه لك من شقاء عانيت منه منذ ايام الطفولة والى آخريوم خرجت فيه من القرية بسبب فراقهما، فمن اين ومنذ متى ولدت لديك هذه العاطفة نحو " اولاد الشيخ " حتى تحن اليها؟ انه نوع من الضعف والشعور الطفولي،الذي لا يليق برجل مثلك، ويجب ان تقتله من نفسك، فتكون شديدا، قويا، قادرا على التعامل مع الاخرين بنفس العملة التي يصرفونها لك، وستكون ظالما لنفسك مستهينا بحقها اذا لم تتعامل بالمثل مع من يصرف لك شقاء وقسوة،وهو ما تستحقه بيئة الاهمال والخمول والبؤس والتعاسة في اولاد الشيخ، فاتركها للاهمال والنسيان، واعتن بنفسك ومستقبلك، فامامك حياة جديدة، وافاق اكثر رحابة واتساعا تحتاج لان تسخر لها كل جهدك، وتنصرف بعقلك وقلبك وجوارحك للاستفادة منها والاستمتاع بها وتأكيد مكانتك في هذه البيئة المدنية الجديدة التي صرت فردا من افرادها.
لم يبق لك الا ان تسرع الان بالذهاب الى فنادق المدينة القديمة وخاناتها العتيقة في باب البحر، التي كانت تستقبل اهل القوافل بمواشيهم في ازمنة مضت، واصابها في السنوات الاخيرة شيء من التجديد والتطوير فتخلت عن استقبال المواشي، واحالت الاسطبلات الى مقاهي ومطاعم شعبية، او الى مخازن وحوانيت، وصار الاقبال عليها كبيرا بعد انتهاء الحرب بين الليبيين والطليان، وعودة الناس للاشتغال بالتجارة والزحف على المدينة من الاطراف والارياف للعمل والاقامة، بحيث يصعب، كما يقول العالمون بهذه الامور، وجود اماكن شاغرة بهذه الفنادق التي تؤجر غرفها لاماد طويلة.
تتمنى ان يوفقك الحظ للعثور على غرفة بدءا من اليوم، لانك حتى لو حصلت على اذن بالبقاء في المعسكر ليومين او ثلاثة، فانك لن تقوى على البقاء بمفردك وسط تلك المتاهة التي لم تعد تليق الا باقامة الاشباح.
بعد بحث استغرق عدة ساعات، عثرت على فندق لم يمر بمرحلة التحديث والتطوير، أي انه مازال يحتفظ بباحة صغيرة يخصصها لمن جاء راكبا جملا او حصانا او حمارا، او حاملا بضاعته على يهيمته، حيث سيجد سائسا يعتني بحراسة هذه الدواب وما تحتاجه من عليق. فهو آخر فندق في طرابلس يقدم هذه الخدمة ويرمز وحده لما تبقى من تلك الدور والحضائر والاسواق التي تقع في نهاية طريق القوافل ولم تبق منها الا اسماؤها، مثل سوق الخضار الحالي، الذي مازال رغم تبدل طبيعة المهمة التي يقوم بها، يسمى سوق العبيد، لانه كان في عهود سالفة سوقا للرقيق.
وبرغم بدائية المكان، فقد اعتبرت نفسك محظوظا لوجود غرفة في هذا الفندق، لانه يقع اسفل هضبة باب البحر، غير بعيد عن الميناء، في نصف المسافة بين بنائين، اصبحا من الرموز الحضارية للمدينة القديمة، احدهما جامع عتيق، هو جامع قرجي، بمعماره الخاص ومنارته المتميزه عن كل منارات المدينة بمستوياتها المتعددة، وما للجامع من قيمة تاريخية واثرية ودينية، وبين بناء اثري روماني يقولون انه اقدم بناء في مدينة طرابلس، هو قوس الامبراطور ماركوس اوروليوس، الذي خصص الايطاليون فريق عمل يقوم الان بترميمه وترصيف الباحة التي حوله وزراعة اشجار الورد حوله، ليكون مركز استقطاب سياحي.
ولهذا لم تتردد في اخذ غرفة من غرفه الكائنة في الدور الثاني، التي تطل على الرواق المطل بدوره على الباحة الداخلية المفتوحة التي تتوسط المبنى، وفق الطراز المعماري لقصور وعمائر المدينة القديمة.
وتصادف ان يكون هذا المكان الذي يقع فيه الفندق، هو احب جزء من طرابلس الى نفسك، وجاء الفندق ليؤكد هذه المعاني التي يمثلها موقعه بالنسبة لك، باعتباره يشكل حلقة وصل بين الصحرا والبحر، وبين القديم والحديث، وبين اهل الريف واهل المدينة، وبين زمن طرابلس الذي يعود الى فجر التاريخ، وزمنها الاسلامي الوسيط، وعصرها الحديث.
