كتَّاب إيلاف

عدم دستورية المحكمة الاتحادية العراقية واستخدامها كسلاح في الصراعات السياسية

مبنى المحكمة الاتحادية العليا في العاصمة العراقية بغداد في 19 كانون الثاني (يناير) 2022
قراؤنا من مستخدمي إنستجرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك

تعتبر المحكمة الدستورية أعلى سلطة قضائية في أي دولة، وتعد قرارتها باتة وملزمة وغير قابلة للطعن، إلا أنها في الدول الفيدرالية أو الاتحادية هي الصمام الرئيسي لحفاظ النظام الفيدرالي، ومن جهة أخری تضمن كفاءة هذا النظام واستمراريته ونجاحه. بمعنى آخر، هذا النوع من المحاكم في أي نظام اتحادي، إذا لم تحد عن مسار وإطار عملها، تصبح أساساً متيناً لنجاح النظام. أو على العكس من ذلك، عندما تصبح أداة سياسية، أو تستخدم كذلك، وتتورط في صراعات سياسية، فإنها تصبح أداة خطيرة وتقوض العملية برمتها، ومن المرجح أن تؤدي إلى إسقاط النظام في نهاية المطاف. فالنظام الفيدرالي نفسه يقوم على التوازن الدقيق والحساس بين جميع الأطراف، وقد تم التوصل إليها من خلال المفاوضات والاتفاقات، وهو منصوص عليه في الدستور.

هناك كثير من الأمثلة على المحاكم الدستورية الناجحة في الدول الفيدرالية، ولكن المقصود هنا العكس، وما تسببه هذه المحکمة من المخاطر، ولعل تجربة العراق الحالية هي الأكثر وضوحاً، لأنَّ هذه المحكمة، بالرغم من أنها غير دستورية ولم تنشأ وفق المبادئ الدستورية، إلا أنها تستخدم كأداة سياسية، وانحرفت عن مسارها المحدد، وتعمل كأداة لكسر المتنافسين في الصراعات السياسية.

خلفية عن المحاكم الدستورية والاتحادية في العراق
أنشئت أول محكمة دستورية في العراق بموجب المواد 81 إلى 87 من القانون الاساسي لعام 1925. وكانت المحاکم بمثابة مؤسسة مستقلة في العراق حتى فقدت استقلاليتها عندما تم دمج مجلس القضاء العراقي مع وزارة العدل في عام 1979 وفقدت مكانتها خلال فترة الدكتاتورية.

وبعد عام 2003، شكلت سلطة الائتلاف المؤقتة لجنة رفيعة المستوى لمراجعة شؤون المحاكم والقضاة، وفتحت أبواباً جديدة لتعيين القضاة واجتثاث القضاة المنتمين لنظام البعث. مما أدى إلى عزل نحو 20 بالمئة من القضاة العراقيين وإعادة فتح الباب لتعيين القضاة، وتغيرت تركيبة المحاكم واستعاد مجلس القضاء الأعلى استقلاله وتم فصله عن وزارة العدل. تأسس مجلس القضاء من جديد بموجب امر سلطة الائتلاف المؤقتة رقم 35 لسنة 2003، وتولى رئاسته القاضي مدحت محمود لفترة طويلة.

بعد إنشاء مجلس الحكم وسن قانون إدارة الدولة للمرحلة الانتقالية (Transitional Administrative Law &- TAL)، وتثبيت النظام الفيدرالي. كان ينبغي إنشاء محكمة دستورية كأساس للنظام الاتحادي وفقاً للمادة 44 من هذا القانون. وبأمر من سلطة الائتلاف المؤقتة، أصدرت الحكومة العراقية آنذاك برئاسة إياد علاوي الأمر رقم 30 لسنة 2005، وتم بموجبه إنشاء المحكمة الاتحادية العليا، ومن ثم تشكلت المحكمة برئاسة القاضي مدحت محمود.

وعندما تم تشكيل هذه المحكمة، بدأت المناقشات حول صياغة دستور دائم. وبعد عشرة أشهر من إنشاء المحكمة، تم الاستفتاء على دستور العراق الدائم وتمت الموافقة عليه.

