لکل من مراحل العمر ملامح وسمات تختلف عن الأخرى، وخلال ذلك، يجد الإنسان نفسه، رغماً عنه، خاضعاً لها. وهذه المراحل، حين يتخطاها، لا تعود، بالرغم من أن البعض يسعون جاهدين لکي يثبتوا أنهم ما زالوا في مرحلة قد غادرتهم، ويتصرفون وفق شروط المرحلة التي تجاوزتهم. وهؤلاء يظلون مدعاة للشفقة الممزوجة بالسخرية، عملاً بقول الساخر مارك توين: "عودة الزمن إلى الوراء أشهر أمنية اتفقت عليها البشرية".

ما تشهده إيران في ظل النظام الديني الحاکم صار أمراً لافتاً لنظر العالم کله، ومن المواضيع الدسمة للکتابة بمختلف الجوانب. فالنظام الذي کان في بداياته، وخصوصاً أيام "آية الله صادق خلخالي"، يصدر أحکامه الدموية يمنة ويسرة من دون أن يرف له جفن، بالتوازي مع أوامر الخميني من عليائه لتمضي الجموع في تلبيتها طواعية، هو غير النظام الذي يستجدي الشعب بکل وضوح من أجل الذهاب إلى صناديق الاقتراع. وعلي خامنئي المهموم بترقيع نظامه تارة بدعاة الإصلاح وطوراً بغلاة التشدد، وبين هذا وذاك يقوم بنثر الأماني ويقطع الوعود بإصلاح الخلل، هو قطعاً غير سلفه الخميني!

عندما أسس الخميني نظام ولاية الفقيه، نجح بصورة أو أخرى في زرع اعتقاد لدى الدائرة المحيطة به، ولدى قسم کبير من الشارعين العربي والاسلامي، بأنه سوف يغير المعادلة القائمة في المنطقة ويقلبها رأساً على عقب. هذا الاعتقاد، وإن بدأ الکثيرون يشککون به بعد ثلاثة عقود، جاءت الهبة الأميرکية بغزو العراق ومن ثم تقديمه على طبق من ذهب للنظام الايراني، وماتبع ذلك من فرض هيمنة على سوريا واليمن وقبل الثلاثة على لبنان، ليدفع مجدداً باعتقاد تغيير المعادلة في المنطقة إلى الواجهة. ومرة أخرى، عادت نسبة "المقتنعين" إلى الارتفاع. لکن بالتزامن مع امتداد النظام إلى الدول المذكورة، تزداد مشاعر الغضب والسخط والکراهية ضد النظام، والتي جسدها الشعب في ثلاث انتفاضات متقاربة زمنياً.

هذا الاعتقاد بتغيير المعادلة القائمة في المنطقة وبتحقيق مشروع الخميني، يظهر جلياً في تصريحات نوعية لقادة النظام ومسؤوليه، لا سيما لناحية أن النظام حقق ما عجزت عنه إيران طوال تاريخها، وذلك بالوصول إلى البحرين الأبيض المتوسط والأحمر، وهذا کان يمثل بحد ذاته دغدغة غير عادية من جانب النظام للمشاعر القومية والوطنية الإيرانية، وهو ما يناقض مبادئ وقيم نظام ديني مبني على أساس نظرية ولاية الفقيه، لا الأسس القومية، وهذا الأمر بحد ذاته دق مسماراً في نعش النظام، وقد رد الشعب على ذلك بهتافه الذي صعق النظام: "لا غزة ولا لبنان روحي فداء لإيران"، وکأن لسان حال الشعب يخاطب النظام بالقول "لا تحدثونا عما تفعلونه في المنطقة، بل التفتوا إلى أين أوصلتم حالنا!".

إقرأ أيضاً: قف إنه الموت!

ولئن کان النظام قد وصل إلى ذروة "مراهقته المتأخرة" في عهد الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما، فإنه، وبالرغم مما قد سمح به الحال مع الرئيس الأميركي جو بايدن لاسترضاء النظام ومسايرته، يبدو واضحاً أنه انتقل إلى ضفة جديدة، لا سيما من خلال ما حدث خلال حرب غزة، وإحساس النظام بالثقل الذي باتت أذرعه تشکله على کاهله، وسعيه لاسترضاء الغرب ومسايرته. کما أنَّ تلك الملامح والسمات بدأت تظهر أکثر مع ما رافق انتخابات مجلسي الشورى والخبراء، والتي بلغت ذروتها بتصريح خامنئي الذي دعا الشعب بطريقة استجدائية واضحة للمشاركة فيها، عندما قال: "الانتخابات القوية والحماسية إحدى ركائز الإدارة السليمة للبلاد، وإذا كانت الانتخابات ضعيفة فلن يستفيد أحد وسيتضرر الجميع"؛ هاتان الملاحظتان تؤكدان أنَّ النظام بات مقتنعاً أنه عاجز عن تغيير المعادلة، ومقتنعاً أيضاً أن ما يحدث في داخل إيران وما يحيط بها، قد جعله يتغير، تماما کما على قول جان بول سارتر:"إن الحياة ثلاث مراحل: اعتقادك أنك سوف تغير الدنيا، إيمانك بأنك لن تغير الدنيا، وتأكدك من أن الدنيا قد غيرتك".

إقرأ أيضاً: سرطان ولاية الفقيه

مهما قيل أو يقال بشأن ما يجري حالياً في إيران، لاسيما بعد الأحداث والتطورات العاصفة التي أفضت إلى تقوقع النظام في أضيق دائرة وليس تقلصه فقط، يدل على أنَّ النظام الايراني صار يشعر بحالة من القلق غير العادي، خصوصاً لجهة موضوع خلافة خامنئي، والذي صار يمثل هاجساً عبر عنه مهدي نصيري، رئيس التحرير السابق لصحيفة کيهان المقربة من خامنئي، عندما حذر من أن خامنئي يفکر بتولية ابنه مجتبى من بعده، لکنَّ الشعب الايراني لن ينصاع له! کما أن إبراهيم رئيسي، الذي فشل هو وحکومته في مواجهة الاوضاع المتأزمة منذ عام 2021، لا يصلح کخليفة لخامنئي، ويبقى الحل في قيادة جماعية ستعکس في الحقيقة النمط الدکتاتوري الشمولي للنظام، وهو آخر الحلول لدى النظام، وقطعاً فإن الشعب الذي تخطى جدار خامنئي العالي نسبياً، سيتجاوز وبسهولة الحائط المنخفض للقيادة الجماعية لنظام ولاية الفقيه.