كتَّاب إيلاف

الأغذية فائقة المعالجة: قنبلة موقوتة على المائدة العربية

تحتوي الأغذية فائقة المعالجة على مركّبات مصنّعة تهدف إلى تغيير جوهر المكونات الخام لضمان مذاق مغرٍ وعمر افتراضي طويل
قراؤنا من مستخدمي إنستجرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك

تتجاوز أزمة الأغذية فائقة المعالجة (UPFs) كونها مجرد تحدٍّ عالمي، لتتحول إلى عبء استراتيجي يثقل كاهل المجتمعات العربية أيضاً، لا سيما تلك الأكثر ثراءً. ففي الوقت الذي قد تعتبر فيه مساهمة المنطقة العربية في إنتاج هذه الأغذية ضئيلة، إلا إنها تُعد منطقة استهلاك وطلب رائدة على هذا النوع من الأغذية. هذا الواقع الاقتصادي يُحوّل الأسواق العربية إلى ساحة مثالية لتصريف منتجات تُهدد الأمن الغذائي في جوهره، وتزيد من تفاقم الأمراض المزمنة التي تستنزف موازنات الصحة العامة. إن هذا التهديد لم يعد مجرد مسألة خيارات فردية، بل هو خطر وجودي مباشر يواجه الاستدامة الصحية والمالية لمجتمعاتنا. وفي ظل الارتفاع الجنوني لنفقات الرعاية الصحية، بات لزاماً على الدول العربية، بصفتها أسواقاً رئيسية مستوردة، اتخاذ تدابير وقائية جذرية لا تتهاون في مواجهة الآثار القاتلة لهذه الأطعمة.

إنَّ الخطر المحدق بالعالم العربي يكمن في معادلة اقتصادية مُقلِقة؛ فبينما يعتمد الاقتصاد على استيراد هذه المُركّبات الغذائية لتلبية نمط استهلاكي متغير، فإن المجتمعات تدفع الثمن مضاعفاً: فاتورة استيراد تُنهك الميزان التجاري، وفاتورة صحية باهظة تُسدّد ثمنها الشعوب من أمنها الصحي. هذا الاعتماد الكبير على واردات الأغذية المفرطة المعالجة لا يقتصر تأثيره على الجانب المالي، بل يفتح المجال أمام اختراق الحميات التقليدية، ويُسرّع من وتيرة التحولات السلبية في العادات الغذائية، مما يُسهم بشكل مباشر في صعود معدلات الأمراض غير السارية في المنطقة. ومن هنا، تكتسب قضية الأغذية فائقة المعالجة في السياق العربي أهمية قصوى، وتستدعي تدخلاً سيادياً يُعيد تقييم الأولويات بين المصلحة التجارية قصيرة الأمد وبين السلامة العامة طويلة الأمد.

وتتراكم الأدلة العلمية على نحو لا يقبل الجدل، مُرسخةً قناعة راسخة حول خطورة الأغذية فائقة المعالجة. تؤكد الأبحاث المنشورة في كبريات المجلات الطبية النتائج المنذرة بأنَّ هذه الأطعمة ليست مجرد وجبات سريعة اعتيادية؛ بل هي مركّبات مصنّعة عبر تحولات كيميائية وفيزيائية تهدف إلى تغيير جوهر المكونات الخام، لضمان مذاق مغرٍ وعمر افتراضي طويل. تكمن المشكلة في الإضافات الكيميائية المخالفة للطبيعة، كالمحليات الصناعية، والمستحلبات، ومحسنات النكهة، التي أثبتت الدراسات الرصدية أن أغلبها يحمل تأثيرات ضارة ومضطربة على جسم الإنسان، خاصة في ظل العادات الغذائية غير المنضبطة السائدة عربياً.

إنَّ الاستهلاك المتزايد لهذه الأغذية يُطلق سلسلة من التفاعلات السلبية داخل الجسم، تزيد بشكل كبير من خطر الإصابة بمجموعة واسعة من الأمراض المزمنة والخطيرة، فالعلاقة باتت واضحة بين الإفراط في تناول هذه الأطعمة وبين ارتفاع احتمالات الإصابة بأمراض القلب والأوعية الدموية، والسرطان، والتهابات الجهاز الهضمي والمفاصل، بالإضافة إلى ارتفاع ضغط الدم والسكري والبدانة. والأخطر من ذلك، أن هذه الأطعمة تُحدث اضطراباً حاداً في عملية الأيض (التمثيل الغذائي)، مما يُساهم في زيادة الوزن ويؤثر حتى على الصحة العقلية والنفسية، ليصبح المستهلك العربي عرضة للتسمم البطيء دون أن يدري.

إن تداعيات هذا النمط الغذائي تتجاوز الضرر الصحي الفردي لتمثل نزيفاً مالياً هائلاً يُثقل كاهل ميزانيات الدول العربية. ففي زمن تتصاعد فيه كلفة الرعاية الصحية بشكل غير مسبوق، ويصبح تمويل الخدمات الطبية تحدياً اقتصادياً، تكتسب مسألة الوقاية أولوية قصوى. إن تحميل المستهلك المسؤولية الكاملة عن خياراته، أو الاعتماد على التوعية فقط، لم يعد كافياً بل أثبت فشله أمام طوفان الإعلانات وتوافر المنتجات المستوردة. يجب أن تتحول نقطة التركيز من لوم الفرد إلى معالجة جذور المشكلة في منظومة العرض والواردات.

يتطلب الحل الناجع سياسات تهدف أولاً إلى تعزيز وتسهيل الوصول إلى الأطعمة الصحية الطبيعية، مع دعم المنتج الزراعي المحلي كبديل استراتيجي للواردات المعالجة. وثانياً، فرض ضرائب أكثر صرامة وفعالية على الأطعمة المصنّعة رديئة القيمة الغذائية المستوردة، بما يحقق ردعاً اقتصادياً، ويجب أن يُرافق ذلك تشديد الرقابة على آليات التسويق والإعلان التي تستهدف الشرائح الضعيفة، خاصة الأطفال، الذين يُعتبرون الحلقة الأسهل استهدافاً في هذه المعركة.

تواجه التدابير المقترحة مقاومة شرسة من قِبل الشركات الغذائية العملاقة، التي تستغل مواردها الهائلة لعرقلة أي إصلاح. والغريب أن هذه الصناعة تتبنى التكتيكات ذاتها التي استخدمتها شركات التبغ لعقود، معتمدة على تشويه الخطاب العلمي، وإنتاج الأبحاث المنحازة، والضغط السياسي الذي يتضمن التهديد بخسارة الوظائف، والترويج لفكرة حق المستهلك في المتعة كمقابل للسياسات الصحية المقيدة.

إن الخسارة المجتمعية النهائية تُشير بوضوح إلى أن القيمة التي تُدمّرها الأغذية السريعة من خلال تكاليف الأمراض تفوق بكثير أي قيمة اقتصادية ظاهرية تخلقها هذه الصناعات. وعليه، فإن الوقت قد حان لقطع هذه الخسائر، ويجب على الحكومات العربية أن تتحلى بالإرادة السياسية اللازمة لفرض التغيير، وحماية الصحة العامة كأولوية وطنية قصوى، ووقف تحويل أسواقها إلى مكبات لمنتجات تُهدد مستقبل أجيالها.

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف