منذ سنوات، تتصاعد التوترات بين إثيوبيا ومصر والسودان (الشمالي والجنوبي) على خلفية بناء سد النهضة الإثيوبي، المشروع الضخم الذي يهدد بتغيير موازين القوى في منطقة حوض النيل ويدفع بالبلدان الأربعة إلى حافة صراع غير مسبوق. يبلغ ارتفاع سد النهضة حوالي 145 مترًا وتكلفته نحو 4.8 مليار دولار، ويهدف لتوليد نحو 6,000 ميغاوات من الكهرباء. لكن السد يمثل تهديداً وجودياً لدول المصب، خاصة مصر، التي تعتمد على نهر النيل لتوفير 97 بالمئة من احتياجاتها المائية. المشروع يجسد احتكار المياه من قِبل دولة واحدة، وهو ما قد يدفع مصر والسودان الشمالي إلى اللجوء إلى خيارات عسكرية للحفاظ على استقرارهما المائي والأمني.
وفقاً للتقديرات، يتجاوز عدد سكان مصر حالياً 104 ملايين نسمة، ومن المتوقع أن يرتفع إلى 160 مليوناً بحلول عام 2050، ما يزيد من استهلاكها المائي إلى حوالي 114 مليار متر مكعب سنوياً. لكن مصر تحصل حالياً على حوالي 55.5 مليار متر مكعب فقط من مياه النيل، ما يعني فجوة مائية هائلة قد تتفاقم مع بدء تشغيل السد بشكل كامل…!
أما في السودان الشمالي، الذي يعتمد على النيل بنسبة تتراوح بين 70 بالمئة و80 بالمئة لتلبية احتياجاته، فإن السد يثير مخاوف من انخفاض تدفق المياه وتضرر بنيته التحتية الهشة. ويلعب السودان الشمالي دوراً محورياً في الأزمة، إذ إنه يقع مباشرة بين مصر وإثيوبيا، وهو أحد أكثر الأطراف تأثراً بمسار النيل وتدفقات المياه. ويعاني السودان من بنية تحتية هشة تجعل من الصعب مواجهة أي انخفاض مفاجئ في تدفق المياه. وفي ظل التداعيات المتوقعة لسد النهضة، سيكون السودان الشمالي في موقع حرج، حيث سيتعين عليه الموازنة بين مصالحه الوطنية والحاجة للحفاظ على علاقة استراتيجية مع مصر. وتشير التقارير إلى أن السودان قد يفقد نسبة كبيرة من أراضيه الزراعية إذا انخفض منسوب المياه، مما يهدد استقراره الاجتماعي والاقتصادي.
أما دولة جنوب السودان، وهي أحدث الدول الأعضاء في منطقة حوض النيل، فتضيف تعقيداً إضافياً لهذه الأزمة. وتعتمد دولة جنوب السودان على النيل الأبيض في توفير معظم احتياجاتها المائية، لكنها لم تستقر بعد على سياسة واضحة تجاه مشروع سد النهضة. وعلى الرغم من أن جنوب السودان لم تتخذ موقفاً صريحاً ضد السد، إلا أن توترات المياه قد تدفعها للانحياز إلى جانب السودان الشمالي ومصر، خاصة في حال استمرار تفاقم التأثيرات السلبية للسد على الموارد المائية لدول المصب. وهناك مؤشرات على أن جنوب السودان قد تكون منفتحة على التحالف مع جيرانها الشماليين، خاصة إذا شعرت أن تدفقات المياه إلى أراضيها مهددة بفعل سيطرة إثيوبيا على تدفق النيل الأزرق.
ومع اكتمال مراحل ملء السد، بدأت مصر والسودان الشمالي يواجهان تأثيرات ملموسة؛ حيث أدى انخفاض منسوب المياه في بحيرة ناصر خلال سنوات الملء الأولى إلى تآكل الأرض الزراعية وانخفاض الإنتاجية، مما يهدد الأمن الغذائي ويزيد من معدلات البطالة. وهذه التأثيرات لا تهدد فقط معيشة الملايين من سكان مصر والسودان، بل تمس أيضاً الأمن القومي للدولتين. وفي ظل فشل المفاوضات المتكررة، فإن احتمالات الحرب قد تصبح أقرب إلى الواقع، خاصة إذا واصلت إثيوبيا تجاهل مطالب دول المصب باتفاقية ملزمة تحكم عملية ملء وتشغيل السد.
إقرأ أيضاً: اليورانيوم: الكنز المدفون في صحراء النيجر
من منظور استشرافي، فإن الاستمرار في احتكار إثيوبيا لمياه النيل قد يقود إلى عواقب كارثية. مصر، التي تقع في واحدة من أكثر المناطق جفافاً في العالم، قد تجد نفسها مضطرة للتوجه إلى إجراءات تصعيدية للحفاظ على نصيبها من المياه، حيث تُقدّر خسائرها الزراعية بمليارات الدولارات سنوياً إذا انخفض نصيبها من النيل بشكل ملحوظ. وتشير الدراسات إلى أن انخفاضاً بنسبة 10 بالمئة في تدفق النيل إلى مصر سيؤدي إلى خسارة أكثر من 2 مليون فدان من الأراضي الزراعية، ما يهدد ملايين المزارعين بالجوع والنزوح. السودان الشمالي، بدوره، يعاني من عدم استقرار سياسي واقتصادي، وقد تكون تأثيرات السد كارثية، مما قد يدفعه هو الآخر للانخراط في صراع للحفاظ على حقوقه المائية.
أما جنوب السودان، فقد يواجه تحديات إضافية تتعلق بمسار المياه بعد اكتمال السد، مما قد يدفعه نحو تحالفات غير متوقعة، خاصة إذا أدرك قادة جنوب السودان أن دعمهم للسودان الشمالي ومصر قد يساهم في الحصول على التنازلات المطلوبة من إثيوبيا لضمان استقرار تدفقات المياه. في ظل التحديات التنموية التي يواجهها جنوب السودان، فإن أي تهديد لتدفق النيل الأبيض قد يدفعه للضغط على إثيوبيا لعدم التسبب في أضرار إضافية لدول المصب.
إقرأ أيضاً: الصين ستلتهم تايوان... عاجلاً أم آجلاً
في حالة نشوب حرب على المياه، فإن النزاع لن يقتصر على دول حوض النيل فقط، بل قد يمتد إلى دول أخرى تتدخل لصالح حلفائها أو لمصالحها في المنطقة، مما يزيد من احتمالية وقوع صراع إقليمي واسع النطاق. ووفقاً لبعض التقارير، فإن دولاً أخرى قد تقدم دعماً عسكرياً أو لوجستياً إذا تصاعد النزاع، مما يعني أن حرب المياه قد تكون مقدمة لنزاع يمتد ليشمل مناطق أخرى في القارة الأفريقية.
رغم المحاولات الدولية للوساطة، لا تزال إثيوبيا تصر على ملء السد وتعتبره حقاً سيادياً، متجاهلة مخاوف مصر والسودان..! وترى إثيوبيا أن السد هو مفتاح نهضتها الاقتصادية وحل لأزمة الطاقة التي تعاني منها، لكنها تتجاهل الأضرار الهائلة التي ستلحق بدول المصب. وفي الوقت الذي تحاول فيه القاهرة الضغط دولياً لإيقاف ملء السد أو الحد من تداعياته، تتزايد التحديات الداخلية في مصر والسودان نتيجة الاحتياجات المتزايدة للمياه، ما يجعل الخيار العسكري أكثر واقعية في حال استمرار الجمود.
إقرأ أيضاً: السيناريوهات السياسية في ليبيا
ختاماً، إذا استمرت إثيوبيا في احتكار موارد النيل دون اتفاق عادل وملزم، فإن المنطقة قد تكون على وشك الدخول في مرحلة من الاضطرابات قد تمتد لتشمل نطاقاً أوسع من منطقة حوض النيل. إن جنوب السودان، رغم أنه لم يتخذ موقفاً حاسماً حتى الآن، قد يجد نفسه مضطراً لاتخاذ موقف حاسم ينحاز فيه إلى دول المصب، وذلك للحفاظ على استقراره المائي والاقتصادي. وعلى المجتمع الدولي أن يتحرك بشكل جاد لمنع وقوع كارثة وشيكة تهدد حياة الملايين، خاصة وأن المياه أصبحت أحد أبرز أسباب النزاعات المستقبلية، وقد تكون شرارة لإشعال صراعات مدمرة لا تقتصر على حوض النيل وحده.
التعليقات