ومرة أخرى، نصت المادة 92 من الدستور علی إنشاء محكمة اتحادية بقانون خاص، واشترطت موافقة ثلثي أصوات البرلمان. بمعنى آخر، إن الدستور الدائم لا يسمح للمحكمة الاتحادية المنشأة بموجب الأمر رقم 30 بمواصلة عملها، لأنه لو كانت هذه نية مؤسسي الدستور العراقي الدائم، لاستمرت في عملها، مثالها كمثل المحكمة الجنائية العليا. فإن تلك المحكمة أنشئت قبل إقرار الدستور الدائم وتنص المادة 134 من الدستور علی استمرار عمل المحکمة لحين إكمال اعمالها، ولكن بالنسبة إلى المحکمة الاتحادية العليا، لم ينص الدستور علی استمرارية عمل المحکمة بعد إقرار الدستور.

وبالنتيجة، ووفقاً للمادة 92، كان ينبغي إعادة تشكيل المحكمة الاتحادية العليا للفترة الدستورية الدائمة بقانون جديد والذي لم يصدر حتی الآن. وعندما لم يتحقق كل ذلك، لم يبق الأساس الدستوري لاستمرار المحكمة الاتحادية القديمة موجوداً، وبالتالي فقدت هويتها الدستورية.

بعد الأزمة السياسية في تشرين الأول (أكتوبر) 2019 وسقوط حكومة عادل عبد المهدي، أصيبت المحكمة الاتحادية بالشلل بسبب تقاعد القاضي فاروق سامي ثم وفاة القاضي عبود التميمي. وبموجب الأمر رقم 30، كان على المحكمة أن تجتمع بحضور جميع أعضائها. وتعذر شغل منصب القاضيين بسبب الخلاف حول آلية ملء الشاغرين.

وكآلية لإنهاء التظاهرات والاحتجاجات، ولإرضاء الشعب، أعلن عن إجراء انتخابات مبكرة، ولكن لم يکن اجراؤها ممكناً بسبب تعطيل المحكمة الاتحادية، لأنه وفقاً للمادة 93/سابعاً من الدستور، يجب مصادقة النتائج النهائية للانتخابات من قبل المحكمة الاتحادية. وفشلت جميع محاولات لتمرير قانون بشأن المحكمة الاتحادية بالتوافق ما بين الاطراف. وأخيراً، بتاريخ 18 آذار (مارس) 2021، وبتصويت أغلبية (وليس ثلثي العدد) أعضاء مجلس النواب (204) من إجمالي عدد أعضاء المجلس البالغ 329، تم تعديل الأمر المرقم 30 لسنة 2005 بقانون رقم 25 لسنة 2021. وهذا ما زاد من عدم دستورية المحكمة، وذلك للأسباب التي سنقدمها فيما بعد.

براهين دامغة لعدم دستورية التشكيل الحالي للمحكمة الاتحادية العليا في العراق
وبناء على ما أسلفناه أعلاه، فإنه لا جدال في أنَّ التشكيل الحالي للمحكمة الاتحادية ليس له أي أساس دستوري وهو غير دستوري، وذلك للأسباب التالية:

1. أنشئت هذه المحكمة بموجب أمر رقم 30 لسنة 2005 وكانت لفترة ما قبل إقرار دستور العراق، لأن الدستور الدائم لسنة 2005 لا ينص على استمرارية المحكمة. بل على العكس من ذلك، فقد دعت المادة 92 إلى سن قانون خاص بإنشاء المحكمة الاتحادية لفترة ما بعد إقرار الدستور.

في حين تم إلغاء المادة 44 من قانون إدارة الدولة للمرحلة الانتقالية، وفقا لأحكام المادة 143 من الدستور الدائم، فإن الدستور الدائم احتفظ فقط بأحكام المادتين 53 و58 من قانون إدارة الدولة. وكما ذكرنا سابقاً، بالنسبة إلى استمرارية المؤسسات ما قبل إقرار الدستور الدائم، بالإضافة إلى الاعتراف بمؤسسات إقليم كوردستان، أقرت المادة 134 من الدستور باستمرارية المحكمة الجنائية العراقية العليا فقط.

