تنامي الصراع الكوردي الكوردي
بعد أن حسمت المحكمة الاتحادية العليا بالأكثرية، وهي أعلى سلطة قضائية في العراق في يوم الأربعاء الموافق 21 شباط (فبراير) 2024 خلافاً بين الأخوة الأعداء الديمقراطي الكوردستاني والاتحاد الوطني لصالح الأخير، رفض الحزب الديمقراطي الكوردستاني قرار المحكمة(*)، واعتبره خرقاً لمبادئ الدستور الأساسية من جهة، ولقانون انتخاب برلمان كوردستان الذي جرى العمل به مدة تزيد عن 30 سنة، والتي تم إجراء خمس دورات انتخابية بموجبه من جهة ثانية.
وبعد معركة قضائية وسياسية حامية حول قانون الانتخابات وعدد دوائرها والجهة المخوّلة بالإشراف عليها، تم تحديد العشرين من شهر تشرين الأول (أكتوبر) موعداً جديداً لإجراء الاستحقاق الانتخابي، الذي كان يفترض إجراؤه سنة 2022 مع انتهاء الفترة القانونية للبرلمان الكوردستاني، لكن الصراعات الحزبية بين الأخوة الأعداء (الديمقراطي والاتحاد) حالت دون ذلك وأدّت إلى تأجيل الاستحقاق أربع مرات متتالية.
حكم وراثي عائلي
إنَّ غياب الديمقراطية، واستهتار السلطة الوراثية الشمولية وعجزها في العقود الماضية عن إيقاف تدهور الأوضاع الاجتماعية والمعيشية والحياتية لشعب كوردستان مقابل استمرار الثراء الفاحش لفئات وقيادات حزبية محدودة ولحيتان فسادها، إضافة إلى استحواذها على موارد الإقليم ووسائل الإعلام وقوات الأمن، أسهم كل ذلك في خلق مناخ ملائم لتثبيت حكم وراثي عائلي لا يقبلان أن يزاحمهما أو ينافسهما أحد على سدة الحكم. ومع مرور الزمن، انقسم الإقليم إلى إدارتين منقسمتين بين أربيل والسليمانية مالياً وعسكرياً وإدارياً، وبدعم من الجهات الخارجية والإقليمية التي نجحت بامتياز في تحويل الإقليم إلى حديقة أمامية لها واستطاعت أن تحدد مستقبل الإقليم بالضد من مصالح الشعب الكوردستاني.
التغيير عبر صناديق الاقتراع مستحيل تحقيقه
تراجعت في السنوات الأخيرة مشاركة الناخب الكوردستاني في العملية الانتخابية نتيجة الاعتقاد السائد بأن التغيير عبر صناديق الاقتراع أمر مستحيل تحقيقه على الأقل في الأمد المنظور، وخاصة بعد أن فشلت الأحزاب المعارضة المتكونة من قوى غير متجانسة أصلاً لإيجاد آلية حقيقية لإحداث التغيير الحقيقي رغم النقمة الشعبية التي بلغت ذروتها لا سيما مع فشل السلطة في إدارة الإقليم وتوفير متطلبات المواطنين.
ويرى مراقبون أنَّ استحواذ السلطة من قبل الحزبين الحاكمين خلق ساحة غير متكافئة، وحد من إمكانية تحقيق أي تغيير حقيقي، وهي أمور يمكن التنبؤ بها بدرجة كبيرة، وقد تم رصدها خلال الدورات الانتخابية السابقة، فمنذ عام 1992 ولحد كتابة هذه المقالة أصبح حكم الإقليم بيد الحزبين الحاكمين بعد أن احتكرا إدارة مؤسسات الإقليم والاقتصاد والإعلام وقوات الأمن.
ومن هذا المنطلق تؤكد قيادات الحزبين الحاكمين في جميع المناسبات بأن قوتهما ونفوذهما (ثابتة) ولا تتغير، وحتى إذا خسرا في الانتخابات لا أحد يستطيع إزاحتهما عن السلطة.
المعارضة الفاشلة والمتشتتة
إنَّ تجارب السنوات الماضية تقول لنا إنَّ المعارضة الكوردية لم تهدف إلى الوصول إلى السلطة، بل كان هدفها الاقتراب من السلطة ومشاركتها في الحكم والانجرار وراء المناصب والمكاسب والمصالح الحزبية الضيقة.
إن أزمة المعارضة الكوردستانية تجلّت في استبداد قياداتها والانفراد بقراراتها وفقدان استقلاليتها وتبعيتها للسلطة بحجج واهية، وعليه فإن كل هذه الإخفاقات والتراجعات جعلت منها صورة مصغرة ومماثلة للحزبين الحاكمين، والتي أدت في الأخير إلى اضمحلالها وفشلها في تحقيق أهدافها وانتهاء دورها وفقدان جمهورها بعد أن تحولت قياداتها إلى عقبة في طريق التغيير الحقيقي.
على سبيل المثال لا الحصر، أصبحت حركة التغيير المعارضة المعروفة كوردياً باسم بزوتنه وهى گوران (**) ثاني أكبر حزب في البرلمان بعد الحزب الديمقراطي الكوردستاني في الإقليم بعد أن فازت بـ 25 مقعداً من إجمالي 111 مقعداً في برلمان الإقليم في 25 تموز (يوليو) 2009، وفي انتخابات 2013 حصلت على 24 مقعداً، وبعد مشاركتها في التشكيلة الثامنة لحكومة إقليم كوردستان برئاسة نيجيرفان بارزاني وتسلمها عدداً من المناصب الوزارية ورئاسة البرلمان، بدأت شعبيتها في التراجع الواضح وقد تجلّى ذلك عندما فقدت نصف مقاعدها في البرلمان في انتخابات إقليم كوردستان في 2018، وعليه تحولت من حركة معارضة لها ثقلها إلى حزب مشارك وتابع للسلطة التي كانت تتهمها قبل إجراء الانتخابات بالفساد والاستبداد. وهكذا لم تلتزم الحركة بوعوداتها لبناء الوطن ومحاربة الفساد والتوزيع العادل للثروات وبناء البنية التحتية وإصلاح النظام السياسي كما كانت تدعي.
ولهذه الأسباب ولأسباب كثيرة أخرى، تراجعت الحركة بشكل كبير في مؤشر شعبيتها، وبدأت خلافاتها الداخلية تظهر للعلن، حيث استقال وغادر عدد كبير من قواعدها وكوادرها القيادية الحركة وانضم قسم منهم إلى أحزاب وجماعات معارضة جديدة، وقسم منهم شكلوا جماعات معارضة جديدة. وهكذا حطمت الحركة إطار صورتها الحقيقية وتركت آثاراً سلبية كبيرة على القوى المعارضة الأخرى، وحطمت آمال التغيير بعد تراجع ثقة المواطن الكوردستاني في قيام المعارضة بدورها بعد أن أثبتت أنها لا تمتلك برنامجاً حقيقياً يهدف بالأساس إلى الوصول للسلطة، ولا تمتلك أصلاً الأدوات التي تمكنها من تحقيق هذا الهدف، وإن النتائج الأولية لانتخابات برلمان إقليم كوردستان بدورته السادسة أظهرت من جديد التراجع الكبير والثابت للحركة بعد أن حصلت على مقعد واحد فقط، ولم تكن القوى اليسارية والإسلامية أحسن حالاً من حركة التغيير على خلفية تجربة مشاركتها في حكومة الحزبين قبل انسحابها.
تجربة برهم صالح الفاشلة
في عام 2017، أعلن القيادي في الحزب الاتحاد الوطني الكوردستاني عن انشقاقه من الحزب وتشكيله حزبًا جديدًا لخوض انتخابات برلمان العراق تحت اسم التحالف من أجل الديمقراطية والعدالة لينافس الحزبين الحاكمين، وأعلن صالح أن حزبه سيحصد أصوات المعارضين لهيمنة الحزبين التقليديين الاتحاد والديمقراطي على الحياة السياسية في الإقليم، إلا أن تجربة صالح فشلت أيضًا بعد أن تراجع وتخلى عن حزبه الجديد ووعوده من أجل تغييرات جذرية في نظام الحكم في إقليم كوردستان كما كان يدعي، وأخيرًا عاد صالح إلى حضن الاتحاد مقابل تسلمه منصب رئاسة الجمهورية.
صراع أبناء العمومة
سعى لاهور شيخ جنكي الذي تم إبعاده بالقوة من قيادة الاتحاد الوطني الكوردستاني في 2021 من قبل ابن عمه بافل جلال الطالباني بعد اتهامه بمحاولة تصفيته، سعى جاهدًا لتقديم نفسه وحزبه الجديد (بەرهە گە ل ـ جبهة الشعب) الذي وُلِد من رحم الاتحاد الوطني كقوة انتخابية معارضة، مستخدمًا خطابًا حماسيًا ضد منافسيه للعودة إلى الواجهة عبر حزبه الجديد. إلا أن نتائج الانتخابات الأولية لانتخابات برلمان إقليم كوردستان أظهرت فشل جبهة الشعب وعدم صعود لاهور شيخ جنكي كزعيم لقوة سياسية ثالثة جديدة متمثلة في حزبه المؤسَّس حديثًا (جبهة الشعب).
الاستنتاجات
تقول لنا تجارب السنوات الماضية إن المعارضة في إقليم كوردستان بمختلف ألوانها (من أقصى اليسار إلى أقصى اليمين) هي معارضة إثبات وجود أكثر من كونها معارضة منافسة تسعى للتغيير الحقيقي وكسب السلطة، ولهذا نرى أن المعارضة الكوردستانية تدور في نفس الحلقة التي حددتها لها السلطة الحاكمة، وأن اضمحلالها واختفائها وتفكيكها بعد مرور فترة زمنية من انبثاقها دليل على ذلك.
ولذا لم يكن غريبًا أن يستخف الحزبان الحاكمان بالأحزاب المعارضة ومطالبها بالضبط كما قام الديمقراطي الكوردستاني الذي يهيمن حاليًا على رئاستي الإقليم ومجلس الوزراء ومعظم الوزارات الرئيسية، إضافة إلى إدارة محافظتي أربيل ودهوك، وإشرافه على الملفات الحساسة مثل النفط والمعابر الحدودية مع تركيا وشمال سورية، قام في تشرين الأول (أكتوبر) 2015 بعزل رئيس البرلمان يوسف محمد (الذي كان ينتمي لحركة التغيير والمنتخب من قبل الشعب) ومنعه بقوة السلاح مع عدد من أعضاء البرلمان والوزراء من دخول مدينة أربيل لمزاولة عملهم بعد أن طالبت الحركة بتغيير النظام السياسي من رئاسي إلى برلماني، وتقليص صلاحيات رئيس الإقليم وعدم التمديد له وسحب الثقة من حكومة الإقليم آنذاك.
إنَّ السلطة الثنائية الحاكمة في أربيل والسليمانية لا تؤمن بفكرة تداول السلطة سلمًا وأنها قررت ألا تسلم السلطة حتى وإن خسرت في الانتخابات، وأعتقد أن هذه المعادلة ستظل هكذا على الأقل في الأمد المنظور، ومن غير المتوقع أن يحدث بها أي تغيير جذري. ولهذه الأسباب ولأسباب كثيرة أخرى، لا تريد السلطة في الإقليم بناء مؤسسات قانونية قوية ومستقلة، وقوة مسلحة موحدة غير حزبية، ولهذا نرى بكل وضوح طغيان الحزب وخصائص الإدارتين شاخصة تمامًا على جميع مفاصل الإقليم.
أخيرًا...
بالرغم من قرارات المحكمة الاتحادية التي رسمت القواعد الانتخابية في الإقليم، بقي المشهد السياسي في الإقليم بدون تغيير، والقائم على الثنائية التقليدية الحزب الديمقراطي الكوردستاني بقيادة أفراد أسرة بارزاني في المقام الأول، وحزب الاتحاد الوطني الكوردستاني بقيادة ورثة جلال طالباني في المقام الثاني.
انتهت معركة الانتخابات، إلا أن المفاوضات بين الأحزاب الفائزة، الديمقراطي الكوردستاني الذي احتفظ بمكانته التي تخوّل له العودة مجددًا إلى قيادة السلطة، والاتحاد الوطني الكوردستاني الذي احتفظ بمكانه الشريك الأول لمنافسه وغريمه التاريخي، إضافة إلى صعود حراك الجيل الجديد بقيادة رجل الأعمال شاسوار كقوة ثالثة منافسة للحزبين الديمقراطي الكوردستاني والاتحاد الوطني الكوردستاني.
وعليه فإن المفاوضات بين الأحزاب الفائزة ستكون صعبة حيث لن يتمكن أي حزب من تشكيل الحكومة بمفرده دون التحالف مع طرف آخر، وهو ما سيشكل صعوبة في مرحلة ما قبل ولادة الحكومة الجديدة في إقليم كوردستان، وأعتقد بأنها ستكون ولادة عسيرة ومستقبل أعسر.
التعليقات