لم يبقَ أمام حكومة إقليم كردستان فرصة للنجاة من تبعات القرارات الأخيرة الصادرة عن المحكمة الاتحادية غير مطالبة رئيس جمهورية العراق بالتدخل من أجل إبطال تلك القرارات. ويبدو من خلال هذا الطلب الغريب أنَّ حكومة الاقليم لم تقرأ نصوص الدستور كما ينبغي، وإلا كان من المفروض أن تدقق جيداً بنص المادة 88 التي تقول إنَّ "القضاة مستقلون لا سلطان عليهم في قضائهم لغير القانون، ولا يجوز لأية سلطة التدخل في القضاء أو في شؤون العدالة"!
إنَّ القرارات المتتالية التي تصدرها المحكمة الاتحادية تهدف بجملتها إلى تصحيح العديد من الأخطاء الفظيعة التي وقعت فيها سلطة إقليم كردستان، والتي تشكل انتهاكاً صارخاً لنصوص الدستور العراقي الذي كان الكرد جزءاً من اللجنة التي صاغت نصوصه وصوت عليه الشعب الكردي في استفتاء عام. ولا ضير أن نعيد إلى الأذهان بعض تلك الانتهاكات والتي أشرنا إليها في مقالاتنا السابقة.
فالمادة 110 تقول: تختص السلطات الاتحادية بالاختصاصات الحصرية الاتية:
أولاً: رسم السياسة الخارجية والتمثيل الدبلوماسي والتفاوض بشأن المعاهدات والاتفاقيات الدولية وسياسات الاقتراض والتوقيع عليها وإبرامها ورسم السياسة الاقتصادية والتجارية الخارجية السيادية.
ثانياً: وضع سياسة الأمن الوطني وتنفيذها، بما في ذلك إنشاء قوات مسلحة وإدارتها لتأمين حماية وضمان أمن حدود العراق، والدفاع عنه.
ثالثاً: رسم السياسة المالية والجمركية، وتنظيم السياسة التجارية عبر حدود الأقاليم والمحافظات في العراق.
وهذه النصوص الثلاثة تم انتهاكها بالجملة من قبل حكومة إقليم كردستان. فعلى صعيد السياسة الخارجية والتمثيل الدبلوماسي، أنشأت حكومة الاقليم مكاتب لها في العديد من عواصم العالم مهمتها عقد علاقات سياسية ودبلوماسية مع تلك العواصم بمعزل عن وزارة الخارجية الاتحادية، وتحولت دائرة العلاقات الخارجية التابعة لحكومة الإقليم إلى بديل عن وزارة الخارجية في الدولة. وعمدت حكومة الإقليم إلى توقيع اتفاقات نفطية مع تركيا من دون علم أو موافقة الحكومة الاتحادية، بل أنها اقترضت قروضاً كبيرة من دون علم وزارة المالية الاتحادية!
والفقرة الثانية التي تحدد بأنَّ السلطة الاتحادية لها صلاحية حصرية بوضع سياسة الأمن الوطني، بما فيها إنشاء قوات مسلحة وإدارتها، فقد انتهكت حكومة الإقليم هذه الفقرة أيضاً عندما سمحت للقوات التركية بإنشاء عشرات القواعد العسكرية داخل أراضي الإقليم، اضافة إلى تشكيل قوات عسكرية تحت مسمى (جيش روز) وفوج آخر لشخص إيراني كردي معارض يدعى (حسين يزدان بنا)!
إقرأ أيضاً: حرية الرأي في كردستان العراق
أمَّا ما يتعلق بالفقرة ثالثاً من نفس المادة، والتي تنص على أنَّ السلطة الاتحادية لها صلاحية حصرية برسم السياسة المالية والجمركية وتنظيم السياسة التجارية عبر حدود الأقاليم والمحافظات في العراق، فإنَّ حكومة الاقليم لم تسمح طوال ثلاثين سنة الماضية من تدخل الحكومة الاتحادية في إدارة شؤون المعابر الحدودية بكردستان ولم تسلم ديناراً واحداً من عائداتها الجمركية إلى خزينة الدولة العراقيَّة.
تنص المادة 111 على أنَّ "النفط والغاز هو ملك كل الشعب العراقي في كل الأقاليم والمحافظات". لكنَّ حكومة الإقليم تعاملت مع الثروة النفطية والغازية في الإقليم كأنها ثروة خاصة، وصدرت النفط بشكل مستقل عن السلطة الاتحادية، واستحوذت على عائداتها، ووقعت عشرات العقود مع شركات أجنبية بمعزل عن الحكومة الاتحادية!
أمَّا المادة 112 التي تنص على:
أولاً: تقوم الحكومة الاتحادية بإدارة النفط والغاز المستخرج من الحقول الحالية مع حكومات الأقاليم والمحافظات المنتجة على أن توزع وارداتها بشكل منصف يتناسب مع التوزيع السكاني في جميع أنحاء البلاد.
ثانياً: تقوم الحكومة الاتحادية وحكومات الأقاليم والمحافظات المنتجة معاً برسم السياسات الاستراتيجية اللازمة لتطوير ثروة النفط والغاز، بما يحقق أعلى منفعة للشعب العراقي، معتمدة أحدث تقنيات مبادئ السوق وتشجيع الاستثمار.
هذه النصوص الدستورية انتهكت بشكل كامل في السنوات الماضية، وتحاول المحكمة العليا التي هي الجهة المعنية بمراقبة تنفيذ الدستور العراقي بنص الفقرة أولاً من المادة 93 إعادة تصحيحها.
إقرأ أيضاً: عاصمة كردستان بلا كهرباء!
إنَّ اللجوء إلى رئيس الجمهورية في هذا الموضوع لا يعدو سوى محاولة غير مجدية للهروب من تنفيذ قرارات المحكمة الاتحادية التي تقول المادة 94 بأن "قرارات المحكمة الاتحادية العليا باتة وملزمة للسلطات كافة". فرئيس الجمهورية ملزم بدوره بتنفيذ قرارات المحكمة باعتباره جزءاً من "السلطات كافة". صحيح أنَّ رئيس الجمهورية وفقاً للمادة 67 "يسهر على ضمان الالتزام بالدستور"، لكن حين يكون هناك انتهاك للدستور، لا يستطيع رئيس الجمهورية أن يتدخل في القضايا التي تحكم فيها السلطة القضائية التي لا سلطان عليها من أي طرف، فعلى العكس من رغبة حكومة الإقليم ومن يطالبون الرئيس بوقف تلك القرارات، فإنَّ رئيس الجمهورية ملزم بنص هذه المادة على ضمان الالتزام بالدستور وليس الدفاع عمن ينتهكون نصوصه.
لقد ارتكبت حكومة الإقليم طوال السنوات الماضية الكثير من الأخطاء السياسية والاقتصادية والإدارية، وحان الوقت لإعادة الأمور إلى نصابها الدستوري، فلم يعد هناك أي مجال أمام حكومة الإقليم للتهرب من مسؤولياتها تجاه الدولة ودستورها.
وفي الختام نتوقع أن تواصل المحكمة الاتحادية عملها من أجل تصحيح جميع الأخطاء السابقة، وستكون هناك قرارات أخرى لاحقة ضد حكومة الإقليم.
ولا عزاء للخاطئين.
التعليقات