التاريخ والسعي من أجل المعنى
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
من ثنائية الظاهر،يتم تحديد علاقة القوة بالواقع، وصولاً إلى المعنى التاريخي الذي يؤكد على أن القوى تتوالى متصارعة من أجل تحقيق المعنى. فالمعنى يتغير وفق القوة التي تسيطر عليه. ومن خلال تعدد الدلالات وتنوع علاقاتها يمكن الوقوف على تنوع في المعاني حيث يتركز مفهوم التاريخ. فالظاهرة تحمل في داخلها قوى فاعلة بقصد السيطرة، التاريخ والعالم
من تحت أنقاض الهزيمة الألمانية في الحرب العالمية الأولى، يبرز "أوزفالد شبنغلر " ت 1936 في وضع تاريخ عالمي يزخر بالتشاؤم وتفوح منه رائحة الموت،انطلاقاً من قانون الوجود، حيث الموت لابدّ له أن يحط على جميع أشكال الحياة وصورها وتمثلاتها وأفكارها. وهكذا تخضع الثقافة أيضاً لهذا القانون، حيث يكون مصيرها المحتوم هو الموت أيضاً (45). ومن هذه الرؤية بنى تصوره لفلسفة التاريخ، انطلاقا من الرؤية المورفولوجية المستندة إلى علم الأحياء التي تأخذ بدارسة بنية الكائن الحي وشكله، معتبراً أن كل ثقافة لها الخصائص المميزة المقترنة بالكائنات الحية، ويمر عليها ما يمر على الكائنات من ((ولادة،نمو، نضج، موت)) وأن الأساس الثابت في الثقافة يتجلى في روح الحضارة. وكان قد تأثر بنظرية الفيلسوف الألماني (وليم ديلتي) ت 1911 الذي وجه انتقاده إلى الميتافيزيقيا، مشير اً إلي أن العلم يجب أن يقام على أساس، التاريخ. مؤكداً على شمولية.مفهوم الحضارة، حتى أنه لم يتوان عن جعل الفلسفة جزءاً من الحضارة، وبنية من البنى المكونة لها حيث أناط بالمؤرخ وفقاً لهذا التصور مهمة تحديد وتعيين العلاقات والظواهر الثقافية داخل المجتمع. ودعوته قد تركزت في أهمية التفكير الباطني المخالف قطعاً للطبيعة. ساعياً في ذلك نحو الرؤية الوجودية لرفض الميتافيزيقيا التي تربط الواقع بالمطلق. على اعتبار أن الفكر يرتبط بالوشيجة العضوية بالحضارة.
واعتماداً على مبادئ فلسفة الحياة تم النظر إلى التجربة التاريخية عبر معيارين ؛ الحي، الآلي. من أجل إدراك الوجود، حيث الفصل بين التاريخ والطبيعة. فالتاريخ ليس مجرد حقائق متراكمة، بقدر ما هو وقائع ذات حركة مستمرة متماهية مع الزمان وفي صلب واقع الحياة المستمرة. فالتاريخ حياة لا يتم تفسيره إلا عن طريق الحياة، حسب نظرية ((ديلتي)) وواجب المؤرخ يتركز في استعادة الحياة " الوقائع التاريخ " وجعلها في مزيج متوّحد مع الحياة الحاضرة. وباعتبار أن التاريخ حياة، لذا نجد أن ما يصدق على الحياة يصدق على التاريخ. وعليه فأن الأثر التاريخي أو الدليل لا يعد متمماً للنسيج التاريخي بقدر ما يمثل مادة لإعادة الحياة في التاريخ، من أجل ضمان استمرار الحياة. وكما يقول شراح الفلسفة إذا أردت أن تفهم مقولات نيتشه عليك بالمقولات التي طرحها "شوبنهور " ت 1860، فأن الطريق لفهم شبنغلر يتم عن طريق استيعاب مقولات ((ديلتي)).
في إطار معالجتة لفكرة الحياة والروح، أشار "شبنغلر " إلى أن الفلاسفة السابقين لم يميزوا بين الزمان والمكان.منطلقاً من فكرة فعل العد الذي يمثل الحياة، والعدد الذي يكون خارج الزمان والزمان لايمكن تحديد اتجاهه طبيعياً، كما أنه غير قابل للإعادة. وتطلع نحو تحديد صورتين للوجود، على الرغم من تعارض فكرة الصورة مع الحياة التي تقوم على التغير المستمر. وكانت صورة الوجود الأولى قد تمثلت في "الطبيعة " وفي سبيل بلوغ الوعي بها لابد من المنهج التجريبي. في حين تمثلت الصورة الثانية في "التاريخ " الذي يستدعي منهج "الحدس " بناء على تحديد معالم الوقائع والأحداث، واستخلاص الرموز والدلالات من هذه الوقائع.
الحدث ــــــ المعنى ــــــ الروح
الشاهد ــــــ الدلالة ــــــ الحياة
ومن أجل بلوغ معنى الوقائع، لابد من التوقف عند الروح التي حفزتها، أما الشواهد فأنها تكون بمثابة الدليل على الحياة. ومن هذه الوقائع والشواهد يكون الارتكان عند الروح الواحدة التي صنعت التاريخ. وبحثاً عن المعنى صاغ مبدأ "التماثل " لدراسة الحدث التاريخي، انطلاقاً من المدى الذي يفرزه كلّ في حضارته، مع الأخذ بالاعتبار الظروف الواحدة المحيطة بكلا الحدثين. وانطلاقاً من الفروض المنهجية لهذا المبدأ، توصل شبنغلر، إلى أن المركب الداخلي لجميع الحضارات واحد، اعتمادا على المعنى الواحد الذي أفرزته كل حضارة على حدة في المجال السياسي، الاقتصادي،الاجتماعي، الديني، العلمي، الفني. وهذا كله يقدّم للمؤرخ القدرة على التنبؤ بالأدوار التاريخية لكل حضارة. بل ويمكنهّ استحضار العصور التاريخية الماضية انطلاقاً من التفاعل مع المعنى والأدوار التي تمر بها الحضارات المختلفة من ؛ ولادة، نمو، نضج، موت. فالتاريخ لديه ليس مسيرة من التواصل من القديم إلى الحديث، بقدر ما هو تمثيل لدوائر حضارية،لكل منها فرادتها وخصوصيتها.
كان التأكيد على أهمية التعامل مع التاريخ، ببعده الزمني الخالص دون تمييز بين مدة زمنية وأخرى. فيما كان (العزل) من الضرورات التي ركز عليها "شبنغلر " فلكي تصل إلى وعي جديد بالتاريخ، لابد من تجديد النظرة، والتعامل وفق منطق إفراغ التصورات السابقة، من خلال الاعتماد على رؤية قوامها ؛ أن التاريخ على الصعيد الزماني لا يختلف عن أي زمن آخر، مع أهمية اعتباره شيئاً غريبا وبعيداً ، لا يخضع للمشاعر والعواطف والرغبات والميول والأهواء. وأن حكم المؤرخ لابد أن يصدر من خلال التعامل مع جميع الحضارات التي أنتجتها البشرية، وليس وفق التصور الأحادي، المنطلق من رؤية تابعة لحضارة بعينها. من هنا كانت الضرورة المنهجية قد أملت أهمية التمييز بين الطبيعة والتاريخ.
فالطبيعة خاضعة لقانون الإمكان، حيث العلية الطبيعية، التي تؤكد أن الظاهرة تفسر نفسها، سواء برزت للعيان أم لم تبرز. فجميع الحقائق فيها تستند إلى النظام الثابت " وعليه فأن ظواهر الطبيعة لا تحتاج إلى تعريف. فمنطق الثبات هو الذي يقوم بدور التعريف بها. في حين أن التاريخ قوامه "الحدث " وحقائقه يتم بلوغها عن طريق الحدس والاستنباط. وإذا كان المستقبل يكون بمثابة الطريق الذي يسير عليه،فأن الماضي يبقى شديد الصلة به، لتوكيد هويته وذاتيته.ومن علاقة الثبات والتحول، توصل شبنغلر إلى التمييز بين التاريخ كمعنى يقوم على"الصيرورة " و"التاريخ " المستند إلى فعل التورخة وتدوين الحدث، حيث يتم تحويل "الصيرورة إلى" ثبات " من خلال التدوين.