ودون ان تعطي كبير اهتمام لنوع الغرفة، التي كانت ذات جدران اكلت الرطوبة قشرتها الجيرية، ومحت الطلاء الاخضر الذي كان يغطي خشب بابها ونشباكها، خالية من أي اثاث غير دولاب قديم وسرير ومرتبة، فذهبت مسرعا وقبل ان تقفل الحوانيت ابوابها فاشتريت مبيدا للحشرات لمعالجة البراغيت التي رأيت اثارها على الحائط، واشتريت موقد الغاز الذي ستطهي عليه منذ اليوم طعامك، مع معدات الطهي والطعام، دون ان تنسى مصباح الغاز، وتركت التموين الى يوم آخر. كنت قد استأجرت عجلة، لقضاء هذه المشاوير المسائية، التي كان من بينها مشوار اخير الى المعسكر لاحضار شنطة ملابسك.
اكتشفت في صاحب الفندق رجلا شديد المرح، بمثل ما هو شديد البدانة، يسمونه الكبران، ويسمون فندقه فندق الكبران، لانه كان رئيسا لاحدى ورديات العمال في الميناء قبل ان يتفرغ للعمل بفندقه، رغم انه لا يزال يرتبط باعمال تتصل بالشحن وتسريح البضائع ويجعل من غرفة بالطابق الارضي، مكتبا لادارة الفندق وتصريف شئونه التجارية الاخرى. قضيت الساعات الاولى من الليل تستكشف المنطقة التي صارت موطنا لك، واجواء الفندق الذي يأويك، حيث استضافك الكبران في مكتبه، الذي يتحول اثناء الليل الى غرفة للسمر ولقاء الاصدقاء، يلعبون الورق ويرتشفون كؤوس الشاي بالفستق السوداني ويستمعون الى حديث الكبران، الذي يملك شهية مفتوحة للكلام، واختراع الحكايات، ويتوفر على مجموعة افكار لاصلاح العالم، يرجو الله ان يحييه حتى يحققها.
اويت الى سريرك متأخرا، ولانك تمشيت كثيرا اثناء البحث عن فندق، ثم قطعت بعد ذلك وقتا اكثر تدير عجلة الدرجة متنقلا بين شرق المدينة وغربها، فقد اسلمك الانهاك الى نوم عميق لم تستيقظ منه الا بعد فترة من ميعاد صحوك المعتاد، وذهبت الى بيت حورية متأخرا نصف ساعة عن موعد الدوام، وما ان وصلت حتى وجدت مختار العساس وعياد الفزاني يقفان امام العمارة بانتظارك، وسمعت الفزاني يقول بانه ذهب الى المعسكر يبحث عنك فعرف انك غادرته الى محل اقامة جديد، وانه ظل حائرا ماذا يفعل، حيث انه مكلف بابلاغك منذ البارحة ان تأتي مبكرا هذا الصباح لان هناك مهمة وقع الاختيار عليك للقيام بها. كنت ادركت منذ اللحظات الاولى لوصولك وقبل ان تسمع شيئا من الفزاني، ان الحاكم العام موجود ببيت حورية، ولابد انه قضى الليل معها، لانه لايمكن ان يكون قد صحى مبكرا وجاء اليها. عرفت بذلك من وجود ثلاث سيارات عسكرية رابضة في الشارع، وعدد ظاهر من الحراس المتناثرين امام العمارة غير السريين المبتوتين في المنطقة.
وفهمت من عياد، ان القائد سيحتاج اليوم الى سائق عربي، يأخذه في سيارة مدنية، لحضور عيد الربيع الذي يقام في واحة جنزور، وقد وقع الاختيار عليك لتولي المهمة. لم يكن بامكانك ان تقول شيئا، سوى الاعتراف للسائق الفزاني، بانه الاجدر بتولي هذه المهمة، بحكم الخبرة والاقدمية، فقال بان القرار في هذا الموضوع ليس لي او له وانما لصاحب الشان الذي وضع موصفات لهذه المهمة من بينها ان يكون من اهل المنطقة مجاملة لجمهور الاحتفال من الطرابلسيين، وباعتبارك من منطقة طرابلس فانت اقرب من رجل مثله قادم من فزان البعيدة، ثم انه يفضل سائقا عسكريا يعرف اساليب المقاومة والدفاع عند حدوث أي طاريء على سائق مدني مثل عياد الفزاني.
شعورك بالغبطة لهذا الاختيار، كانت تخالطه نسبة من الشك والريبة، الا انك لم تشأ ان تشغل نفسك بالبحث عن الدوافع وراء هذه التدابير، فالاسلم والاكثر لياقة وتأدبا، ان تحتفي بهذه التدابير المثيرة المفرحة، وان تترك نفسك للتيار يمضي بك حيث يشاء، مستفيدا من التعبير الشهير الذي كان يردده الشاويش عنتر " ارخي روحك تعوم " لانه كما كان يقول للمجندين، لا شيء يقود الى الغرق، الا التشنج والتوتر ومقاومة التيار.
