إيلاف من لندن: في أحد شوارع دمشق، يسير شاب مولع بالبرمجيات، ومحب لموسيقى الروك، ومتابع لرياضة كرة السلة، مستمتعاً بإجازة صيفية يفترض أن يعود بعدها للالتحاق بالجامعة. يسمع فرامل توقف سيارة مسرعة بقربه، ويترجل منها مسلحون يعصبون عينيه، ويدفعون به بعنف إلى داخل السيارة التي تنطلق مسرعة نحو وجهة مجهولة... اسم الشاب أكرم، وهو مستعار اختاراه له لحمايته جابر بكر وأوغور أوميت أنغور مؤلفا الكتاب البحثي "الغولاك السوري: داخل معتقلات نظام الأسد".

سرعان ما سيتذوق أكرم مرّ الاعتقال في زنزانات نظام الأسد، حيث الداخل مفقود، والخارج منها سيكون حتماً في عداد من كتب له عمر جديد.

لن يمضي وقت قصير حتى يجد أكرم نفسه معلقًا داخل زنزانته، مكبل اليدين، يخضع لتعذيب وحشي. تسقط على ظهره سلسلة سميكة، وهو يصرخ من الألم. يستغيث... فيجيب معذبه سائلاً: "أتريد الحرية؟"، وتنحدر السلسلة ممزقة الهواء لتهبط على ظهره مجدداً. يصرخ أكرم من الألم، فيعود صوت المعذب قائلاً: "هاك حريتك!".


غلاف الكتاب

غولاك سوريا وحكم الأسدين
لكن ما تهمة أكرم؟ لقد أبدى إعجابه بمنشور ينتقد نظام الأسد على وسائل التواصل الاجتماعي، فكان مصيره الغولاك! يستمد كتاب "الغولاك السوري" اسمه من معسكرات الاعتقال السوفيتية المروعة، ويكشف عن مأساة المعتقلات والسجون في فترة حكم الأسدين الأب والابن في سوريا، والتي لم تكن أقل رعباً من تجارب الغولاك السوفيتي. وكان لعمليات الاعتقال التعسفية لنظام الأسد أصداء مرعبة إن في سوريا أو في الشرق الأوسط... إذ أضحت المعتقلات السمة الأساسية لتاريخ سوريا الحديث.

دهاليز مراكز الاعتقال
في ربيع عام 2011، انطلقت في سوريا ثورة شعبية ضد النظام، واجهها الأسد بقمع وعنف قل نظيرهما. اعتقلت قوات الأمن السورية مئات الآلاف من الأشخاص الذين أخضعوا للتعذيب والتصفية في مراكز الاعتقال. ومع ارتفاع أعداد المعتقلين السياسيين بشكل كبير بعد ثورة 2011، وسجن حوالى 300 ألف سوري، نفذ نظام الأسد عمليات إعدام جماعية بحق الآلاف في سجن صيدنايا العسكري الشهير، على بعد 30 كيلومترًا شمال دمشق. وتشير تقديرات منظمة العفو الدولية إلى أنه بين عامي 2011 و2015، تم إعدام حوالى 13 ألف شخص، من دون محاكمة.

خلف أسوار الدكتاتور
بعد أن نجح في الهرب إلى هولندا، قرر أكرم أن يروي قصته، ويطلع العالم على وحشية ما رآه واختبره في معتقلات التعذيب، لكن السرية الصارمة والرقابة التي تحيط بسجون الأسد جعلت البحث فيه مستحيلًا حتى الآن، بحسب ما جاء في تقديم الكتاب.
تلف مراكز الاعتقال تلك سرية تامة ورقابة مطلقة تحجب خروج أي معلومات إلى الملأ، تجنباً لجذب الأنظار إلى هول ما يحصل خلف أسوارها، حيث يخضع المعتقلون لتعذيب يومي. يعم الفساد أجهزة الاستخبارات التي تدير أسوأ المعتقلات في سوريا. ويتعرض معظم السجناء للتعذيب بشكل يومي، إن بالصدمات الكهربائية، أو بالضرب بواسطة أنابيب معدنية وعصي خشبية. كما يتعرضون للإغراق والحرق والخنق والاغتصاب. يعاني السجناء المعذبون من كسور في الأطراف وإصابات أخرى غالباً ما تؤدي إلى الإعاقة الدائمة أو الموت.


أهالي المفقودين اللبنانيين وقصص مأساوية عن فقدان أحبائهم. الصورة عن "أمنستي"

استراتيجية التخويف
يستغل نظام الأسد انحسار اهتمام وسائل الإعلام الدولية بالثورة السورية راهناً، ليواصل ممارسة القمع الوحشي بحق معارضيه، أو من يشتبه بأنهم يعارضونه، وهي وسيلة تخويف أساسية يرتكز عليها النظام ليبقى مطبقاً على السلطة. ولا يقتصر دور المعتقلات على معاقبة المذنبين فقط، بل يبتغي النظام السوري من هذه الاعتقالات القضاء على أي معارضة سياسية.

