سعيد أبو المعاطى المواطن الديموقراطى (4)
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
الحلقة الرابعة: "الطفشان هو الحل"
.........
خرج سعيد من قسم البوليس وهو لا يصدق أنه أصبح حرا طليقا، وبمجرد نزوله من السلالم المعدودة الموصلة من المبنى إلى نهر الطريق نظر خلفه وقرأ لافتة فخمة مكتوب عليها: "الشرطة فى خدمة الشعب"!!، وبمجرد قراءته لتلك اللافتة وبدون أن يشعر وجد نفسه يجرى بعيدا عن اللافتة بسرعة لا يحلم بها عداء فى الإوليمبياد !! وكان يخشى أن
اقرأ الحلقة
يغير سعادة الباشا المأمور رأيه ويعاود القبض عليه. وبعد أن إبتعد بمسافة أمان كافية عن قسم البوليس، وجد نفسه يجلس متهالكا على الرصيف، ونظر إلى ساعته لكى يعرف الوقت، فيكتشف أنها قد "لطشت" منه فى قسم البوليس! ولم يحزن على الساعة وقال لنفسه: "فداك ياسعيد ميت ساعة"، فسأل على الوقت وعرف أن الساعة قد قاربت منتصف الليل وأن آخر أوتوبيس يوصل إلى قريته قد أقلع، وأخذ يسأل "أولاد الحلال" عن أى مواصلة إلى قريته، فدلوه على تاكسى بالنفر يبعد مسافة ثلث ساعة مشيا على الأقدام، فأخذ طريقه ويهتدى بمصابيح الطريق الهزيلة والتى يبدو أنها مصابة "بأنيميا الكهرباء"، وفكر كثيرا فى هذا اليوم والذى ضاعت فيه كرامته، وأخذ يقول لنفسه: "بقى أنا يتعمل فىّ كده، ده أنا راجل غلبان، وأنا إللى الصحفيين بيقولوا عليه "رجل الشارع"، مش كفاية الشارع متبهدل، حيبقى الشارع ورجل الشارع كمان متبهدلين، وطيب ولزومه إيه الضرب على القفا، أنا ضرورى لما أرجع المكتبة أدور على أصل موضوع الضرب على القفا، وليه بعتبر من أشد الإهانات"، وحمد الله على شيئين أنهم لم ينفذوا تهديدهم بإحضار أمه وإخته سناء، والثانى أنهم لم يضربوه بالشلوت، وخاصة فى منطقة ما بين الفخذين. وبعد تفكير عميق قرر قرار لا رجعة فيه: " أنه ما لوش قعاد فى البلد دى" وأن "الطفشان هو الحل"، لابد أنه" يسيب البلد".
hellip;.
"والطفشان" غير الهجرة، لأنك ممكن أن تطفش إلى المجهول، هربا من الواقع والحاضر والمستقبل والماضى معا، أما الهجرة فهو إجراء عقلانى ويتم التخطيط له بحساب، مثلما تهاجر طيور الشمال إلى الجنوب طلبا للدفء والطعام الذى يندر فى برد الشمال، وتخطط الطيور وتسافر جماعات وتقودها البوصلة الغريزية إلى أماكن الدفء، أما الطفشان فهو أنك تريد أن تهرب والسلام، مثلما أطلق سعيد العنان لساقيه بعد خروجه من قسم البوليس.
....
ووصل سعيد إلى قريته قرب صلاة الفجر، ووجد أمه وإخته الصغيرة سلوى فى إنتظاره، وسلم عليهم وبكى وهو يحمل سلوى عاليا ووضعها فوق كتفه، وأعطى لأمه أى سبب هايف عن سبب تأخره، ولم يبال كثيرا إن كانت قد إقتنعت بحجته الواهية أم لا.
وإستيقظ فى الصباح وهو مصمم على "الطفشان"، وأيقظ أمه وقال لها أن لديه مأمورية فى الإسكندرية، ومن مدينة رشيد إتصل بمكتبه وطلب أجازة مرضية لمدة يومين، وسافر بالقطار من رشيد إلى الإسكندرية، وبمجرد وصوله إلى الإسكندرية سأل عن مقر القنصلية الأمريكية بالأسندرية فعرف أنها فى حى الأزاريطة فى شارع الفراعنة وبالقرب من المتحف الرومانى، وتعجب وإبتسم على إسم الأزاريطة، وقال لنفسه (هوإحنا ناقصين أزاريط!!)، وكان مسلحا بجواز السفر يحمله لوقت اللزوم، ووصل هناك ووجد طابور واصل من أول حى الأزاريطة وحتى حى محرم بك!! فسأل وقال "إيه الطوابير دى كلها"، فقيل له إن كل هؤلاء يقفون طوابير على باب القنصليةالأمريكية، وتعجب وبدون أن يفكر وقف فى الطابور، وسأل أحد رفقاء الطابور: "هم الأمريكان بيوزعوا فراخ النهاردة بدل الجمعية ولا إيه "، فضحك رفقاء الطابور، وأخذ يتأمل فى الواقفين بالطابور، فوجد معظم الأعمار وإن كان معظمهم من الشباب ويبدو من مظهرهم أنهم شباب متعلم، كان يظن نفسه فى قريته " شاب مافيش كده"، ولكنه الآن بالمقارنة إلى رفقاء الطابور شعر بالتواضع الشديد، ولم يخل الطابور من البنات والسيدات، وتسائل عن سبب أن السيدات والرجال يقفون فى طابور واحد على غير العادة، فأجابه أحد محترفى الفتاوى قائلا: "أصل أمريكا دى بلد المساواة مافيش فرق ما بين راجل وست"، ورد آخر: "لكن إحنا هنا فى الإسكنرية أجدع ناس، ومش معقول الأمريكان يفرضوا علينا عاداتهم "، فرد آخر: "والله مش عاجبك إطلع من الطابور".
...
وساله جاره فى الطابور: "إنما إنت عاوز تسافر أمريكا ليه " فرد سعيد: "أنا لى واحد بلدياتى من رشيد مسافر فى ولاية إسمها صعب قوى فى أمريكا، اللهم صلى على سيدنا محمد: أيوه إسمها: ماسا شوشة، دى عيلة شوشة دى باين عليها فى كل حتة، كنت أعرف واحد إسمه "زكى شوشة" من دمنهور، ده أكيد أصله من ولاية: ماسا شوشة دى، المهم بلدياتى ده بيشتغل هناك فى كار المعمار وبيركب بلاط سيراميك، وبيقول لى إنه بيكسب فى يوم واحد فى أمريكا أد كل إللى بيكسبه فى مصر فى الشهر" فسمع كل رفقاء الطابور بإهتمام، وقال آخر: " خللى بالك لو قلت لهم إنك مسافر أمريكا علشان تشتغل مع بلدياتك فى ولاية ماسا شوشة عمرك ما حتاخد تأشيرة" "إمال أقول لهم إيه ؟"، قول لهم إنك مسافر سياحة"، "سياحة إيه بلا نيلة هو ده منظر واحد وش سياحة، إحنا لاقيين ناكل"، "أنا قلت لك وإنت حر" ، "إنت يا إبنى ما تعرفنيش أنا سعيد أبو المعاطى المواطن الديموقراطى، وأمريكا أم الديموقراطية، أول ما يعرفوا إنى أبو المعاطى الديموقراطى حيعطونى تأشيرة على طول".
.....
وبعد طول إنتظار وجد موظف إستقبال، فحص جواز سفره ثم أعطاه إستمارة تأشيرة، وحمد الله على أن الإستمارة مكتوبة العربى والإنجليزى، وقام بملء الإستمارة، وفى خانة العنوان فى أمريكا كتب ولاية ماسا شوشة طرف بلدياتى "سماعين أبو جاموس"، ووضع الإستمارة وصورتين داخل جواز السفر، ووضع أيضا (جوز جنيهات) وسلم الكل للموظف، وفوجئ الموظف بالفلوس داخل الجواز، وسأله: "إيه ده ؟"، "دى حاجة كده مش قد المقام هات بيها إتنين كيلو موز علشان العيال، أنا والله مكسوف منكم إنى أدخل عليكم القنصلية الأمريكية كده بإيدى فاضية ". فرد له الموظف الفلوس وقال له بحزم: "خد فلوسك وماتعملش كده تانى وإلا أطلب لك البوليس". سمع سعيد كلمة البوليس فكاد يدخل الحمام على" روحه" !! وقال له الموظف: " إقعد هناك لغاية ماتسمع إسمك ".
وطال إنتظاره ووجد الجميع فى حالة إنتظار وفى غاية الأدب، وتكاد تسمع دبة النملة، ومين حين لآخر ينادى الموظف على إسم من عليه الدور lsquo; فينظر له الآخرون بغيرة ويقولون: "عقبالنا يارب". وفجأة سمع إسمه: "سعيد أبو المعاطى"، فإنتفض "على حيله" أيوه ياأفندم ووجد نفسه بدون أن يدرى يضرب تعظيم سلام للموظف.
...
ودخل غرفة صغيرة بها شباك زجاجى ومركب عليها ميكروفون، جاء موظف يبدو عليه أنه خواجة أمريكى ومعه موظف مصرى. وقال له الموظف المصرى: " أنا مترجم تابع للقنصلية، وسعادة القنصل حيسألك بعض أسئلة وضرورى تجاوب بأمانة"، فقال سعيد: " أمرك يابيه أنا راجل دوغرى ما فيش أجدع من الأمانة والصراحة والصدق".
وسأله القنصل عن طريق المترجم:
- إسمك إيه: محسوبك سعيد أبو المعاطى المواطن الديموقراطى
- لكن إسمك فى جواز السفر سعيد محمد سعيد أبو المعاطى، ليه كتبت فى الإستمارة " سعيد أبو المعاطى المواطن الديموقراطى"
- ده يابيه إسم الشهرة فضلة خيرك، وبعدين أنا عارف إن أمريكا أم الديموقراطية فى العالم كله، وعاوزة تنشر الديموقراطية فى كل مكان، وأنا قررت أبتدى بنفسى وأصبحت المواطن الديموقراطى.
- لكن كتابة اسم غير أسمك ده يعتبر تزوير، وممكن تدخل عليه السجن فى أمريكا، من فضلك صلح الأسم زى جواز السفر بالضبط (واعطاه جواز السفر والإستمارة).
وفوجئ سعيد بأن قنصل أمريكا شخصيا يقول له( من فضلك): "ييجى سعادة الباشا المأمور يتفرج" وعدل سعيد إسمه ليطابق جواز السفر.
وسأله القنصل: أيوه يامستر أبو المعاطى عاوز تسافر أمريكا ليه؟
(ورقص سعيد فى داخله من الفرح عندما سمع القنصل يخاطبه بقوله مستر أبو المعاطى، وقال لنفسه: فينك يأم سعيد علشان تشوفى الهنا إللى إبنك فيه)!!
- أيوه يامستر سعيد سمعت السؤال.
- أيوه ياسعادة الباشا القنصل، أنا بصراحة طفشان من البلد ومش قادر اشعر إنى مواطن ديموقراطى بصحيح، وباسمع إن المواطن فى أمريكا حاجة كبيرة قوى، وبعدين عقبال امالتك الواد سماعين بلدياتى بيشتغل مبلط سيراميك هناك وبيكسب كثير ربنا يعطيك.
- وسماعين ده عايش فين؟
- هو عايش فى ولايه ماسا شوشة.
(يقاوم القنصل الإبتسامة) ويكمل سعيد:
- تعرفها سعادتك ولا ية ماسا شوشة دى؟
- أيوه أعرفها، ده حتى أبويا مولود هناك
- ياصلاة النبى ده إنت سيادتك حتطلع بلديات سماعين أبو جاموس، وإنشا الله لما آخد التأشيرة وأسافر ماسا شوشة، لو عاوز تبعث أى حاجة للسيد الوالد أنا فى الخدمة: دكر بط أو جوزين حمام محشى بالفريك أو صفيحة فسيخ من رشيد.
(ويكتم المترجم الضحك ويبدو عاجزا عن الترجمة، ثم يتماسك ويقوم بالترجمة للقنصل).
- متشكر يامستر أبو المعاطى، لكن الإستمارة إللى مليتها دى إستمارة لتأشيرة سياحة وإنت وقعت فى أسفل الإستمارة إنك قرأت كل شئ بعناية ، وكونك تملأ إستمارة سياحة وأنت ناوى تسافر للعمل مع بلدياتك فى ولاية ما سا شوشة (يقولها بإبتسامة)، ده يعتبر تزوير آخر يامستر أبو المعاطى.
- سياحة إيه ياسعادة الباشا القنصل، أنا راجل غلبان لا أنا بتاع سياحة، ده أنا يمكن أبيع الجاموسة علشان تمن التذكرة وياريت تكفى ياباشا.
- مستر أبو المعاطى أنا آسف مش حأقدر أعطيك التأشيرة، وأنت باين عليك طيب وأمين وعندك روح الدعابة، وعلشان كده أنا مش حأختم جوازك بالرفض، علشان أعطيك فرصة تانية يمكن فى المستقبل تقدر تسافر للسياحة.
- يعنى مافيش أمل ياباشا ؟
- للأسف ما فيش، وأعطاه القنصل جواز سفره، وشعر القنصل بالأسى لحالة سعيد، ولكنه فعل أقصى ما يستطيع.
وأخذ سعيد جواز السفر، وخرج من القنصلية، وهو لا يلوى شيئا، ومن على بعد لمح شخصا يقف فى طابور التأشيرات ويحمل يافطة مكتوب عليها " تسقط أمريكا".
.....
samybehiri@aol.com