اللاعنف في الإسلام (5)
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
الدفاع أو عدم الدفاع عن النفس ؟؟ أين وكيف ؟؟
معاني هائلة من قصة أول صراع إنساني بين ولدي آدم...
مر علينا حتى الآن نموذجان من التفكير الأول (أورهان) الذي رأى في القرآن مصدر كل عنف وقتل، والنموذج الثاني (م . ص) من رأى أن اللاعنف لا ينفع في المواجهات، وأن ابن آدم المهدد بالقتل لو انتبه لأخيه لقتله. وهو خطأ فادح في الفهم، وهي وصفة لا قرآنية جدا، فحين يتصرف الاثنان بهذه الطريقة فلن يحدث فرقا كبيرا، فمن سبق كان القاتل والمسبوق كان المقتول. وهذا يختلف جدا عن الرجل الذي لم يدافع عن نفسه، فمن دافع عن نفسه فقتل كان مجرما مثل القاتل الذي هاجم، فكلاهما نفسيا قاتل بفرق السرعة والسبق والفنية، وكلاهما من نفس العينة الإجرامية، وأهمية عدم الدفاع عن النفس أنها تحيل القاتل إلى مجرم، وأما حركة الدفاع والهجوم فتقلب القاتل إلى بطل منتصر، فهاتان آليتان نفسيتان مختلفتان جدا. ومنه جاء تعبير القرآن في لفظين في الآيات الست من سورة المائدة (الخاسرين) و(النادمين) "فطوعت له نفسه قتل أخيه فقتله فأصبح من الخاسرين، فبعث الله غرابا يبحث في الأرض ليريه كيف يواري سوأة أخيه، قال ياويلتي أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب فأواري سوأة أخي فأصبح من النادمين؟ أي أن القاتل لم يكن بطلا بل مهزوما خاسئا مدحورا، ولم يتحرر من ضغط شعور الجريمة حتى تاب، وهو يعني أن من مات لم يمت بل نشر مذهبه، حين اعتنقه القاتل بعد غياب صاحبه، وهو معنى الخلود في الشهادة. وهذا قد يحدث، وكلنا سنموت يوما، والعبرة في ثبات وديمومة الأفكار. وإلا كان الكون باطلا بني عبثا، وما خلق الله السموات والأرض وما بينهما إلا بالحق وأجل مسمى والذين كفروا عما أنذروا معرضون.
ونأتي الآن إلى النموذج الثالث من التفكير السائد في الساحة والتي جاءتني من الأخ (أحمد الخطيب) من فلسطين، الذي يقف في الزاوية المقابلة للتفكيرين السابقين، فهو يرى أن " العدو في الإسلام هو الكفر، والأعداء هم الكفار، فالكفر هو الأمارة الدالة على وجود الأعداء، أي هو السبب الشرعي. فنحن نعادي الناس بسبب كفرهم، والأصل في المعاداة بيننا وبين كل البشر هو وجود الكفر، فإذا وجد الكفر وجد العداء، وإذا عدم الكفر عدم العداء، لذلك كان الأصل في المعاداة هو وجود الكفر حقيقة وكان الكفر سبب في العداء" ليخلص بعدها فيقيس على هذا موالاة الكفار الأعداء:
"إذ لا يجوز لمسلم أن ينصر الكافر أو يعاونه أو يشاوره أو يحبه أو ينصحه أو يصادقه أو يركن إليه أو يخضع له أو يستسلم لسلطانه برضاه، فإن فعل ذلك كان موالياً له وينطبق عليه حكم الموالاة إلا في حالة التقية لقوله تعالى"
وبعد هذه المقدمة والشرح يصل إلى وصفة الخلاص أن العلاج الشافي:
" لمشاكل الأمة ومصائبها هو سهل وبسيط، ويتمثل في منع موالاة الحكام للكفار. ومنع هذه المولاة لا يتحقق فعلياً إلا بإبعاد هؤلاء الحكام عن السلطة، والإطاحة بهم، وتنصيب خليفة واحد للمسلمين مكانهم يوالي الله ورسوله وجماعة المسلمين"
وهذه الأحجار الثلاثة التي بناها الرجل غير مستقرة إذا سحب منها الحجر الأول سقط البناء برمته وتهاوى فكان لسقوطه دوي عظيم.
فالقرآن لا يربط بين (الكفر) و(العداوة)، بل بين العداوة والظلم، وفي السورة التي يذكر فيها إبراهيم عليه السلام التي يخاطب فيها الكافرين: كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبدا حتى تؤمنوا بالله وحده" ينتقل بعدها مباشرة ليقول: "عسى الله أن يجعل بينكم وبين الذين عاديتم منهم مودة"؛ فيكسر بكلمة واحدة كل مقولة الأخ الخطيب من فلسطين فحجته داحضة.
وليس هناك من علاقة بين العداء والكفر، أي يمكن أن يكون بيننا وبين الكافرين مودة، لينتقل بعدها من سورة الممتحنة وهي سورة تناولت موضوع الولاء ليقرر أن سبب العداوة غير شخصي، ولا علاقة له بكفر وإيمان، كما يقرر الخطيب بل ممارسة الإكراه. فينص على أن الكافرين إذا لم "يقاتلوكم في الدين ويخرجوكم من دياركم" أن تبروهم وتقسطوا إليهم، وأظنها مفاجئة غير سارة لمفاهيم الخطيب التي وقع في قبضتها بدون فكاك. وهذه هي المشكلة أننا نقرأ القرآن بعيون الموتى من ثقافة ميتة، وبيننا وبين الفهم سدودا من أقوال المفسرين.
بل ويقول القرآن في مكان آخر من سورة آل عمران:"ها أنتم هؤلاء تحبونهم ولا يحبونكم" فيقرر أن المسلمين يحبون الكافرين، في الوقت الذي يطلب المسيح من أتباعه أن يحبوا أعداءهم ويباركوا لاعنيهم، فسبق صحابة رسول الله ص حواريي المسيح بدرجة، وهو يذكر بالفرق بين دعاء موسى أن يشرح الله صدره، في الوقت الذي انشرح صدر النبي فقال ألم نشرح لك صدرك.
وهناك اختلاط آخر يقع فيه من يتأمل السيرة فكيف نفهم الغزوات تماما مثل مشكلة الآيات التي تحض على القتل والقتال، وهذا يذكرني بالقصة التي روتها لي ابنتي عن (نورمان فينكلشتاين) وأمه التي خسرت زوجها وكل عائلتها في معسكرات الاعتقال في (آوسشفيتس Auschwitz) أنها لما طلبت شاهدة على المجرمين النازيين طلبت من ابنها أن يفعل بهم كل شيء، لأنهم رأوا الموت على مدار الساعة في معسكرات الاعتقال.
قالت له ابنتي الموجودة في كندا: سوف ينشرح صدر والدتك وربما أسلمت أنت حينما تقرأ الآية التي تقول "قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ويخزهم وينصركم عليهم ويشف صدور قوم مؤمنين ويذهب غيظ قلوبهم" وأنا أعرف هذا الشعور من الجلادين في الأفرع الأمنية الذين كسروا أسناني بضرب البوكس وحجزي في إفرادية لا أتمناها لحافظ الأسد الذي وضع الشعب السوري في براد لمدة أربعين سنة؟؟ أو حفلات التعذيب في (كركون) الشيخ حسن في حي الميدان في دمشق حيث كان الجلاد (يوسف طحطوح) الديري يستطيب القدوم مع ساعات السحر للتمتع بتعذيب المعتقلين؟ رأيته بعيني وحقق معي شخصيا، وطحطوح عينة بسيطة موجودة في كل مكان، وقصص حمزة البسيوني من مصر نموذجا آخر.
وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون.
حصل معي هذا ليس لذنب اقترفته بل من أجل أفكاري ونشاطي الفكري، واليوم أذكرها وقد تحررت من الكراهية، فلا أحمل في صدري ضغينة أو كراهية لأحد، وفي النهاية فكلنا ميت، كما ماتت زوجتي ليلى سعيد داعية اللاعنف وهي في قمة الجمال والحكمة والنشاط فودعت الحياة في ساعة.
والجنة ليست دار كراهية ومكرهين وإكراه "ونزعنا ما في صدورهم من غل إخوانا على سرر متقابلين".
أقول كما فرقنا بين الدفاع الشخصي ضد شقي لص وبين عدم الدفاع عن النفس أمام النظام السياسي أثناء النضال المدني، كذلك الحال وجب التفريق بين القتال في مرحلة اللادولة ومرحلة الدولة، بسبب بسيط أن وظيفة العنف هي وظيفة الدولة، ولو تابع المسيح ما فعل محمد ص فبنى دولة لفعل نفس الشيء من رفع الظلم عن المظلومين والمضطهدين كما جاء في فلم دموع الشمس (Tears of the Sun)، وهذا الأمر يختلط على الناس فيظنون أن المسيح سلامي ومحمد حربي، والصحيح أن محمد أكمل عمله، فاعتبره مايكل هاردت الشخصية الأولى من مائة شخصية غيرت وجه التاريخ، والمسيح لم يكمل مهمته فخطفته الأحداث، مما أوقع المسيحيين في حيرة؛ فذهبوا مذاهب في تأويل الاختفاء كما فعل الشيعة مع الإمام الاثني عشر الذي اختفى في السرداب، وأنه سيعود في آخر الزمن فيملأ الأرض عدلا بعد أن امتلأت جورا، وهو مذهب استخدمه كثير من السياسيين الدهاة لإقناع العامة بخروج المهدي ليقضي على الدجال، بمن فيهم من اقتحم الكعبة في مطلع القرن الخامس عشر الهجري في أول أيامه.
أما المسيحيون فقالوا بتأليه المسيح، وهو بشر ممن خلق لم يكمل عمله، وبشّر وتحدث أن هناك من سيكمل عمله كما قال يوحنا المعمدان عن المسيح وبشر به، وقال عنه أنه غير أهل أن يحمل حذاءه ويغسل رجله؟
وبذلك يعلمنا الأنبياء دروسا في التواضع، كما فعل المسيح حينما غسل أقدام تلاميذه ليلة العشاء الرباني، وقال أحبوا بعضكم ولتكونوا مدرسة أمام الناس في الحب.
الدولة بيدها العنف وتحتكر العنف، والأنبياء لهم طريقتهم في بناء دولتهم الخاصة، فلا يغيرون الطغيان بطغيان، بل الطاغوت بالرشد، ولكن بني أمية المجرمين رجعوا فقلبوا الآية، وحولوا دولة الرشد إلى دولة طاغوت، إن مات هرقل جاء هرقل، فجعلوها هرقلية تلبس عباءة النبي، مثل مسجد الضرار، وهكذا توقفت مسيرة الإسلام قبل أن يبدأ رحلته، وبدأت الفتوحات الاستعمارية زورا باسم الإسلام، والإسلام لا ينتشر بالسيف بسبب بسيط، هو أن العقل لا يؤمن بالإكراه، ولا يعتبر الإيمان إيمانا ولا الكفر كفرا بالإكراه.
ومع كل هذا الإعلان من الأنبياء أن العنف لا يحل مشكلة انطلاقاً من الخلفية الأخلاقية لفكرة اللاعنف؛ فلم تتوضح أهمية هذه الأفكار والبرهنة عليها إلا صباح يوم 16 يوليو بانفجار تجربة أول سلاح نووي. حين ألغت القوة القوة بعد أن وضع البشر يديهم على سقف القوة.
العنف يعني تعطيل العقل. والعنف يعني لا ديموقراطية. والعنف يعني الإكراه. والعنف لا يحل المشاكل بل يعقدها. والعنف قد يجبر الإنسان ولكنه يأخذ الطاعة مع الكراهية، وبذلك تغلق حلقة العنف على نفسها، بين الكراهية والإكراه والسلاح، واغتيال الحرية بالطغيان السياسي والعقل بالجبت الديني.
والمجتمعات نوعان: من دار حول الفكرة ومن عبد القوة، والمجتمعات العربية تعبد القوة فتخر لها الجباه ساجدينا.
والغرب حل مشكلة الطغيان السياسي فأصبح فيه نقل السلطة سلميا، أما عندنا فمنذ جيل الصحابة الذين ضاع الرشد على أيديهم لم نعرف الرشد حتى اليوم؟