بعد أن كرَّر الوالدُ تلاوة قصة الخريطة المرسومة على الجريدة لأولاده، شارحاً لهم كيف أعادَ الطفلُ بكل سهولة تشكيل الصورة الممزقة، وبما أن مشاهِدَ القصف والتدمير والتدخلات الدولية واستقدام المرتزقة من دول العالم ومجيء الجيوش الأجنبية والاقليمية كانت كفيلة بتعريف أولاده وكل أبناء وبنات البلد بالمناطق النائية والمنسية من بلدهم وكأنَّهم في درسٍ دائمٍ لمادة الجغرافيا، وبما أنه سبق للولَدِ أن سَمِعَ بقصة المواطن المتضوِّر سين من جمهورية سينوستان، ذلك الذي أزاحَ الصحن الموضوعَ على الطاولةِ جانباً وقص الخارطة التي في أسفلها بالسكين وأكلها من شدة الجوع، لذا باتت الخرائط تثير انتباه الولد أينما صادفها أو لمحها في الدروب أو الأماكن التي يزورها.
ولتلك الأسباب مجتمعةً، فعندما لاحظَ الولدُ في الصفِ مجسَّم الكرة الأرضية موضوعاً على رفٍ في الزاوية اليمنى من الجدار الذي ثبتت عليه السبورة، راح يتأملها في شرودٍ ملحوظٍ ما لفت انتباهَ المعلِّم في درس التعارف ذلك اليومِ بين الاستاذ والطلبة في بلد اللجوء.
لم يغب عن بال الاستاذ مشهدَ الولدِ محدِّقاً، غارقاً، مسافراً في ذلك المجسّم الكروي، ولكنه استمر في تقديم العرض عن بلده وأهم التحولات التي جرت فيه، وكيف تجاوز مواطنوه الصعوبات وانتقلوا مع الدولة من مرحلة قبول المساعدة إلى مرحلة تقديم العون للآخرين، وكيف وصل حال البلدِ إلى المستوى الذي يسمح له باستقبال هذا العدد الكبير من طالبي اللجوء من كل دول العالم.
وبعد تقديم ذلك الموجز التعريفي ببلده، بدأ الاستاذُ يسأل الطلبة عن بلدانهم وأحوالها، وما حصل لها، متنقلاً بالاستفسار منهم واحداً تلو الآخر، حيث جاوب كل واحدٍ منهم على طريقته، وقدَّم كل طالبٍ منهم ملخصاً شفهياً عن بلده وما جرى له.
وعندما وصل الدور إلى ذلك الطالب الصامت الذي سبق للمعلم أن رآه محتضناً مجسَّم الكرة الأرضية بأنظاره، قال له الأستاذ: وأنت أيها الطالب مِن أي بلدٍ أنت؟
لم ينطق الطالب الذي أبت الكلمات الخروج من الحنجرة المقهورة على ما آل إليه وضع بلده، ولكنه بدلاً من الإجابة بالكلام رفع الطالب صورةً مقتطعة الأطراف وقال من هنا!
قال الأستاذ ولماذا هي مهترئة هكذا؟
إقرأ أيضاً: التوافق على النكوص
قال الطالب لأن كلَّ جارٍ قرَّر أن يقتطع جزءًا منها لصالحه من دون التفكير بمصالح القاطنين ضمن هذه الجغرافيا، لذا اهترأت تضاريسها هكذا، وتضاءل حجمها إلى هذا القدر الذي تراه.
وهل كان لبلدك اسم في الأمم المتحدة من قبل، قال الأستاذ؟
أجاب الطالب: نعم كان اسمها سوريا، أما الآن فهي بصورة وحجم هذه الخرقة!
وكيف تآكلت خارطتها وتقلَّصت مساحتها إلى هذا الحد؟
أجاب الطالب: إن ملامح الاستحواذ على مساحاتها، والاقتطاع منها، والانتشار داخلها من قِبل الجشعين بدأت في عام 2013 من خلال الاستخبارات والعملاء المحليين التابعين لهم، ولكن منذ علم 2016 بدأ كل طرفٍ منهم بقصقصة شيءٍ من خارطتها مرةً بدعوى ملاحقة الإرهابيين الذين يُشكلون خطراً عليهم، ومرةً بذريعة تجفيف مستنقعات الإرهاب فيها!
إقرأ أيضاً: لو كان الداعي صادقاً
فدولة عزرائيل من جهتها قرَّرت أن تدخل سوريا بعرض 40 كيلو متراً بدعوى حماية حدودها وأمنها الداخلي مما تبقى من أنصار وعناصر حزب الله والكتائب الشيعية التابعة لإيران.
ودولة الرافدين قرَّرت هي الأخرى أن تدخل سوريا بعمق 40 كيلو متراً بدعوى حماية أمن بلدها من عناصر تنظيم داعش الإرهابي.
ومملكة البحر الحي كذلك الأمر قررت أن تدخل إلى سوريا مسافة عرض 40 كيلو متر بدعوى حفظ أمنها من العصابات المسلحة ومهربي المخدرات المنتشرين على طول حدودها في الجانب السوري.
أما سلطنة فينيق فبما أنها غير قادرة على إرسال جنودها ونشر نقاط الحراسة داخل سوريا، لذا ينوب عنها في التدخل نحو عمق البلد تلك العشائر المنتشرة على الحدود المشتركة مع سورية، من أجل ضمان أمنها وحماية حدودها من القراصنة الموجودين في سورية.
إقرأ أيضاً: حذاقة الهيئة واستهتار الحُماة
وهكذا هو حال الجارة الفارعة الطول التي دخلت أربعين كيلو متراً في العديد من المناطق السورية، وما تزال تعمل جاهدةً بكل السبل السياسية والاستخباراتية والعسكرية لاستكمال انتشارها داخل كل الشريط الحدودي مع سوريا بدعوى سلامة أراضيها وحماية أمنها الداخلي من عناصر تنظيمٍ إرهابي، الذين قد يفكر واحدهم يوماً من الأيام القيام بعمليات تخريبية داخل أراضيها.
وما تراه بين يديَّ الآن يا استاذ هو كل ما تبقى من سورية بعد استقطاع مساحاتٍ هائلة من تضاريسها، مِن قبل الجيران الذين كل واحدٍ منهم حاول جاهداً أن يحافظ على أمن بلاده، وسلامة خارطته، ولكن على حساب أمن السوريين وتمزيق خارطتهم.
التعليقات