ازدحام ولا هواء
يسرد الكتاب مجموعة من الشهادات، ويستند إلى مصادر تشمل مقابلات وتقارير ومذكرات ورسوم وخرائط وصور، بالاضافة الى منشورات في وسائل التواصل الاجتماعي.

ويعاني السجناء من ظروف احتجاز صعبة وتعذيب يومي يتجاوز الوصف. يبلغ الازدحام في المعتقلات مستويات مخيفة، حيث يزج عدد كبير من السجناء ضمن مساحة ضيقة لا تتجاوز الأربعين سنتيمتراً مربعاً لكل سجين، وهي مساحة صغيرة جدًا بكل المقاييس. أضف إلى ذلك النقص في التهوئة، إذ تقل فتحات الهواء داخل الزنزانة، ما يؤدي إلى وفاة العديد من المعتقلين.

شهادات من الجحيم
نجح مؤلفا الكتاب بإجراء مقابلات مع أكثر من مئة سجين ناج من الجحيم، بالإضافة إلى أمنيين وحراس عملوا في السجن سابقاً، وشهود عيان. كذلك استند المؤلفان إلى مواد أرشيفية كثيرة، خلصت إلى نتائج صادمة، عرضناها آنفاً. ويقدم المؤلفان أدلة قوية تثبت أن سجون سورية هي الأسوأ في كل الدول العربية.

حكم الأسدين
تعود أصول هذا النظام القمعي إلى الفترة العثمانية، وتم تطويره في فترة الانتداب الفرنسي بغرض التوظيف السياسي. تفاقمت قسوة النظام في ظل حكم حزب البعث، وازدادت سوءًا بسطوة سلالة الأسد التي تسلمت زمام الأمور في البلاد ابتداءً من مطلع سبعينيات القرن الماضي، تحت حكم الأسد الأب. واستمر الابن والوريث بشار في التفنن بتعزيز أشكال العنف بشكل مخيف.

يوضح بيكر وأونغور كيفية تقسيم إدارة النظام بين الأجهزة الاستخباراتية والعسكرية والمدنية. يستخدم نظام الأسد هذا التقسيم لإبقاء الأجهزة في منافسة مستمرة، بما يضمن له الحفاظ على السلطة. أدوات النظام تعمل على تعذيب السجناء لإثبات ولائهم... بشدة أيضاً!

منظومة شيطانية
الكتاب يفتح أبواب منظومة المخابرات السورية بأسلوب مثير، كاشفًا عن تشعباتها المعقدة وأوكارها الخفية التي يُديرها ضباط الارتباط من خلف مكاتبهم في القصر الجمهوري. يُفكك الكتاب تفاصيل آلية عمل ضباط الصف في فروع الأمن، مُسلطًا الضوء على دورهم الحاسم في تحديد مصائر المعتقلين والتحكم الكامل بحياتهم. كل هذا يحدث في إطار خطط ترسمها عقول شيطانية متخصصة في القمع.

في لمحة أخرى، يكشف الكتاب عن فنون التلاعب بالهويات وتزويرها، مُسلطًا الضوء على تغيير حروف اسم المعتقل بهدف إخفاء هويته وتمويه وجوده، وتخصيص أرقام للمعتقلين، ما يجعل عملية البحث عنهم من قبل ذويهم أشدّ عذاباً وقسوة من عذابات المعتقل نفسه.

بينما يستمر القمع والتعذيب، يبين بيكر وأونغور أنه من المستبعد تحقيق أي تغيير في النظام من دون تدخل عسكري غربي. يتساءلان عن مصير الأرض المظلمة والظالمة تحت حكم آل الأسد، مع تزايد التحديات واستمرار الفظائع في معتقلات التعذيب أو ما يصفه المؤلفان بأنه "جحيم على الأرض".

الكتاب يصوّر الضحايا والجناة في علاقاتهم المتبادلة داخل أكثر السجون رعباً في العالم. ويعدّ الكتاب وثيقة تاريخية غاية في الأهمية عن سجون الأسد ومعسكرات اعتقاله.

لقد كان أكرم محظوظاً نسبياً، إذ أمضى ثلاثة أشهر فقط في قبضة المخابرات في سجن مطار المزة العسكري "حيث لا تشرق الشمس"، جنوب غربي مدينة دمشق، لينجو بعدها من محنته هارباً إلى هولندا.

* أوغور أوميت أنجور أستاذ دراسات الهولوكوست والإبادة الجماعية في جامعة أمستردام ومعهد (NIOD)، نشر كتباً ومقالات حول جوانب مختلفة من الإبادة الجماعية، بما فيها ذلك إبادة الأرمن

** جابر بكر باحث وصانع أفلام وثائقيّة وروائي وناشط حقوقي. اعتقل بين عامَي 2002 و2004 في سجنِ صيدنايا العسكري في سوريا