حديثاً مرّت مناسبة عيد المعلم، وتذكرت أستاذي الذي رسم لنا خارطة طريق مريحة وسالكة نحو الإيمان، فقلت في نفسي لأكتب مقالاً لهذا الأنموذج الذي ندرَ هذه الأيام.
خارطة الطريق باتجاه الإيمان "وفق ما رسمَها لي أستاذي الأول، وأنا في بدء عهدي بالتعلّم".
في فتوتي، حينما بدأ عقلي ينضج شيئاً فشيئاً، عرفتُهُ أستاذاً محاضراً لبقاً في حلقات الدرس التي كانت تلمّنا في باحة أحد جوامع النجف؛ منبتي ومحتدي ومولدي، كان خطيباً مفوّهاً، ناصحاً مقنعاً ثرِيّ العقل والخلُق.
لم أسمعه يوماً يذكر اسم الله، أو يعظ عنه، بل كان يهدينا إلى مسلك لا وعورة فيه ولا عثرات توصلنا إلى الله الرؤوف الرحيم الحاني؛ لا الله القاسي القلب الذي يهيئ جهنم ويستخدم الزبانية ليقودوا ابن آدم إلى حتف حارقٍ ولهيب أبدي يصلى جمراً ووقْداً وسعيراً لا يخمد.
كان يرشدنا إلى طريق يقودنا إلى ذواتنا، كي نستنير ونحن نبترد من إيمان يثلج قلوبنا ويروينا يقيناً، فنشعر بهدأة وسكينة وراحة بال وسعادة، ونحسّ يقيناً بأن الله كلّه حنوٌ ورأفة وحنان يضاهي آلاف المرات حنوّ الوالدين على نسلهما.
كشف لنا الاستنارة الحكيمة، وأحسسنا أننا نعيش حالة من اليقظة لا نرى فيها حواجز وحدوداً وعراقيل، بحيث شعرنا أننا أحباب الله، وقد حبانا كل هذا الكون الجميل لتوسيع مداركنا العقلية، ولنرى بأم أعيننا مدى عظمة الإله القدير، وأننا غدونا جزءاً من هذا الفضاء الشاسع بهذه المعمورة الصغيرة التي نعيشها شعوباً وقبائل يجب أن تتحاب لتشيد وتعمّر لا أن تتخاصم وتبيد وتدمّر.
لم يزعم أنه يعرف إلهاً آخر مشاركاً في العظَمة أو تأليه بَشَرٍ يتصف بصفات الجبّار العظيم، احتراماً لعظمة الإله واعترافاً بقصورنا، لكنه يعرف الطريق إليه.
وأهم خرائط هذه الطريق، حسب تعاليم أستاذنا الشيخ، هي تلك التي تتبعها بعفوية ونواياً صادقة بعيدة عن أذى الناس وإخافتهم وإيقاع الفزع والخوف في نفوسهم.
تعلمت من معلمي عبارة كان يقولها دوماً، وهي: أن دينك يكمن في صمتك، وليس في وعظك؛ وإيمانك يكمن ويتجلى في سلوكك وليس دائماً في مسجدك أو حسينيتك أو أيّ معبد كان.
هذا الرجل ليس نبيّاً ولا مبعوثاً من السماء، بل هو معلم بسيط الهيئة والمظهر، يرتدي الجبّة وفوقها العِمة البيضاء البسيطة غير الثقيلة، لم تؤثر في عقله الراجح، فهو مرشد مستنير ومُنير لأن الإنسان عندما يستنير ويضيء عقله إيماناً صحيحاً بمصابيح واضحة كاشفة سيمتلك حتماً القدرة على أن يُنير الطريق السويّ لطلبته ومريديه.
تعلمت منه أن الشفقة هي أم الفضائل، فالمُشفق الواعظ محال أن يؤذي ويُخيف الناس ويرجف نفوسهم وعقولهم فيصيبهم الضعف والوهن والخوف من إله حانٍ رحيم بعباده.
إقرأ أيضاً: جائلٌ في شارع الرشيد البغدادي
ومن أهم ما تعلمت منه أن الألم يوحدنا جميعاً، وهو ليس خيارنا، وعلينا أن نحوّل هذه الآلام إلى تجربة نستفيد منها في مسار حياتنا دون أن ننعطف بها إلى مدارك البؤس واليأس والتعاسة من قبل بعض الواهنين الضعفاء.
تعلمت منه أن أصادق الكل، ولا أعادي أحداً مهما بلغت منه السوءات، وأن اعترف بأخطائي كبرتْ أم صغرت، واعتذر فيما لو أضرّت بالآخرين مثلما أبحث عن مبررات لأخطاء الآخرين فيما لو بدرتْ منهم قصداً أو جاءت بعفوية.
تعلمت منه أن أقلل من توقعاتي، فيدهشني كل جميل قد أصادفه في الحياة، وقد أتقبل كل قبيح يلوح لي في مسيرة العمر، لا تمسكاً به بل أحاول تجاوزه أو حتى تغييره إن كان بمستطاعي ذلك.
إقرأ أيضاً: أيها المعلمون احفظوا قدسية رسالتكم
وطوال مكوثي معه، لم يذكر ما كان شائعاً في محيطنا الديني بشأن تدوير الخطاب الديني التقليدي المتخم بالميثولوجيا والأعراف القبلية والشعبوية والسرديات المضطربة غير الخاضعة للتحقيق والتدقيق، مثلما كان يلوك بها بقية أقرانه ومجايليه من الوعاظ، الذين كانوا يرددون تلك الأدبيات المتداولة على ألسنة البقية الباقية ممن يسمونهم رجال الدين وطرحها على الملأ على علاّتها وغالبيتها سرديات غير مقنعة لذوي العقل الراجح.
مثل هؤلاء قد لا نجدهم اليوم إلاّ نادراً، وهم مَن يدلّنا على اليقين الديني السليم لا الاتباع العقائدي السقيم، وهذا هو الفرق بين العقل المرشد الناجز والعقل المتوّه العاجز.
التعليقات