جاء احد الحراس الايطاليين يسألك ان تستعد بالسيارة التي اعتنى مختار العساس بغسلها وتنشيفها ورشها من الداخل بعطر له نكهة المسك، وما ان اخرجتها لتقف على باب العمارة جاء الحارس لفحصها بجهاز مر به على كل جزء من السيارة، ثم امرك بالوقوف خارج السيارة لتفتيشك تفتيشا شخصيا، قبل ان يمر بالجهاز على جسمك. احسست بشيء من الغيظ، الا انك كتمته وحاولت ان تتفهم الدوافع لعمل هؤلاء الحراس. عدت للجلوس امام المقود، وجلس احد الحراس المسلحين في المقعد المجاور لك. تحركت السيارات العسكرية، فوقفت احداها امامك ووقفت الثانية والثالثة خلف سيارتك، وقرأت انت في سرك سورة الفاتحة والاخلاص واية الكرسي والمعودتين،واستنجدت بالولي الصالح سيدي عبد السلام الاسمر، طالبا منه ان يشد ازرك، لكي لا تنهار وتفقد اعصابك وانت تقود السيارة التي تحمل فرعون هذا الزمان، فيفتك بك هؤلاء الزبانية الذين يحيطون به. وبعد انتظار نصف ساعة جاء المارشال، ترن ضحكته عاليا، وتملع اسنانه البيضاء وسط لحيته الداكنة السواد، يرتدي بزته العسكرية، يمسك باحد يديه سيجارا، وباليد الاخري يسحب خلفه حورية التي تحاول ان تجاريه في خطواته السريعة القوية، تثب وثبا رشيقا في فستان له طيات جميلة تنحدر من عنق الفسان الى حوافه السفلى، تختلط فيه الدوائر الزرقاء والبيضاء كحركة الموج، يهفهف حول جسمها، وله حزام ابيض يشد بقوة علىخصرها الذي ضاق حتى كاد يختفي قبل ان ينتشر الفستان ثانية، بطياته الكثيرة التي ترقص وتتماوج حول ساقيها، وكان لحدائها النسائي الابيض، بكعبه الطويل ايقاع متوافق مع دقات اقدام المارشال القوية، بينما يتماوج شعرها الاسود وتثناثر خصلاته وتتراقص فوق وجهها الضاحك الصبوح، وتمشي مشيتها السريعة بايقاعها الراقص فتبدو كانها كائن مصنوع من موجات الضوء والهواء. هبط الاثنان السلالم الرخامية لباب العمارة واجتازا الردهة الصغيرة التي تشكل جزءا من الرصيف امامها، فاسرع احد الحراس لفتح بابي السيارة الخلفيين لهما، وانطلق الموكب الرئاسي، عبر شارع البلدية ثم الكورسو دي سيشيليا متجها الى قرية جنزور. حانت منك التفاتة لحظة ركوب المارشال السيارة، واصطدمت عيناك بعينيه العميقتين المتوهجتين كشعلتي لهب، فسرت في جسمك رعشة، كأن تيارا كهربائيا يسري مع نظراته، وتهادى صوته قويا، عريضا، وهو يحادث حورية، حديثا متصلا حماسيا لم تفهم منه الا اشاراته لروما والى اسماء قادة في الحزب والحكومة يغيظونه ويعاكسونه لانهم لا يفهمون طبيعة هذه البلاد وحجمها الهائل وما يقتضيه ذلك من انفاق لاعمارها، بينما تقود انت السيارة مستنفر الاعصاب، لم تتغلب بعد على حالة التوتر، حتى كدت وانت تلاحق سيارة الجيب العسكرية التي امامك، ان تصطدم بها لحظة ان هدأت من سرعتها في احدى المنعطفات. ادركت حورية مدى التوتر الذي يعتريك، بسبب وجود الحاكم العام، فارادت ان تتبسط معك قائلة، بان سعادة الحاكم العام، كان يريدك في مهمة على جانب كبير من الدقة والخصوصية في الحبشة، ولكنها اقتعته بان وجودك هنا سيكون اكثر نفعا وفائدة. اردت ان تشكرها وتشكر سعادة الحاكم العالم، الا ان الكلمات ابت ان تخرج من حلقك، فواصلت هي الحديث، تتساءل هذه المرة عن المكان الذي انتقلت اليه بعد ان تركت المعسكر، فافلحت بعد جهد ان تنطق اسم المدينة القديمة، وعندما ترجمت حورية طرفا من حديثها معك، الى المارشال بالبو، جلجل صوته بالافكار والخواطر التي اثارها في ذهنه اسم المدينة القديمة، قائلا بان كل حجر في المدينة القديمة له قيمة تاريخية ثمينة تتضاءل امامه قيمة أي انجاز معماري يحققه المحدثون في الجزء الجديد من المدينة، وقد حرص، كما حرص اسلافه الثلاثة فولبي ودي بونو وبادوليو على ان يكون الجزء الحديث، منسجما مع عراقة الجزء القديم، ويبدي اسفه لانه على كثرة جولاته التي شملت كل شبر في ليبيا من اقصاها الى اقصاها، مازال حتى الان لم يدخل المدينة القديمة، ولم يذهب ابعد من سوق المشير والسرايا الحمراء، ربما لان الحواري الضيقة التي لا تتسع لمرور السيارة، هي التي جعلت الضباط المسئولين عن امنه الشخصي، يرغمونه على تأجيل الزيارة، كلما هم بان يذهب الى قلب المدينة القديمة. ولم يبق امامه الا حل واحد، هو ان يهرب من هؤلاء الضباط، ويدخلها معتمدا على خبرة دليل من اهل البلاد، ليزور القنصليات القديمة، والاسواق المسقوفة التي تبيع الصناعات التقليدية، ودور العبادة واقدمها جامع الناقة الشهير، والمعبد اليهودي بالحارة الصغيرة، والبيوت ذات الابراج والقباب التي سحره منظرها وهو يراها من الجو اثناء قيادته لطائرته.