2. لم يصدر قانون خاص للمحكمة الاتحادية بموجب المادة 92 من الدستور، كما أن تعديل الأمر رقم 30 في عام 2021 مخالف تماماً للدستور بل ومخالف لقرار المحكمة نفسها. لأن الدستور، كما أسلفنا سابقاً، يقضي بإقرار القانون بأغلبية الثلثين في البرلمان. ويتطلب القانون النسبة نفسها لتعديل القانون. لكن كما ذكرنا، تم تمرير تعديل الأمر بالأغلبية ولم يحصل علی أصوت ثلثي أعضاء مجلس النواب.

من جهة أخرى فإنَّ المحكمة نفسها، وبموجب قرارها المرقم 107 بتاريخ 18 تشرين الثاني (نوفمبر) 2012، تؤكد على وجوب مراعاة أحكام المادة 92/ثانياً من الدستور لإصدار القانون المحکمة الاتحادية أو تعديله، والذي يستوجب نسبة ثلثي أعضاء البرلمان، علماً أن التشکيل الحالي للمحکمة تم التصويت عليه بالأغلبية المطلقة.

3. إن تعديل الأمر رقم 30 من قبل القانون المرقم 25 لسنة 2021 كان مبنياً بحجة المادة 130 من الدستور، ولكن في الحقيقة هذا التعديل مخالف للمادة 130 من الدستور والتي تنص صراحة على التالي: "تبقى التشريعات النافذة معمولا بهاً، ما لم تلغ أو تعدل وفقاً لأحكام هذا الدستور"، إلا إن الدستور عدل صراحة هذا الأمر، ولم يأخذ به مجلس النواب في عام 2021، لذلك لا يزال التعديل غير دستوري، لأن الدستور ينص على وجوب إقرار قانون المحكمة الاتحادية بأغلبية الثلثين.

4. والدليل الآخر على عدم دستورية التشكيل الحالي للمحكمة وتعديلها هو أنه بالرغم من أن تعديل الأمر رقم 30 قد تم إقراره بالأغلبية (وليس بأغلبية ثلثين كما يقتضي الدستور). ويتطلب إصداره مرسوماً رئاسياً، وهو من صلاحيات رئيس الجمهورية حصراً وفقاً للدستور. إلا أن مرسوم هذا القانون غير الدستوري صدر عن رئيس مجلس النواب، والذي لا يملك صلاحية إصدار المراسيم.

5. من حيث تكوين المحكمة، فهو مخالف لما هو منصوص عليه في الدستور، وهو في حد ذاته مخالفة دستورية، ودليل على عدم دستورية المحكمة، لأنَّ التكوين الحالي للمحكمة هم جميعهم من القضاة، فيما تؤكد المادة 92/ثانياً من الدستور على وجود عدد من فقهاء القانون وخبراء في الفقه الإسلامي في تشكيلها.

6. ومن المخالفات الدستورية الأخرى للمحكمة الاتحادية هو تعديل المادة الثالثة من الأمر رقم 30 لسنة 2005، والذي وضع إجراءات مستحدثة لتعيين أعضاء المحكمة الاتحادية، وحرم إقليم كوردستان من حقه في تعيين أعضاء المحكمة الاتحادية العليا بالتنسيق مع مجلس القضاء لإقليم كوردستان، فقد تم حذف هذا الحق في تعديل عام 2021. وهو ما أدى إلى إخلال التوازن العرقي والمذهبي في العراق، إذ يبلغ عدد القضاة تسعة، بينهم خمسة شيعة وقاضيان كرديان وسنيان. ووفقاً لقانون المحكمة، فإن قرارات المحكمة تتخذ بالأغلبية، وبالتالي فإن الأغلبية يمكنها إصدار أي قرار تريده.

انتهاكات المبادئ الدستورية والقانونية من قبل التشكيلة غير الدستورية الحالية للمحكمة الاتحادية العراقية
وبالرغم من عدم دستورية التشكيل الحالي للمحكمة الاتحادية العراقية بشكل لا يمكن إنكاره، فإن هذا التشكيل الحالي للمحكمة تجاوز الحدود والمبادئ الدستورية والقانونية ووضع نفسه فوق الدستور والقوانين والصلاحيات الأخرى. ونذكر على سبيل المثال:

1. إن المبدأ الثابت للعملية القضائية وعمل المحاكم هو التزام المحكمة بإطار عريضة الدعوی، إلا أن التشكيل الحالي للمحكمة الاتحادية قد خالف هذا المبدأ الثابت في قانون المرافعات المدنية العراقي رقم 83 لسنة 1969، ورأى البعض في الدعاوى فرصة للمبالغة في نطاق دعوی المدعي واستخدامه كفرصة للتلاعب بالأجندة السياسية وتنفيذها. على سبيل المثال، فإن طعن الاتحاد الوطني الكوردستاني ضد قانون الانتخابات البرلمان في كوردستان لا يدعو فيه إلى إلغاء مقاعد الکوتا في برلمان كوردستان، بل يدعو إلى إعادة التوزيع بحسب الدوائر الانتخابية. إلا أن المحكمة انتهزت هذه الفرصة وقضت بعدم دستورية مقاعد الکوتا دون أي مبرر قانوني أو دستوري. ولم يطلب الاتحاد الوطني حرمان الهيئة العليا من تحديد شكل العلاقات مع الحكومة العراقية بموجب المادة 56/ثانياً من قانون الانتخابات، لكن المحكمة اعتبرت ذلك البند غير دستوري. وهذا بالتأكيد يشكل خرقاً واضحاً للمبدأ المقرر في القانون والعدالة بأن الدعوى تقتصر على عريضة الدعوی، ولا يجوز الحكم فيها بأكثر مما يطلبه المدعي.

2. وفي الوقت نفسه، أنشأت المحكمة نظامها الداخلي الخاص، وهو ما تسبب في كارثة قانونية كبيرة وعدم استقرار سياسي، لأن نظامها الداخلي ينتهك الدستور، بل هو مخالف لقانون المحكمة نفسها ولقانون المرافعات المدنية، لأنها قد أعطت لنفسها سلطتين في نظامها الداخلي، وهما سلطة التصدي وسلطة العدول، وكلاهما دون أي أساس قانوني أو دستوري.

3. إحدى صلاحيات هذه المحكمة بموجب المادة 93 من الدستور مراقبة دستورية القوانين، لكنها قفزت على هذه السلطة وأعطت نفسها حق الفصل في مشاريع القوانين، وهي لا تزال قيد التشريع. على سبيل المثال، في الدورة الخامسة لبرلمان كوردستان، تم تقديم مشروع قانون لإنشاء محكمة خاصة لمحاكمة قادة داعش، في حين أن مشروع القانون كان في مرحلة عملية التشريع وتتم مناقشته من قبل اللجان البرلمانية. إلا أن المحكمة الاتحادية قضت بعدم دستورية مشروع القانون في قرارها رقم 71 لسنة 2021. لكن في المقابل، عندما أُقر قانون الإدارة المالية للدولة في البرلمان العراقي عام 2019، بالرغم من احتوائه على عدد من المواد والأحكام غير الدستورية، وكان القانون تم التصويت عليه وصدر مرسوم جمهوري بخصوصە، رفضت المحكمة الدعوی بعدم دستورية القانون، على أساس أن عدم دستورية القانون لا يجوز الطعن فيه إلا بعد نفاذه، وهذا دليل صارخ على غموض وتنفيذ سياسة "كيل بمكيالين" من قبل هذه المحكمة.

4. وقد أعطت هذه المحكمة لنفسها دور التعديل الدستوري. وبينما فرضت قيوداً صارمة على تعديل الدستور العراقي بموجب المادتين 126 و142 من أجل حماية الحقوق والصلاحيات، فإن المحكمة الاتحادية الحالية، بالرغم من عدم دستوريتها، أعطت لنفسها صلاحية تعديل نصوص الدستور. على سبيل المثال، لم تنص المادة 110 من الدستور العراقي علی إدارة الموارد الطبيعية، بما في ذلك النفط والغاز، ولم تجعله من السلطات الحصرية للحكومة الاتحادية. وبدلاً من ذلك، تؤكد المادة 112/أولاً من الدستور على أن إدارة النفط والغاز المستخرج من الحقول الحالية (ما قبل 2005) هي سلطة مشتركة بين الحكومة الاتحادية والأقاليم، ولكن في 15 شباط (فبراير) 2022، أصدرت المحكمة الاتحادية قراراً يقضي بعدم دستورية قانون النفط والغاز الكوردستاني رقم 22 لسنة 2007 برمته، على اعتبار أنَّ النفط والغاز من الصلاحيات الحصرية للحكومة الاتحادية. ولذلك، رد القرار بالرفض من قبل جميع سلطات إقليم كوردستان الأربع (البرلمان، الحكومة، رئاسة الإقليم، مجلس القضاء).

5. كما أعطت المحكمة لنفسها دور البرلمان وتعديل القوانين. وأحدث الأمثلة على ذلك، المخالفات القانونية والدستورية التي وردت في حكم الدعوى رقم 83 والتنظيمين 131 و185/الاتحادي/2023 بشأن قانون الانتخابات البرلمانية الكوردستانية، شرعت المحكمة مجموعة من النصوص القانونية في قرارها وخاصة ينظر الفقراتثانياً وثالثاً ورابعاً وخامساً من الحكم المذكور أعلاه. للمزيد من التفاصيل حول المخالفات الدستورية لهذا القرار فقد تم عرضها بشكل واضح ودقيق من قبل مجلس الشوری لإقليم كوردستان.

وكل ذلك يتعارض مع المبدأ الديمقراطي المشترك المتمثل في "الفصل بين السلطات" الذي يشكل جوهر نظام الحكم الديمقراطي العالمي والدستور العراقي في المادة 47 باعتباره المبدأ الأساسي والدستوري لممارسة السلطات في العراق.

استخدام المحكمة الاتحادية كسلاح فعال في الصراع السياسي الدائر في العراق
وبالرغم من أهمية وتأثير المحكمة الاتحادية في تطبيق النظام الاتحادي، إلا أن هذه المحكمة إذا لم تكن محدودة ومنظمة بعناية، فإنها ستؤدي دائماً إلى ظهور نوع خطير من الدكتاتورية تسمى "الدكتاتورية القضائية" (Judicial Dictatorship). وقد تطرق إلى الحديث عنها كل من المفكرين والسياسيين وليام كويرك وراندال برادويل في كتابهما الشهير الصادر في عام 1995. وفي تجربة الفيدرالية الأميركية التي اقتربت منها من التجربة العراقية في عديد من المجالات، وخاصة في مسألة المحكمة الاتحادية، فقد تم حل تهديدات المحكمة الاتحادية على الفيدرالية الأميركية بشكل تدريجي حتى وضعها على المسار الصحيح. على سبيل المثال، تم تعديل الدستور الفيدرالي الأميركي، الذي تم تبنيه عام 1789، 27 مرة فقط. ثمانية من هذه التعديلات كانت لمنع المحكمة الفيدرالية الأميركية من تجاوز حدودها والتحول إلى أداة لتعديل الدستور. على وجه الخصوص، كان المقصود من التعديل الثامن منع المحكمة الفيدرالية من تعديل الدستور وتجاوز حدود ولايتها القضائية، كما هو المنصوص عليه في التعديل الحادي عشر.

لكن ما يحدث في العراق، رغم التجسيد الكامل لنظرية "الدكتاتورية القضائية" من خلال إطلاق كامل صلاحيات للمحكمة الاتحادية، هي ظاهرة خطيرة التي تسمى في العلوم السياسية والبحوث الأمنية "حرب القانون" (Lawfare).

في كتابهما الأخير، Conflict: The Evolution of Warfare from 1945 to Ukraine، يناقش ديفيد بتريوس وأندرو روبرتس بوضوح الأشكال الجديدة للحرب على المستوى العالمي وأدوات المواجهة. إحدى القضايا التي يتم التركيز عليها وإعطاؤها أهمية أكبر كمفهوم جديد في عالم الصراع هي تسليح كل شيء (Weopanization of Everthing). وفي هذا الصدد، يقولون إنه ليس من الضروري في الحروب والهجمات استخدام الأسلحة الكلاسيكية، بل من الذكاء الاصطناعي إلى شبكات التواصل الاجتماعي وأسعار القمح والأسمدة الزراعية والانتخابات والتأثير على الرأي العام والأخبار الكاذبة واللاجئين والطائرات بدون طيار وحرب القانون. فجميعها تعتبر جزءاً من أدوات الهجوم والمواجهة. وإذا نظرنا عن كثب إلى تحركات المحكمة الاتحادية وقراراتها في وقتها وفي سياقها الخاص، يمكننا أن نرى بوضوح مفهوم تسليح المحكمة الاتحادية للهجوم على إقليم كوردستان.

وعلى مدى السنوات الثلاث الماضية، اتخذت المحكمة عدة قرارات صعبة وحاسمة بشأن العملية السياسية العراقية، خاصة فيما يتعلق بمسألة تعديل الآليات الدستورية للانتخابات رئيس الجمهورية واستحداث بدعة سياسية ما يسمی الثلث المعطل، ويطلق عليها الإعلام العراقي ظاهرة "حكم المهزومین" ويخرج الفائز الأول في الانتخابات ويتولى المنافسون الخاسرون الحكم. وفي المستقبل، سيشكل هذا النهج تهديداً أكبر للانتقال السلمي للسلطة في العراق. وقد تم تسليط الضوء على هذه المخاطر في تقييم مفصل أجراه معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى Washington Institute For Near East Policy.

وعلی الصعيد العلاقات بين إقليم كوردستان والعراق، فقد حاولت هذه المحكمة باستمرار أن تضمن الهيمنة السلطة الحكومة الاتحادية على حساب الصلاحيات الدستورية لإقليم كوردستان. كلما وأينما أتيحت لها الفرصة لاتخاذ القرار، استغلتها المحکمة ضد الوضع الدستوري لإقليم كوردستان، بشكل أصدرت المحکمة خلال الأعوام الثلاثة الماضية 11 قراراً ضد إقليم كوردستان وآخر قرارتها غير القانونية وغير الدستورية والسياسية هو بشأن قانون الانتخابات البرلمانية الكوردستانية رقم 1 لسنة 1992 وتعديلاته، والغرض من ذلك هو "لبننة" إقليم كوردستان وفرض نظام وعملية انتخابية مصممة سلفاً في إقليم كوردستان.

ولذلك، وكما أوضح في بيان المكتب السياسي للحزب الديمقراطي الكوردستاني بتاريخ 18 آذار (مارس) 2024، فإنَّ من المسؤولية الوطنية منع تسييس هذه المؤسسة القضائية. وأوضح القاضي عبد الرحمن زيباري في مذكرة استقالته أنَّ هذه المؤسسة انحرفت عن مسارها الدستوري وأنها أداة لتنفيذ وفرض أجندة سياسية.

لذلك، ومع 143 هجوماً بطائرات مسيرة وصاروخية على عاصمة حكومة إقليم كوردستان أربيل خلال السنوات الثلاث الماضية، بالاضافة إلی الضغوط الاقتصادية وسياسة التجويع المتبعة ضد مواطني إقليم كوردستان، أصبحت المحكمة الاتحادية سلاحاً فعالاً لتحجيم الاقليم، وتحقيق حلم إنهاء الکيان الدستورية لإقليم كوردستان.

وكما أن استخدام المحکمة ضد المنافسين السياسيين في العراق يبدو واضحاً، ومن أبرز أمثلة قرار إلغاء عضوية ورئيس مجلس النواب العراقي محمد الحلبوسي إلى التهديدات على مشعان الجبوري بحرمانه من العضوية من قبل رئيس المحكمة اذا لم يلتزم بأجندة محددة.

وفي المقابل، فإن مكافأة رئيس المحکمة على ترشيح ابنه البالغ من العمر 28 عاماً لمنصب محافظ ديالى تزيد الشكوك حول مصداقية المحکمة.

