كتبت قبل نحو أسبوعين في "إيلاف" كيف كان رد فعلي عندما تناهى إليَّ نبأ هجوم السابع من تشرين الأول (أكتوبر)، وأي "تحليل منطقي ولكن لاعقلاني" تبادر إلى ذهني وكتمته في صدري. وسأبوح بذلك التحليل إذ في ذلك اليوم تساءلت عما سيكون عليه الرد الإسرائيلي، وتذكرت ما كشفه حسن نصر الله بعد أسر اثنين من جنود الاحتلال كرهائن عام 2006، حين قال على شبكة التلفزيون اللبناني "لو كنت أعلم بأنَّ الرد الإسرائيلي سيكون بهذا العنف لما قمت بهذه العملية".

في السابع من تشرين الأول (أكتوبر) 2023، دخلت في جدال مع إنسانة عزيزة جداً، كانت فرحة بتكبيد الإسرائيليين قتلى وأسرى، اسوة بما يفعلونه بالفلسطينيين... لكني كنت من جهتي أخشى عنف الرد الإسرائيلي والثمن الذي سيدفعه الفلسطيني. وقد أطل الشيطان القبيح برأسه ليشفي غليلي... وليقول لإسرائيل هذا ما فعلته بالشعبين الإسرائيلي والفلسطيني، صاحب الحق الذي قتلت آماله في العيش بسلام... وعليه، أنت تستحقين شيئاً من العذاب الذي يعيشه الفلسطيني كل يوم... بل إني فكرت أنها عملية مُتفق عليها بين حماس ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، وذاك كان الجزء اللا منطقي في التحليل أعلاه.

حماس بالتاكيد عرفت أن هدف نتنياهو غير المُعلن تحقيق هجرة طوعية للفلسطينيين، وفترة حكم سياسي جديدة تنقذه من السجن والمحاكمة في قضايا فساد مالي. وترتكز حماس على التأويلات الدينية التي أوصلتها إلى السلطة في عملية انتخابية استندت فيها على معاناة الإنسان الفلسطيني وتخاذل السلطة. وترفض حماس الاعتراف الكلي بأن الصراع سياسي، وتتشارك في ذلك مع منطق المستوطنين اليهود، القادمين من شتى بقاع العالم. وحماس مدعومة من إيران، الدولة الدينية التي تريد إطالة مدى هذا الصراع، وهدفها الهيمنة السياسية والاقتصادية على منطقة الخليج العربي... وعليه قامت بعملية السابع من تشرين الأول (أكتوبر).

التحليلان يذكرانني بالمكر الإسرائيلي... وبما شاهدته قبل سنوات في لقاء تلفزيوني مع رجل دين يهودي، سأله مقدم البرنامج الأميركي عن رأيه بما يقدمه الأميركيون "الإيفانجيلستك" من مساعدات لإسرائيل، ومن تشجيع للهجرة اليهودية. أجاب: إننا سعداء جداً بذلك". فقاطعه المذيع سائلاً: "لكن هذا التشجيع ليس في مصلحة اليهود، لأنه يعني مجيء المسيح ونهايتهم في العالم؟"، فأجاب بدون تردد: "دعهم ينتظرون مجيء المسيح ليتأكدوا أنه ليس سوى نجار يهودي".

نعم، إسرائيل دولة على أرض مسروقة، وارتكبت في كل حروبها مع العرب والفلسطينيين أعمال عنف منقطعة النظير... وساندها المجتمع الدولي على مدى 75 عاماً، ليريح ضميره مما فعله باليهود... خصوصاً عملية الإبادة الجماعية "الهولوكوست". وعليه، فإنَّ إسرائيل باقية ومدعومة دولياً... حتى في عدم الالتزام بأي من القوانين الدولية التي صدرت ضدها. وبالرغم من أن ما فعلته في غزة لا يقل عنفاً وكراهية ومحاولة إبادة، لا زالت الحكومات الغربية تتأرجح في موقفها من إدانتها بجرائم حربها في غزة.

أعترف أن أي معركة استنزاف مع عدو لسنا في مستوى قوته العسكرية وجيشه لا تصب في صالحنا. ومفاوضات حماس لتحرير أكبر عدد من السجناء لن تنجح، وما ينجح هو التركيز على إطلاق سراح الأطفال المحتجزين في سجون إسرائيل، ووقف عمليات التعذيب التي يتعرضون لها.

إقرأ أيضاً: سُعار السلطة وسُعار القوة

وفازت حماس بدعم شعبي عالمي فهم جذور الصراع لأول مرة... والسؤال هو كان يستحق ذلك كل هذا العدد من الضحايا، خصوصاً من الأطفال؟ الإجابة أن لا شيء يستحق قتل أي طفل في هذا العالم.

لكني أعترف أيضاً بأنني لا، ولن، أساند الدولة الدينية في أي مكان في العالم... إنَّنا أصحاب حق أخطأنا في سياستنا لإنهاء الصراع... باستراتيجية وظّفت العنف فوصمنا العالم بالعنف... وأصبح يخاف منا، ومن عقيدتنا التي وظفت الجهاد الديني، وغض النظر عن عنف الدولة المحتلة، وإن كان القادمون الجدد إلى إسرائيل أيضاً وظفوا العقيدة الدينية في الصراع.

المجزرة الأخيرة في غزة، والتي أسفرت عن مقتل أكثر من مئة شخص، بينهم أطفال، وخلفت ما يزيد عن 250 جريحاً، في غياب مستشفى واحد يستطيع علاج أي شخص لنقص الأدوية والمعدات الطبية... تؤكد أن إسرائيل ستمضي في سياستها التي تهدف إلى إنهاء القضية بالتخلص من الفلسطينيين، سواء في غزة أو في الضفة، وستزيد من القصف العشوائي قبل رمضان لتحقق أقصى أهدافها.

أؤمن بأن حماس اتخذت قرارها من دون التشاور مع أي من الفصائل الفلسطينية، وقد انفردت في القرار لتنفيذ هدف الدولة الإيرانية بهجوم يخدم مصلحة الأخيرة، ومن دون استعداد عسكري أو سياسي. وقد أثبت بذلك قلة خبرتها، لا سيما لجهة الانفراد بالقرار من دون حساب النتائج، التي فاقت كل التوقعات.

إقرأ أيضاً: إيران وفشل نظرية ولاية الفقيه

ما الحل لخروج الفلسطينين من المصيبة التي أوقعتهم فيها حماس، بينما هرب معظم قيادييها مع عوائلهم إلى الخارج؟

يبدأ الأمر بالاستثمار في صحوة المجتمع المدني في كل دول العالم، وتوظيفها لتخدم السلام العالمي، ولتخدم حقوقنا كبشر. نعم، الأنظمة العربية استخدمت قضيتنا وعلّقت قصورها في خدمة مواطنيها على شماعة القضية، ولكنها لم تتخل عنا. أما قيادتنا، فعيّشتنا على وهم "يا جبل ما يهزك ريح"، بينما أثرى قياديوها من الفساد المالي وجوازات السفر الغربية لكل عوائلهم... وقدّمت كل عوائلنا ضحايا لهذا الصراع.

هذه المجزرة يجب توظيفها دبلوماسياً للحكم على الدولة المحتلة، ووقف العنف فوراً، وإقالة كل القياديين، سواء في حماس أو في السلطة الوطنية، بالتوازي مع حملة انتخابية لقادة جُدد من غزة ونابلس والقدس وطولكرم وجنين ورام الله... باستراتيجية وأهداف واضحة تختار السلام كبداية ونهاية لكل مطالبها، تحت إشراف قيادة المملكة العربية السعودية لهذا الإقتراح، بعدما أثبتت المملكة، من خلال تحسين علاقتها مع إيران بالرغم من معرفتها بطموحاتها، على نظرة بعيدة المدى لإحقاق السلام العالمي... وما زالت الرياض تؤكد على وجوب تنفيذ ما تتمضنه المبادرة العربية للسلام كمقدمة لأي علاقة مستقبلية مع إسرائيل... ولم تتخل عن الحقوق الفلسطينية، وتحظى بالوزن الأكبر عربياً على الساحة الدولية.

إنَّ الثمن الباهظ الذي دفعه الفلسطيني، سواء في غزة أو في كل الضفة، يؤكّد على تهور حماس، والمجزرة الأخيرة أكدت من جانب آخر على التهور الإسرائيلي، وفقدان إسرائيل أي رؤية للسلام مع الفلسطينيين، بينما تتطلع الدولة الإسرائيلية إلى التطبيع مع كل الدول العربية، وخصوصاً السعودية، غير عابئة بأن ما تقوم به في غزة والضفة الغربية يؤثر على السلام العالمي.

إقرأ أيضاً: الحكومة البريطانية وحرب غزة

نعم، كبريطانية من أصل فلسطيني أعتز به، أريد قيادة سياسية جديدة، وأريد رجال دين يستندون إلى الضمير وليس إلى التأويل، وأريد إنهاء الصراع، وأؤمن إيماناً راسخاً بأن الطريق الوحيد نحو تحقيقه هو بالتكاتف العلني بين المنظمات اليهودية في الخارج والمنظمات الفلسطينية من المغتربين الفلسطينيين، نحو حوار علني يستند إلى الحقائق التاريخية والقرارت الدولية في صورة واضحة لرؤيتنا للمستقبل في دولتين مُتجاورتين لضمان السلام لكليهما. ومن المجدي استثمار الأصوات اليهودية التي تخشى على مستقبل ووجود الدولة الإسرائيلية، بعد أن تشوهت سمعتها في سقوط أخلاقي مدو، وتزايدت أعداد المهاجرين من مواطنيها.

أتوجه إلى القيادة السعودية بأن تضطلع بقيادة حركة السلام العالمية، وقيادة الدول العربية بما يضمن عدم التنازل عن الكرامة العربية وحقوق الإنسان الفلسطيني بالعيش بكرامة، وما الخطوات التي تنفذها القيادة السعودية للمضي قدماً نحو المستقبل إلا تأكيداً على بصيرة نافذة، وحرصاً على صون كرامة الإنسان، مهما كان وأينما كان.