أن تطالب ملةً ما أو جمهوراً محدداً بشيء جدي اليوم، معناه أنك تهيئ المناخ والأرضية لما ترسم له في الغد، وأن تدعو إلى شيء غير معتاد وجديد وطارئ يعني أن رغبة التغيير التي بادرت بها قولاً لن تقتصر على ما تتلفظ به. والخبر المفرح الذي تحمله لمن تتوجه بكلماتك إليهم ينبغي أن يستدرج عواطف الناس في الشارع، ليصلوا مع النبأ إلى شبه قناعة بأنَّ ما تقوله سيرافقه تحرك موازٍ على الأرض، أما أن تدعو إلى الخير وما تزال تلوّح بسيف التهديد، فهذا لا يمت للبر بصلة، إنما هو تحايل مقصود ولكنه ملتحف برداء الإخلاص. والوعود التي لا يلمس الناس أثرها الملموس أشبه بالرعود التي لا تجد لها أي صدى بعد كل صخبها على الأديم العطش لمبادرات الصلح والوئام.

إذ يُقال في بلاد الشام "لو بدها تشتي (أي تمطر) كانت غيّمت"، وهذا المثل يتم تداوله بين الفلاحين في سورية بكثرة. علامات قدوم الأمطار التي لا يخطئها أي قروي هي مجيء الغيوم الحبلى بقطرات ينتظرها الفلاح. ومن دون غيوم مكتنزة، لن يكون هناك مطر، وإن لم تمطر، فلا أمل في مواسم الخير المنتظرة. والمقصد هنا أن ما يتم تداوله عن رغبة زعيم حزب الحركة القومية اليميني، دولت بهجلي، لو كان صحيحاً، أو لو كان جاداً في طرحه هذا إذا ما كان هو أصلاً صاحب الطرح، لكان عليه قبل كل شيء أن يقوم بخطوات عملية من شأنها أن تمهد الأرضية للأمل الذي فُقد أثره منذ سنين.

ولسان حال الملهوفين لإحلال السلام وتلمّس الأمان والطمأنينة يقول: لو كان السيد بهجلي يعني ما يتفوه به ولا يُطلق بالونات اختبار للداخل أو للخارج، باعتبار أنه حليف الحزب الحاكم وجزء مهم من السلطة التنفيذية في تركيا، لبدأ قبل عروضه الإعلامية بخطوات بسيطة جداً كان من شأنها أن تُشعر عامة الكرد، وليس أنصار أوجلان وحدهم، بأن ثمة تغييرات حقيقية في السياسة التركية فيما يخص تعاطيها مع الكرد تلوح في الأفق، وذلك على الأقل في المباشرة بإصدار الأوامر لأدواتهم داخل سوريا بأن يغيروا من طريقة تعاملهم العدواني مع الكرد السوريين في عفرين ورأس العين وتل أبيض. بينما العكس هو الذي يتم الاستمرار به على أرض الواقع، بالتزامن مع تصريحات زعيم الحركة القومية، إذ تؤكد التقارير الحقوقية وشهادات الأهالي أنَّ وتيرة الانتهاكات ازدادت بدلاً من أن تنخفض. فأيّ تغيير مرجو إذاً طالما أن الأدوات ما تزال تمارس كل الضغوطات على المجتمع الكردي في الجوار منذ عام 2018؟

وفقاً لعشرات المنظمات الحقوقية المحلية والدولية، فإنَّ أكثر الفصائل العسكرية المنتهكة لحقوق الإنسان في المناطق الكردية بسورية هي التي استقبلها زعيم حزب الحركة القومية التركي، دولت بهجلي. على رأس تلك الفصائل يأتي لواء السلطان سليمان شاه الذي يقوده "محمد جاسم" الملقب بـ"أبو عمشة" وفرقة الحمزة التي يتزعمها "سيف بولات"، حيث جرى استقبال زعماء تلك الفصائل في مقر الحزب بالعاصمة التركية أنقرة، بل وتم تكريمهما من قبل السيد بهجلي! هذا يعني أنه كان راضياً تمام الرضا طوال السنوات الفائتة عن كل ممارسات الفصيلين المذكورين بحق الكرد، الذين يحاول السيد بهجلي استمالة إخوتهم في الداخل التركي بتصريحاته الإعلامية.

إقرأ أيضاً: في مديح العدو

وفي هذا السياق، سبق لمنظمة "هيومن رايتس ووتش" أن صرحت بأن صوراً نشرتها وسائل إعلام تركية أظهرت "ترحيباً تركياً حاراً" بزعيمي فصيلين يتهمان بارتكاب "جرائم خطيرة". وأضاف تقرير المنظمة أن سيف أبو بكر ومحمد الجاسم متهمان بارتكاب انتهاكات كبيرة والإشراف على انتهاكات ارتكبها فصيلاهما، أي "فرقة الحمزة" (الحمزات) و"فرقة السلطان سليمان شاه" (العمشات). وتشمل التهم الموجهة للفصائل المذكورة: "القتل خارج القانون، والاختطاف، والتعذيب، والابتزاز، والعنف الجنسي، ومصادرة ممتلكات"، حسب المنظمة الحقوقية، فإن زعيمي الفصيلين يخضعان لعقوبات أميركية على خلفية هذه التهم.

وفي الإطار ذاته، يشير الكاتب والباحث السياسي السوري خليل المقداد إلى أنَّ التشكيلات المذكورة أعلاه في التقرير، إضافة لفيلق الشام وغيرها من التشكيلات في الشمال السوري، تتبع الجيش وجهاز المخابرات التركية بشكل مباشر. ووفقاً للمقداد وعشرات المراقبين والنشطاء العاملين في الشريط السوري الملاصق لتركيا، فإنَّ كل ما يجري في تلك البقعة يتم بإشراف مباشر من ضباط وعناصر الجهاز التركي.

إقرأ أيضاً: لأجل هذا خرجنا

بناءً على ذلك، فلو كانت التصريحات المنطلقة بحماسة ووتيرة عالية هذه الفترة على لسان السيد بهجلي تحمل شيئاً من المصداقية والجدية، ولو كانت فعلاً هناك نية حقيقية لفتح صفحة جديدة مع الكرد بوجه عام وكرد تركيا بوجه خاص، لكانت الأجهزة الأمنية قد بادرت، قبل كل شيء، ومن أجل ترطيب الأجواء وتمهيد الشارع الكردي للتقارب المرجو، إلى إصدار الأوامر لأدواتها بوقف الانتهاكات نهائياً، وأجبرتهم على تغيير أسلوب تعاملهم "النتن" مع الكرد السوريين. وذلك كان يجب أن يحدث قبل أن يوجه السيد بهجلي خطابه الإعلامي في الداخل التركي إلى أنصار ديمرتاش، وكذلك مريدي أوجلان المحتجز في إيمرالي.