في المرفق: القرارات الـ11 للمحكمة الاتحادية العراقية غير الدستورية بحق مکانة وصلاحيات إقليم كوردستان خلال السنوات الثلاث الماضية:

1 - الدعوى المرقمة ١٧ /اتحادیة/ ٢٠٢٢ فی ٢٥-١-٢٠٢٣ (عدم دستوریة قرار مجلس الوزراء الاتحادی بخصوص تمویل اقلیم كوردستان ).

2 - الدعوى المرقمة ٢٣٣ وموحداتها ٢٣٩ و٢٤٨ و٢٥٣ /اتحادیة/ ٢٠٢٢ فی ٣٠-٥-٢٠٢٣ (عدم دستوریة قانون استمرار الدورة الخامسة لبرلمان الاقلیم ).

3 - الدعوى المرقمة ٢٣٠ /اتحادیة/ ٢٠٢٢ فی ٣٠-١١-٢٠٢٢(عدم دستوریة المادة ١٨ من قانون تعدیل تطبیق الاحوال الشخصیة فی اقلیم كوردستان رقم ١٥ لسنة ٢٠٠٨).

4 - الدعوى المرقمة ١٥٦ وموحدتها ١٦٠ /اتحادیة/ ٢٠٢٢ فی ٢٦-٩-٢٠٢٢ (عدم دستوریة المادة ثانیا-اولا من قانون المفوضیة العلیا النستقلة للانتخابات والاستفتاءات فی اقلیم كوردستان- العراق رقم ٤ لسنة ٢٠١٤).

5 - الدعوى المرقمة ١٤٣ /اتحادیة/ ٢٠٢٢ فی ١-٣-٢٠٢٣ (عدم دستوریة المادة ٤٦ من قانون وزارة التعلیم العالی والبحث العلمی فی اقلیم كوردستان رقم ١٠ لسنة ٢٠٠٨).

6 - الدعوى المرقمة ٥٩ / اتحادیة/ ٢٠١٢ وموحدتها ١١٠ /اتحادیة/ ٢٠١٩ فی ١٥-٢-٢٠٢٢(عدم دستوریة قانون النفط والغاز لاقلیم كوردستان رقم ٢٢ لسنة ٢٠٠٧).

7 - الدعوى المرقمة ٨٣ وموحدتیها ١٣١ و١٨٥ /اتحادیة/ ٢٠٢٢ في ٢١-٢-٢٠٢٤ (عدم دستوریة نصوص من قانون انتخاب برلمان كوردستان -العراق رقم ١ لسنة ١٩٩٢ المعدل).

8 - الدعوى المرقمة ١٧٨ / اتحادیة/ ٢٠٢٣ فی ١٥-١٠-٢٠٢٣ (عدم دستوریة القانون رقم ٤٢ لسنة ٢٠٠٤ والخاص بتعدیل تطبیق المادة ٤٠٨ من قانون العقوبات العراقی رقم ١١١ لسنة ١٩٦٩ فی اقلیم كوردستان).

9 - الدعوى المرقمة ١٢٤ / اتحادیة/ ٢٠٢٣ فی ٢٤-٩-٢٠٢٣ (عدم دستوریة المادة ٢ من القانون رقم ٢ لسنة ٢٠١٩ قانون التعدیل الاول لقانون محافظات اقلیم كوردستان رقم ٣ لسنة ٢٠٠٩).

10 - الدعوى المرقمة ١٧ / اتحادیة/ ٢٠٢٢ فی ٣١-١-٢٠٢٢ (إلغاء قرار مجلس النواب بخصوص قبول ترشیح السید هوشیار الزیباری لمنصب رئیس الجمهوري).

11 - الدعوى المرقمة ٢٢٤ وموحدتها ٢٦٩ / اتحادیة/ ٢٠٢٣ فی ٢١-٢-٢٠٢٤ (إلزام حكومة الإقلیم بتسلیم الواردات النفطیة وغیر النفطیة إلى الحكومة الاتحادیة).

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف