هل قُدر للبنانيين أن يحافظوا على تشرذمهم كمجاميع شعبية، لا شعب واحد. وهل قُدِر للبنان أن يبقى عاجزاً، قاصراً وخاضعاً لمحراب دويلات الطوائف بأعلام. وإلى متى تدفع رياح التأزيم بأجنحة الأمل نحو مراسي اليأس!

سألت دبلوماسياً عربياً عمل سفيراً لبلاده في بيروت لأعوام عدة عن خلاصة تجربته وانطباعاته، فكان جوابه: "قابلت كل سياسيي لبنان، معظمهم لا تلتقي مصالحهم مع مصلحة الوطن وأولوياته... معاناة الناس في وادٍ وصراع المصالح في وادٍ آخر".

اليوم لبنان يعبر أسوأ المحطات وأخطرها في تاريخه، تداعيات تدهور الوضع الأمني جنوباً يهدد بانتقال الحرب الأهلية المستعرة على مواقع التواصل الاجتماعي من فضاء عالم الأثير إلى أزقة الفقر.

تلك لعبة مكشوفة والمجاميع الشعبية مصرة على تغافلها. فالتناحر على حدود تماس دويلات الطوائف "ضرورة" لشد العصب وتماسك أعمدة المنظومة.

لم يعد مهماً رغيف الخبز أو أقساط المدرسة وفواتير العلاج الدولارية وحتى انهيار دولة المؤسسات... المهم أنَّ دويلة "الزعيم" عامرة بالمصفقين.

يا له من وطن قادر على استيعاب تشتت مجاميعه، وجمع تناقضاته!

في زيارتي الأخيرة إلى لبنان أبلغني مسؤول عسكري كبير أن "الجيش قام بحملات أمنية في أقاصي جرود الشمال المخزنة بكل عتاد الفقر، البيوت متهالكة، والأثاث رث، ولكنها تحتضن كل أنواع الأسلحة باهظة الثمن".

ويضيف "في المقابل عام 2023 شهد افتتاح أكثر من 400 مطعم جديد... في لبنان أكثر من لبنان يا صديقي وفي كلا اللبنانين تغيب الطبقة الوسطى ركيزة الاستقرار".

في تقرير سابق للجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغربي آسيا (اسكوا)، صدر عام 2020، تحذر المنظمة الدولية من أنَّ الفقر متعدد الأبعاد يطال نحو 75 بالمئة من الشعب اللبناني، وأنه لو تبرع 10 بالمئة من أثرياء لبنان ما نسبته اثنين بالمئة من أموالهم سنوياً، يمكن هزيمة الفقر. ولسنا هنا في وارد الحديث عمن هم هوُلاء العشرة بالمئة!

الفجوة الاجتماعية التي يعيشها لبنان تفجرت حراكاً عفوياً جامعاً، متجاوزاً حدود دويلات الطوائف بأعلام، فكانت نقطة الأمل التي أطلت في 17 تشرين الأول (أكتوبر)، ومن دون الدخول في دهاليز هذا الحراك، إلا أنه أخطأ سياسياً - في تقديري - في شعار "كلن يعني كلن"، فكان أن حشر كل القوى السياسية في خانة العداء. استقال رئيس الوزراء السابق سعد الحريري حينذاك تحت الضغط، وعلينا ألا ننسى كيف توحدت كل تلك القوى خلف موقف واحد يطالب الحريري بعدم الخروج من الساحة، ليس حباً، إنَّما حرصاً على تماسك سبحة المنظومة!

اليوم، لبنان في قلب بؤرة التصعيد الاقليمي، ثمة قرار أميركي إيراني بألا يتجاوز العنف حدود التفاهم، مهما تعمقت نوعية الضربات المتبادلة. فما الذي جرى باختصار بين 17 تشرين الأول (أكتوبر) 2019، وما بعد السابع من تشرين الأول (أكتوبر) الماضي؟

• اقتنصت قوى الأمر الواقع، غياب المنهجية لدى الحراك الشعبي فواجهته بعمل ممنهج أدى إلى تشتت لوائح ما عرف باسم لوائح التغيريين، وبمعنى آخر، اختلف مرشحو التغيير على "الحقل" فكانت نتائج "البيدر" كما أفرزته لنا صناديق الانتخاب! وجاءت النتائج كمن يقول لناخبي وناخبات الدورة المقبلة: هذه ثمرة التغيير فهل تكررونها؟

• تعاني، ولا تزال، الطبقة السياسية من عزلة خليجية عربية، وهنا استغلت قوى الأمر الواقع انهيار مؤسسات الدولة لتعيد ترميم دويلاتها الطائفية.

وجاءت قضية ترسيم الحدود البحرية مع إسرائيل لتفتح هوة في جدار العزلة الدولية، واستفادت قوى الأمر الواقع أيضاً من تداعيات حرب غزة لتشّرع وجودها على الساحة الإقليمية، وتحولت المساعي الدولية لعزل الطبقة السياسية الحاكمة إلى مساع مع الطبقة نفسها لانتخاب رئيس للجمهورية!

من هنا ألا يحق لنا أن نتساءل: هل قُدِر للبنانيين أن يبقوا مجاميع بشرية في وطن الطوائف بأعلام؟

وهل استوعبت مراسي اليأس عصف رياح التغيير؟

في جعبة الأيام الكثير.