حضارة أم جحيم؟!
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
بعد کل التقدم الذي أحرزه الإنسان في مختلف المجالات، فبات يبحث أموراً کانت إلى عهد قريب ضرباً من الخيال، حتى أنَّ البعض أطلق لنفسه العنان وصار يعتقد بصحة ما کان يقوله عالم الفيزياء ستيفن هاوکينغ بشأن قدرة الإنسان على صنع قدره من دون الحاجة إلى الإله؛ بيد أنَّ کل هذا التقدم وکل تلك المنجزات لم تتمکن من جعل الإنسان سعيداً ومتفائلاً!
فيما نسير نحو نهاية العقد الثالث من الألفية الثالثة بعد الميلاد، يبدو الإنسان، وفي أرقى المجتمعات، کآلة من دون مشاعر؛ إنه ليس کذلك الإنسان الذي عهدناه خلال القرنين الماضيين على سبيل المثال، إذ أن اقتحام العلماء مجاهل مختلف المجالات والحقول لم يسعف في إمطار رذاذ من التفاٶل والأمل أو نشر شيء من الفرح على أغوار التصحر العاطفي.
حالة حصار يشعر بها الإنسان ليس من أعدائه الظاهريين فحسب، وإنما من عدو متربص به لا يعلم عنه شيئاً، وهنا لا أقصد العامل الديني، إذ أنَّ المعتقدات الدينية في ظل التقدم العلمي في الغرب في تراجع مستمر، بل إن السلطات الألمانية عندما أقامت مهرجان الشباب العالمي في بدايات هذه الألفية ودعت البابا للمشارکة فيه، فإنما کان ذلك من أجل حث الشباب الألماني على الالتفات إلى العامل الديني الذي بات ينأى بنفسه بعيداً عنه، ناهيك عن أنَّ ألمانيا تشهد ظاهرة إغلاق الکنائس لعدم الإقبال عليها، وکذلك ظاهرة تكاثر من يصنفون أنفسهم من دون دين، وهم، وکما يقول العديد منهم، يتخلصون من دفع ضرائب ومن واجب تقليدي لم يعد لديهم من استعداد کاف لتحمله.
العدو المتربص الذي يخافه الإنسان في المجتمعات الغربية والذي يجب ألا نعتبر بأن المجتمعات الشرقية بمنأى عنه، ولا سيما أنها، شاءت أم أبت، تتأثر بقوة بتأثيرات المجتمعات المتقدمة في مختلف النواحي؛ هذا العدو المتربص، عدو مجهول، عدو يطارد الإنسان ويضيق عليه الخناق، يدفعه رغماً عنه إلى الشعور حيناً بالقلق وتارة بالسأم وأخرى بالضياع وعدم الجدوى، فهو يملك کل شيء لکنه لا يشعر بالرضا والفرح الموازي لذلك الامتلاك!
إقرأ أيضاً: قيادة جماعية لنظام ولاية الفقيه بعد خامنئي
الرغبة في التغيير وفي کشف المجاهل الغامضة وتجربة کل شيء بما فيه المحظورات والممنوعات، صارت من أهم سمات إنسان هذا العصر، لکن المشکلة أنه کلما اقتحم هذه المجاهل، غرق أکثر في داخل نفسه، ومع الغرق الذي يسعى البعض للإيحاء بلذته والمتعة الناجمة عنه، فإن بعضاً آخر يرى النقيض، ويشعر بالکثير من العبث والفوضوية.
ثمة ملاحظة مهمة أخرى؛ الإنسان في ظل التقدم العلمي الاستثنائي الحاصل يفتقد الشفافية والوضوح، إذ يبدو المستقبل أکثر ضبابية وتعقيداً، وليس هناك ما يجعله مقتنعاً بأنه يسير في طريق واضح المعالم وإلى أين ينتهي به الأمر، لا سيما أن تلاشيه عاطفياً ووجدانياً قبل أن يتم التلاعب بجيناته، کما هو منتظر، ونزع تلك التي تحفز المشاعر العاطفية فيه، هو في حد ذاته واحد من أهم أسباب قلقه وضياعه.
إقرأ أيضاً: القنبلة الطائفية
حالة اليأس والقنوط التي باتت تغلب على الإنسان، بالرغم من کل التهريج الثقافي الهائل وکل البهرجة الإعلامية، ليست حالة طارئة، وإنما هي في حصيلة واقع موضوعي يمزق أعماق الذات الإنسانية ويجردها رويداً رويداً من مقومات وأسباب تخلق فيها القوة والاندفاع والإحساس بالثقة والأمل، وحقاً فإن فوکوياما، الذي کتب عن "نهاية التاريخ" ثم کتب عن "نهاية الإنسان"، کان أکثر صدقاً وأکثر قرباً من الحقيقة في کتابه الثاني، فالإنسان ومهما عملت فيه الحروب من نتائج وتداعيات سلبية، لا يمکن أبداً أن يکون في مستوى الإحساس بالعالم الذاتي الذي يصنعه لنفسه ويضيع في متاهاته.
لو کفل لکولن ولسن أن يعيش ليومنا هذا ويرى کل ما يجري الآن، أتساءل: هل کان سيکتفي بتلك البصقة الشهيرة التي بصقها في القرن الماضي على الحضارة الإنسانية؟