تذكرت وانت تستمع الى حديث القائد العام، الذي فمهت اغلبه، لانه يتحدث عن موضوع مألوف لديك، ان الايطاليين جميعهم يتجنبون دخول المدينة القديمة، بل انه خلال الاشهر التي اقمتها في كوشة الصفار، لم يحدث ان رايت جنديا او دركيا ايطاليا واحدا يدخل المدينة القديمة، حتى مهمة حفظ الامن والنظام بداخلها، متروكة لعناصر ليبية تعمل في الامن، الحالة الوحيدة التي رأيت فيها جنودا ايطاليين في المدينة القديمة، هي حالة المداهمات التي تقوم بها فرق مسلحة، وتتولى التقاط الشباب من والشوارع والبيوت وارغامهم على الدخول الى الجندية. عدا ذلك فان المدينة القديمة ظلت حكرا على اهلها الليبيين، ومن احتمى بهم منذ قرون، كالبحارة وصيادي السمك اليونانيين، والمالطيين، واعضاء الجالية اليهودية الذين جاء بعضهم منذ الامبراطورية الرومانية.
وعبر الجموع الغفيرة من لابسي العباءات البيضاء، والتي وقفت على جانبي الطريق، لاستقبال الحاكم العام، هاتفة بحياته وحياة الدوتشي، مرق موكب السيارات الاربع، باتجاه الخيمة التي اعدت كاستراحة للمارشال بالبو. كانت خيمة عملاقة مفروشة بالابسطة، تتوزع في اركانها الارائك وكراسي الفوتيل كانها بهو باحد القصور، وتتصدر مدخلها بومكيهات عملاقة من من الزهور وفي ركن يحادي مدخل الخيمة وضعت طاولة تصطف فوقها دوارق المعاصير وسلال الفاكهة. كنت قد اوقفت السيارة امام الخيمة، حيث كان عدد من اعوان بالبو الايطاليين، قد سبقوه الى هناك، بعضهم بزيه التعسكري وبعضهم بالملابس المدنية، يصطحبون نساءهم، ويقفون اما م الخيمة في انتظاره، وعندما وصل هرعوا لمصافحته ومصافحة رفيقته، و دخلوا جميعا الى الخيمة. قادك المرافقون الى مكان بجوار الخيمة تركن فيه السيارة لكي تبقى تحت نظر الحراس، متيحين لك فرصة ان تشاهد الحفل، دون ان تغيب عن السيارة لمدة طويلة، لان عليك ان تكون جاهزا في اية لحظة يريد المارشال ان يغادر فيها المكان.
و في قلب الساحة التي يقام فيها الحفل، اصطف عدد من الفرسان يركبون خيولهم ويرتدون البرانس السوداء المقصبة حوافها بخيوط الذهب والفضة، في حالة استعداد لبدء استعراضاتهم في اعمال الفروسية، امام المنصة العالية التي تغطيها مظلة من الحصران الملونة لاتقاء حرارة الشمس كما تغطي بقية الاماكن المخصصة لكبار الضيوف حيث صفت كراسي الجلد الوثيرة، وفي الاعالي ترفرف الراية الايطالية المثبتة الى راس سارية في طول اعمدة الكهرباء. لم يغب المارشال طويلا داخل الخيمة فالحفل لن يبدأ قبل ان ياخذ مكانه في المنصة، خرج صحبة عدد من اعوانه، دون ان تخرج معه حورية التي بقيت صحبة النساء الايطاليات، وتقدم باتجاه المنصة ليجد في استقباله عدد من رجال الحكم المحلي والشيوخ الذين يشرفون على الحفل، بعضهم يرتدي البذلة والطربوش،وبعضهم العباءة وفوقها البرنس، وقادوه في جولة بين الخيام الكثيرة التي صنعت هلالا يحيط بميدان السباق، ومن حول الخيام احتشد جمهور المواطنين الذين جاءوا للمشاركة في حفل الربيع. امتلأت الخيام بمغنيات الاعراس، يضربن الطبول ويصدحن بالغناء، كما جاء منظمو الحفل بقطعان من الاغنام ومعها رعاتها يقومون بجزها بما يرافق عملية الجز من غناء واهازيج، باعتبارها مظهرا من مظاهر فصل الربيع، وانتشر اعضاء الفرق الفنية الشعبية يرقصون ويغنون ويعزفون المقرونة ويضربون الدربوكة والبندير والطار والصاجات، ويصنعون صخبا عظيما، وكان الحاكم العام، يمر امامهم ويبتسم لهم، ويشير لاحد معاونيه، فيتقدم ليضع نقودا في ايدي هؤلاء الراقصين والعازفين ومغنيات الاعراس، وحان موعد العاب الفروسية، فعاد الحاكم العام الى المنصة واخد مكانه في الكرسي العالي الذي اعد له، وفي مستوى اقل من مستواه صفت الكراسي التي جلس فوقها اعوانه ومضيفوه، وخلفه مباشرة جلست حورية وبقية النساء الايطاليات، تفصلهم جميعا مسافة عى مضمار السباق، تحميهم من الغبار الذي تثيره حوافر الخيل، وقد بدأ الفرسان الذين خلعوا البرانس وبقوا في ملابسهم الوطنية يستعرضون مهاراتهم التي ظل المارشال يتابعها بالمنظار المكبر عند ابتعادهم عن المنصة، فهذا يأتي راكبا جواده ثم فجأة يقفز فوق ظهره، ويمضي الجواد راكضا بنفس السرعة، والفارس ممسكا بخيط اللجام، متسمرا بقدميه فوق السرج، محتفظا بتوازنه طوال مدة وقوفه، وهؤلاء اربعة اوخمسة فرسان يركضون متحدين ملتحمين، ثم يشبك كل واحد منهم ذراعه في ذراع زميله اثناء ركض الجياد، وهم يصدحون باغنية مشتركة من اغاني الفروسية، في نفس واحد وايقاع واحد، ينسجم مع ايقاع حوافر خيولهم التي مضت تركض كانها جواد واحد له خمسة رؤوس وعشرون قدما، وهذان فارسان يركضان معا مشتبكي الايدي، ثم يقفان فوق ظهر جواديهما ويواصلان الركض معا، يؤديان بايديهما المشتبكة، وهما واقفان فوق الجوادين الراكضين،التحية للقائد الايطالي، فيلوح بيده ردا عليهما، وتتحرك شفتاه بكلمات الاعجاب التي تضيع في الصخب والضجيج، وقد جاءوا اليه بعد نهاية الاستعراض، يتقبلون منه التهنئة على مهاراتهم، وقد دعاهم للوقوف معه على المنصة لاخذ الصور التذكارية والمشاركة في تناول المشروبات المرطبات ودوارق الحليب واطباق التمر، التي احظرها منضمو الحفل لضيوف الشرف، في انتظار الفقرة التانية التي تلي الفروسية، وهي فرقة الاذكار والاناشيد الصوفية، التي وقفت في اول الميدان بدفوفها وصاجاتها، تستعد لانشاد مدائحها واذكارها عند مرورها امام المنصة، وكانت ضحكة المارشال ترن عالية وسط هذا الجو الاحتفالي البهيج، الذي ينسجم مع مزاج المارشال وحبه الذي اشتهر به للمرح والحفلات الصاخبة، وفجاة دوى الرصاص الصادر عن حرس المارشال، يغطي على صخب الاحتفال، وسقط مواطن ليبي يرتدي العباءة البيضاء، تحت قدمي المارشال مخضبا بدمائه، فقد رآه
هؤلاء الحراس يخرج من صفوف المتفرجين ويخترق الدائرة المحيطة بالحاكم العام، وقد وضع يده في جيب صدريته لاستخراج السلاح الذي سيغتال به ا لمارشال بالبو، فاجهزوا عليه قبل ان يتمكن من ارتكاب جريمته. كنت قريبا من المنصة ترى وتسمع ما يحدث. افزع دوي الرصاص حشود البشر القريبين من الحادث، ففروا هاربين يدفع بعضهم بعضا، وهرع الجنود ورجال الدرك لتطويق الحاكم العام وحمايته من أي تهديد، وكان هو قد اسلم نفسه لطاقم الامن الشخصي الذي يرافقه فاسرعوا نحوه باحدى سيارتهم العسكرية، التي انطلقت لابعاده عن مكان المحاولة بسرعة جنونية، وتحركت وراءها سيارات كثيرة بعضها عسكر ي وبعضها مدني، هي سيارات العساكر ورجال الشرطة مع سيارات اعوانه الايطاليين الذين ارعبتهم المحاولة، وخشوا من وجود خطة تستهدفهم، فهرعوا الى سياراتهم، يصيحون بنسائهم ان يقفزن معهم اليها، واندفعوا بها مسرعين، غير عابئين بالحشود التي امامهم، والتي ارغمها الخوف على ان تشق لهم طريقا، يشبه المعجزة، وسط الصراخ والعويل، واعتبرها الجائعون والفقراء من اهل المنطقة فرصة للهجوم على الموائد التي تضم المشروبات والحلويات والاطعمة الخفيفة يملأون منها بطونهم، بل عمد بعضهم الى نقل الكراسي والابسطة والحصران التي كانت جزءا من المنصة، ولم تدر انت ماذا تفعل غير ان تأخد حورية اذا كانت موجودة وتلحق بركب الحاكم العام. ذهبت الى خيمة التشريفات، لتبدأ بحثك عن حورية هناك، فاذا بالخيمة قد اجتاحتها افواج من الصبيان الحفاة، الذين يرتدون الاسمال البالية، يطوون الافرشة ويجرون الكراسي ويفرغون اطباق الفاكهة في حجورهم، فلم تقف في وجه احد منهم، لان كل ما كان يهمك في هذه اللحظة هو العثور على حورية التي صرت خائفا عليها، لانه يمكن لواحد من هؤلاء الثوار الذين ينتمي اليهم صاحب محاولة الاغتيال، ان يعتبرها امرأة مارقة، خائنة لانتمائها الليبي، تستحق القتل.
كانت كل السيارات قد غادرت المكان ولم تبق الا بعض عربات الحنطور التي جاء بها بعض الاعيان والشيوخ. لم تبق غير سياراتك رابضة امام الخيمة تحمل لوحات الحكومة الايطالية وعلم الدولة الايطالية. لقد انشغل هؤلاء الفتيان الاشقياء عنها بالغنائم المنقولة، وبعد قليل ينتبهون اليها، لتستقبل غضبهم وحجاراتهم بمجرد الانتهاء من نهب وتقويض الخيمة في غيبة رجال الجيش والامن الذين اختفوا متدرعين بحماية الحاكم العام. الا انك لا تستطيع ان تغادر هذا المكان قبل ان تتأكد ان حورية قد غادرت في امان هي الاخرى، واثق من انك لم ترها تغادر حتى الان، ولابد ان تذهب للبحث عنها في الخيام المجاورة، ولكنك لا تستطيع ان تترك السيارة قريبا من هذه العصابات. في هذه الاثناء، رأيت شيخا من شيوخ المنطقة، غارقا في الزحام، يحاول ان يهديء روع الناس ويطلب منهم الهدوء والنظام وايقاف عمليات النهب، فواتتك فكر ة استخدامه لحماية نفسك وحماية السيارة والبحث دون خوف عن حورية، وبسرعة اخذت بيده لسحبه باتجاه السيارة، وتسأله ان يركب معك ليستطيع ان يتحرك بسرعة بين الناس، يطلب منهم الهدوء، وهذا ماحدث فعلا، نزعت العلم الايطالي من مقدمة السيارة، واخذت الشيخ معك، وفتحت له سقف السيارة، وسرت تشق به الجموع وتقف امام كل خيمة من الخيام، احتمى بها اصحابها من الفوضى، وفضلوا البقاء حتى تهدا وتنتهي حالة الفزع، والرجل يحاول ان يرفع صوته فوق الصخب والضجيج، يسأل الناس ان يعودوا في هدوء الى بيوتهم، والا يستفزوا الحكام ويجبروهم على انزال عساكرهم لمعاقبتهم وتأديبهم بالحديد والنار. وكان الشيخ بين الحين والاخر، يضرب كفا بكف متأسفا على الرجل الذي مات ظلما، وعندما استفسرت منه عما يقصده، افهمك ان المسألة لم تكن محاولة اغتيال كما اعتقد الحارس الذي اطلق عليه النار، فالرجل كان مواطنا عاطلا عن العمل اسمه معتوق، تستعين به مدرسة جنزو ر الابتدائية في اعمال التنظيفات بين الحين والاخر، وهو يسعى مع المدرسة ان يحصل على عمل دائم كاحد السعاة دون فائدة، وقد اخبروه ان الحاكم قادم الى جنزور وكتبوا له التماسا يقدمه له ليأمر بتعيينه في المدرسة، وعندما قتل كانت يده ما تزال قابضة على الالتماس الذي ظنه الحارس سلاحا. واصلت قيادة السيارة انت الاخر بشيء من العصبية، قابضا على مقود السيارة باصابع متشنجة، تشعر بالغيظ والاسى مما حدث، وفجأة وسط الضجيج تناهى اليك صوت حورية يناديك، لحظة مرورك امام احدى الخيام. اوقفت السيارة تمد بصرك الى مصدر الصوت، فرأيتها وقد احتمت بمجموعة من مغنيات الاعراس واندست بينهن متظاهرة بانها واحدة منهن، لكي تخفي نفسها عن بعض الرجال الغاضبين مما عرفت انهم يبحثون عنها ويهددون بقتلها. اقتربت بالسيارة من مدخل الخيمة الى الحد الذي استطاعت فيه حورية ان تقفز من مكانها في الخيمة مباشرة الى المقعد الخلفي، وتدس جسمه بين الكراسي لكي لايراها احد من الجمهور الذي يهددها، ودون ان تنذر الشيخ بما ستفعله، هبطت بكل ما في قدمك من قوة على دواسة الوقود، لتزأر السيارة وتقفز وتصنع حالة من الفزع بين الناس الذين تقافزوا شمالا ويمينا تاركين لها الطريق، ولم تقف لتسمح بالشيخ الذي صاريصرخ غاضبا، بالنزول، الا بعد ان ابتعدت السيارة اكثر من ميل على مكان الحفل. كان المكان خاليا، فادرت رأسك تسأل حورية ان تستقيم في جلستها، فوجدتها منكفئة على وجهها فوق المقعد الخلفي تبكي بكاء صامتا، وما ان رأت الشيخ يغادر السيارة حتى تحول بكاؤها الصامت الى نواح وصراخ.
تحركت بالسيارة قليلا خارج الطريق العام، وساعدتها على ان تتمدد وترتاح في القعد الخلفي، ووجدت زجاجة ماء في الصندوق الخلفي للسيارة، فسالتها ان تضع شيئا من الماء على وجهها كي تستعيد شيئا من الانتعاش. كانت تعرف ان المارشال بالبو بخير، بل تعرف ايضا ما صار يتردد بين الناس عن الخطأ الذي وقع فيه الحارس عندما قتل رجلا بريئا واحدث كل هذه الفوضى، نتيجة سوء التفكير والتدبير. كان الشيء الذي افزع حورية اكثر من أي شيء سواه، هو انها سمعت صوت رجل يبحث عنها، وهو يحمل فاسا في يده، مهددا متوعدا، يريد ان ينتقم لشرف الليييين الذي دنسته عشيقة بالبو التي اصطحبها معه الى هذا الحفل. حدث هذا بعد ان فرغ المكان من العساكر ورجال الشرطة، فاستغل الرجل هذا الوضع وجاء لخيمة الشرف يبحث عنها، ولولا ان احدى الزمزامات اشفقت عليها، ووضعتها بين بنات فرقتها، لتصرف انظار هذا الرجل ومن كانوا معه عن حورية، لكانت قد تحولت الى اشلاء. سألتك حورية عندما اوصلتها الى بيتها، الا تذكر شيئا عما رايت، لان النفخ في هذا الحادث ونشر اخباره بين الناس، لن يكون في صالح العلاقة الانسانية القائمة على الود والتفاهم التي افلح المارشال في تحقيقها بين عنصري الوطن من ليبيين وايطاليين، وامتثالا لتعليماتها لم تفتح فمك بكلمة واحدة عن الحادث، حتى لمختار العساس وعياد السائق، وهما يسألانك في فضول عن السبب الذي جعل الباشا الكبير لا يعود معكما كما كان متوقعا، وعن الحالة المرضية التي اعترت حورية حتى اضطرت الى الاتكاء عليك وهي تخرج من السيارة. لم تقل لهما شيئا واسرعت بالعودة الى الفندق حيث احتفظت بصمتك وقررت الا تقابل احدا ذلك المساء لكي لا تكون شريكا في جلسة يثار فيها الموضوع، ولعل هذا التكتم هو الذي جعل اهتياج العواطف اثناء الليل اكثر حدة، فامضيت ليلة عامرة بالكوابيس كان بطلها ذلك الرجل القتيل، الذي ارتدى لهذه المناسبة عباءة نظيفة، وجاء يملأ قلبه العشم في مروءة الحاكم الايطالي الذي سيحقق له حلم ان يصبح عامل تنظيفات بمدرسة جنزور، فاغتالت حلمه البسيط رصاصات ذلك الحارس المذعور. وكانت صورة معتوق المسكين وهو ينكفيء جثة هامدة فوق البساط، وقد اطل وجهه المتعب العامر بالتجاعيد بعينين جاحظتين رعبا، وفم مشدوه، ومفتوح بصرخة تجمدت فوقه الى الابد، هو آخر ما وعته الذاكرة لحظة الاستيقاظ.
وعرفت عندما ذهبت فور استيقاظك تشتري الصحف المحلية من عربية وايطالية، لترى ما حدث من اصداء على صفحاتها، ان ما قالته لك حورية، قد تحول الى سياسة رسمية، وان ستارا من الصمت اسدل حول الحادث، فلم تأت على ذكره هذه الصحف، ولم تتكلم عنه اذاعة الراي المحلية، التي جلست في المقهي تسمع فقراتها الاخبارية الصباحية، ووصلت الى البيت، لتسأل عن صحة حورية، فوجدت بانتظارك امرا عاجلا منها، تركته لك مع حواء، وان تأخذ السيارة وتذهب الى بيت الشيخ البلبال، في زنقة شائب العين، وتحضره لها على عجل.
رغم امتهانها العمل في المستشفيات الايطالية كممرضة، فان ولاءها بقى لهذا النوع من العلاج الروحي الذي يقدمه رجال من اهل الله، مثل الشيخ البلبال واشباهه. لم تكن المسافة بعيدة، ولم يكن الزقاق الذي يقع فيه بيت الشيخ يتسع لمرور السيارات، ومع ذلك اخذت السيارة، لان هذه هي تعليمات السنيورة حورية الدائمة لديك، كما حدث من قبل عندما ذهبت لاحضار سيدة التفصيل والخياطة، او فنى تركيب الستائر، او غيرهما، ممن كان من السهل عليك الذهاب لاحضارهم من امكان قريبة لا تحتاج لاستخدام السيارة، الا انها الزمتك بان تذهب اليهم بها، كنوع من التعبير عن احترامها لهم، فالناس يحبون ان يجدوا سيارة في انتظارهم، وبعضهم يحب ان يراه الناس راكبا مثل هذه السيارة، وهي لا تريد ان تبخل عليهم بمثل هذه المتعة، التي لا تكلف شيئا. الشيخ البلبال ليس من هذا النوع الذي يتباهى بالمظاهر الدنيوية، ولن يهمه ان يأتي راجلا او راكبا افخر السيارات، وعندما ذهبت اليه وضعت السيارة قريبا من ميدان الساعة، ودخلت الى الزقاق، فوجدته واقفا بانتظارك امام باب بيته، مرتديا جلبابه وطاقيته الابيضان، شاكرا لك صنيعك لانك جئت تماما في وقتك. كنت تعرف ان السنيورة حورية لم ترسل له خبرا مسبقا باحتياجها اليه، وانه لا يملك هاتفا يمكن ان تهاتفه عليه، وانما هو هاتف من الغيب يزوده بهذه المعارف والمعلومات التي لا يعرفها الا من لديه اتصال بالعلم اللدني.
قال بعد استوى جالسا على المقعد المجاور لك:
- اذن فقد احزنك مصرع معتوق المسكين على يد حراس المارشال. ما اعظم جهل هذا الحاكم الايطالي عندما يخشى الموت على ايدي الليبيين، وهو الذي لن يموت الا على ايدي جنوده الايطاليين. انهم هم، ولا احد غيرهم، من سيطلقون عليه النار، ويردونه قتيلا.
ارسل كلام الشيخ ارتعاشة هزت جسمك كله. ان احدا لا يجرؤ على ذكر المحاولة الكاذبة التي حدثت بالامس، فما بالك بذكر المصير المرعب الذي ينتظر حاكم البلاد على ايدي جنوده مستقبلا. ليته لم يقل ما قاله امامك، لانك ستكون مرغما على ان تحتفظ بهذا السر في صدرك، ولا تبوح به ابدا. لهؤلاء الناس من اهل الله،اساليب في البوح والتعبير تختلف عن بقية الناس، ولهم سبل لا احد يمكن ان يتنبأ بها، والا لماذا اختارك ليقول لك هذه النبوءة الخطيرة. هل لانه رآك حزينا لمقتل الرجل البريء فارادك ان تطمئن لان هناك انتقاما عادلا ينتظر الحاكم التي تسبب في المأساة. لم تجرؤ على ان تتفوه امامه باي تعليق، ولم تجد في نفسك القوة لان تسأله السؤال الذي يستدعيه حديثه، وهو موعد تحقيق هذه النبوءة. ولم يتفوه هو باية كلمة اخرى. استغرق في صلواته وتسبيحاته التي لم يكن يقطعها الا بنداءات تشبه الصراخ " الله حي، الله حي "، " مدد يا اسيادنا مدد "، " دستور ياسيدي الشنشان، ياللي راقد في دحمان".
امضى الشيخ وقتا يزيد على ساعتين، داخل البيت مع حورية، وآثر بعد انهاء مهمهته ان يذهب على الاقدام الى مشوار قريب فتركته وشأنه وصعدت السلالم للقاء حورية التي ارسلت لك مرجان يستدعيك. لم تشأ اثناء حديثها معك،ان تتوقف كثيرا عند حادث الامس. اشارت اليه اشارة عابرة وهي تنقل اليك امتنان الحاكم العام، بما فعلت عندما ابيت ان تهرب امام المشاغبين، وبقيت بينهم تبحث عن حورية حتى وجدتها وانقذتها مما كان يتهدد حياتها. كان واضحا انها تجاوزت تلك المحنة النفسية السيئة الناتجة عن فزع الامس، وافلحت في استرداد طبيعتها المرحة، المتفائلة، المحبة للحياة، شكرا للشيخ البلبال التي مازال رائحة اعشابه ذات العبير الطيب تعبق في انحاء البيت، تمارس تأثيرها المهدىء للاعصاب وتغري بالاستلقاء فوق احدى هذه الكراسي المريحة. انتبهت وانت تستسلم مرغما لحالة الاسترخاء الذهني الناتجة عن تأثير هذه الرائحة، الى حورية تضع بين يديك مظروفا كبيرا مليئا باوراق العملة، التي ظهرت حوافها واضحة تعيدك الى حالة اليقظة والانتباه، فتتفرس في الظرف مأخوذا ومندهشا لما ترى، متسائلا عن الغرض من اعطائك هذا الظرف، لانك لا يمكن ان تتصور انه لك، ولابد انه مبعوث عن طريقك لاحد الناس، الا ان حورية صارت تؤكد انه لك، قائلة بانها مكافأة رمزية، خصك بها الحاكم العام، نظير موقفك الشجاع يوم الامس. اعتذرت عن قبول النقود وانت تعيد اليها الظرف قائلا لها بان ما فعلته لم يكن يتعدى القيام بواجبك، وان ما تتقاضاه من مرتب وما تلقاه من حسن المعاملة يفيض ويزيد عما تقدمه من عمل لها، وان ما تشعر به من فرح وانت تخدمها، يكفي وحده ليكون الهبة التي لا تريد شيئا سواها. كنت تقول هذا الكلام عارفا انها لن تسترد الظرف،بل ستلح عليك في أخذه، وهو ما حدث فعلا، ولم تصدق، عند ذهبت بالنقود الى السيارة واخرجتها من الظرف تعده، انها تصل الى هذا المبلغ الكبير الذي يساوي مرتبك الشهري لاكثر من عامين. نقود كثيرة، كثيرة، لاتدري ماذا تفعل بها، او كيف ستقوم بانفاقها.
قررت ان تكون حكيما، فتضع نصف النقود جانبا، وانت تعطي لنفسك متعة وحرية التصرف في النصف الثاني. كان الوقت اوان القيلولة، ولم يكن هناك احد قريب منك غير مختار العساس الذي دخلت عليه غرفته

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف