الجهاد والعنف السياسي
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
اللاعنف في الإسلام ـ الجزء العاشر
في رمضان 1424 هـ وباسم الإسلام تم تفجير حي في مدينة الرياض وقتل وجرح العشرات فانتقل وباء المرض الجزائري إلى مكان آخر. ولكن ما يحدث يجب فهمه من خلال تفكيك مفهوم الجهاد. وهو أمر حساس ومن يتناوله إما في جيب السلطة أو من يتربص بها ريب المنون؟ ومن الضروري في البدء تحرير المفاهيم. والعنف الفردي في الدفاع عن النفس كما لو هاجم شقي رجلا فدافع أحدنا عن نفسه لا يدخل في حديثنا. وورد في (الحديث) بما معناه أن من دافع عن نفسه يعتبر شهيدا. ومن قتل دون ماله فهو شهيد. ومن قتل دون عرضه شهيد. وهذا شيء لا يدخل في العمل السياسي. والدولة حينما تأتي لتعتقل شخصاً فيجب أن لا يدافع عن نفسه. والفرق هنا كبير وجوهري في الدفاع عن النفس ضد لص والدفاع عن النفس بالرشاشات ضد رجال الدولة. فهذا الذي يجب أن يبحث.
وفي هذا المجال توجد (حادثة) و(تعليمات) من السيرة تروي حكاية الفرق بين الدفاع الفردي والسياسي: فأما الحادثة فيذكر عن صحابي أنه تعرض للإهانة من رجل قرشي فما كان منه إلا أن ضربه (بلحي) بعير فشجه فكان أول دم أهريق في الإسلام. فيرى الشباب ـ كما كتب أحدهم ـ أنها فتوى في ضرب رجل الدولة إذا جاء لإلقاء القبض على أحد المطلوبين أمنياً.
والفرق بين الأمرين كالفرق بين الأرض والسماء. و(تعليمات) الرسول ص كانت واضحة وكان يردد على مسامع أصحابه ""أننا لم نؤمر بقتال" امتثالاً لقوله تعالى ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم وأقيموا الصلاة" وكان ص يمر على الصحابة وهم يعذبون فلا يزيد عن القول صبرا آل ياسر إن موعدكم الجنة. ولم يأمرهم بحمل السلاح وذبح الناس من أجل الإسلام بل أمرهم بالصبر على الدعوة وتحمل المحنة ثم الهجرة. ومن الغريب أن هذه الأفكار من الصبر على الأذى ألغيت من ثقافتنا فيقول أئمة العنف إنهم لا يسمحوا لنا بنشر الإسلام. والخلط هنا أن أفكارهم أصبحت تساوي الإسلام وهي لا تزيد عن خيالاتهم عن الإسلام. وقد تبتعد وتقترب بمقدار حدة الفهم. مثل موضوع اللباس واللحية والمشكلة ليس بما غطى الجمجمة من قماش أو انساب من الذقن من شعر بل بما دخل الرأس من أفكار وما خرج من اللسان من الكلم الطيب.
ولكن بين المسلمين وهذا الفهم سنة ضوئية.
واستراتيجية (الصبر على الأذى) هي من أجل تكوين جيل جديد من البشر يحلون مشاكلهم فيما بين بعضهم بعضا بروح ديموقراطية وليس بالعنف والسيف. فمن اعتاد سفك الدماء لم يتحرر منه. وأسنة الرماح قد تحل المشاكل ولكنها ليست مكاناً مريحاً للجلوس. كما ينقل روبرت غرين في كتابه القوة.
"ولقد كذبت رسل من قبلك فصبروا على ما كذبوا وأوذوا حتى أتاهم نصرنا ولا مبدل لكلمات الله ولقد جاءك من نبأ المرسلين"
فهذا الاختلاط يشوش الرؤية على الشباب فيظنوا أنه يجب قتال الدولة الظالمة أو ما يخيل إليهم أنها ظالمة. ومتى أعجبت الحكومة الناس؟ أي حكومة؟
والأمر الأشد خلطا وغبشا في الموضوع هو الغزوات والسرايا التي شنها الرسول ص وتقدر بـ 23 غزوة حضرها بنفسه. وما يزيد عن ثمانين سرية لم يحضرها ص بنفسه. فيظن الشباب أن الجهاد هو ضد الدولة لأن الرسول ص استخدم القوة المسلحة. وهذا يشكل نصف الحقيقة فمتى استعمل القوة وضد من؟ وهنا السؤال الحرج .
ومن يقوم بدراسة (تشريحية) للسيرة يرى بشكل واضح أن هناك مرحلتين منفصلتين غير مختلطتين: (الدعوة) ولم يستخدم فيها السلاح. وقيام (الدولة) ومعها استخدم قوة السلاح.
وفلسفة الإسلام في العهد المكي أنه لم يستخدم القوة لأنه كان ينشر الفكر في محيط سياسي تسيطر فيه قوى قبلية. ولم تكن هناك حكومة مركزية مثل روما تتولى مصائر العباد. كذلك كانت المدن مثل يثرب تتمتع بنوع من الاستقلال السياسي ما يذكر بمدن اليونان القديمة. والرسول ص وحَّد الجزيرة العربية لأول مرة ضمن منظومة سياسية واحدة. وهو يفسر الآيات الواردة في سورة التوبة عن عدم قبول الشرك السياسي في الجزيرة بعد عامهم هذا.
والإسلام لم يستخدم وسيلة السيف والانقلاب العسكري للسيطرة على المجتمع لقناعته أن التغيير هو نفسي قبل كل شيء. وإن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم. ولذا صبر المؤمنون حتى حصل التحول الاجتماعي وحين نضجت الأمور وانتشر الإسلام في المدينة هاجر الرسول ص إليها. فهذه نقطة حدية يجب استيعابها في بناء الدول والأنظمة السياسية.
وبسبب البيئة المستعصية في مكة فإنه حاول أي الرسول ص جاهدا أن ينشر دعوته في أي مكان آخر وهذا هو السبب في دفع بعض أتباعه للهجرة أو عرض نفسه على القبائل وهو يشبه التجمعات الحزبية هذه الأيام. فعندما تنتشر فكرة بين مجموعات حزبية في مجتمع ما وتتبنى الفكرة (كتلة حرجة) من الناس ينقلب المجتمع وهو ما فعله الرسول ص. واختلاط هذه الأفكار هو الذي يغذي الفكر العنفي حاليا فيرون الأشياء مقلوبة وليس من بدايتها فيرون صراع الأنظمة مثل معركة بدر وأحد. وقتال الأمريكيين مثل غزوة مؤتة وحملة تبوك. فيضيع هدف الجهاد والمرحلية في تطوره.وما يحدث من عنف في المجتمع من التفجيرات وسواها يرجع إلى طبيعة الفكر السائد. وكليات الشريعة والمدارس الشرعية تدرس الفكر الفقهي القديم بدون وعي سياسي. و تتعاون (الجامعة) و(الجامع) على إفراز الفكر العنفي في كل مكان ووقت. فماذا يفعل أحدنا أمام الحديث أنه من مات ولم يغزو ولم يحدث نفسه بالغزو مات على شعبة من النفاق؟
وهذه الكلمات القليلة كتبتها بالتفصيل في منابر شتى من الإعلام الذي تمكنت من الوصول إليه منذ أكثر من عشرين سنة ودعيت لتركيب لقاحات ضد وباء العنف مثل تهيئة اللقاحات ضد شلل الأطفال وجنون البقر وسعار الكلاب. وقلت سابقا أن الدول العربية كل الدول العربية غير محصنة ضد هذه الأوبئة. ولكن لم ينتبه أحد لما قلت. لأن الشعوب تتعلم بالعذاب وليس بالقراءة فيزاد العذاب جرعة جرعة حتى يرجعوا عن الطريق الغلط.
وأوربا جربت الحروب من كل نوع زوجين من الدينية والقومية والعالمية حتى تابت عن استخدام السلاح والقوة لحل المشاكل. والآن تتحد أوربا بدون حروب تحرير شعبية وجهاد. وسيكون عدد الدول عام 2004م 25 دولة تضم 450 مليونا من الأنام. وهي آية أمام أعيننا نمر عليها ونحن عنها معرضون. والمهم حاليا هو فك إشكالية النصوص وعلاقتها بالقتال المسلح. وما لم يحدث وعي حاد يفرق الجهاد عن الجريمة فسوف تبقى الانفجارات في طريقها للحدوث وجثث الضحايا تنقل إلى المشافي والقبور.
إن الإصلاح النبوي لم يعتمد القوة المسلحة لتغيير المجتمع داخليا فهذا واضح. والغزوات والسرايا كانت بعد قيام نظام سياسي واضح مميز لرفع الظلم عن العباد. والرسول ص كان مستعدا للدخول في أي حلف مثل (حلف الفضول) للدفاع عن المظلومين أيا كان دينهم ومذهبهم، والجهاد بشقه المسلح ضد الطاغوت هو من أجل تحرير الإنسان من الفتنة. والفتنة أشد من القتل. وهي إخراج الناس من ديارهم وعقائدهم بالقوة المسلحة.
ومنه نفهم أن الجهاد بمعنى القتال المسلح لم يشرع لنشر الدعوة. وليس هناك جهاد دفع وطلب كما يزعم فقهاء المماليك البرجية؛ بل له آلية واضحة تظهر مع رؤية بنيوية للقرآن، بالمرور على آياته في كل موضع، مثل قصة نبي بني إسرائيل حينما سألوه أن يرسل لهم نبيا يقاتلون معه في سبيل الله فقال لهم "هل عسيتم إن كتب عليكم القتال ألا تقاتلوا؟" قالوا وما لنا ألا نقاتل في سبيل الله وقد أخرجنا من ديارنا وأبنائنا؟" وهنا نضع أيدينا مع أي قوة عادلة في الأرض لتحرير أي إنسان على وجه الأرض من الظلم الواقع عليه. فهذا هو الجهاد الذي دعا له الإسلام. وهو مفهوم إنساني راقي يمكن أن ننطق به في أي منبر عالمي. ويتقبل من الآخرين. ونجد من يضع يده معنا في هذه المشروع العالمي. وهو يشبه الدفاع المدني، والإطفائيات لإطفاء الحرائق في الأرض وليس لإشعال الحروب وكلما أوقدوا ناراً للحرب أطفأها الله ويسعون في الأرض فسادا والله لا يحب المفسدين.
وهو المشروع الذي كتب عنه فيلسوف التنوير (ايمانويل كانط) كتابه المشهور (نحو السلام الدائم Zum ewigen Frieden) وكان نواة الأمم المتحدة الحالية التي تم اغتيالها بمجلس الأمن الإجرامي الذي يعيق ولادة العدل في العالم، ولن تستقيم أمور العالم إلا بالفكرة النبوية للجهاد أي ولادة برلمان عالمي يملك قوة التنفيذ لقراراته ضد الذين يفتنون الناس في العالم..
حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله....
هذه الأفكار تغيظ الملحدين، وتدخل الاضطراب على عقول المتدينين، وينشرح لها صدر السلاميين في العالم أيا كان دينهم..
أنا صوت صارخ في البرية .. مهدوا طرق الرب .. افعلوا أعمالا تليق بالتوبة.. من كان له أذنان للسمع فليسمع ..