مارست التدريس أعواماً عدة، قادماً من مهنة المتاعب، لأدخل إلى مهنة فيها عذابات تفوق أحرف الصحافة، فأنت في بيئة متناقضات متداخلة لا تخرج منها إلا وأنت مهلهل الجسد مشتت العقل؛ بيئة جامعية طاردة للحرية الأكاديمية، لا تجد فيها ما يسرّ الضمير، ولا تجد لذة للعلم فيها إلا في بعض زواياها القليلة المشرقة.
عملت في عددٍ من الجامعات العراقية والعربية، ولم أجد فرقاً جوهرياً في نظامها التعليمي التقليدي. فما بين الجامعات الكثير من المشتركات في مستوى الجودة والتلقين والتساهل مع الطلبة، حيث السير بالطالب إلى أفق وهمي وطريق مسدود؛ لا تفكير ولا إبداع. إنه التعليم المهدرج، الذي يحوِّل العلم من مصدر لسيولة العقل المبدع إلى صلابة التفكير، وغلق منافذ الابتكار، وقتل روح المبادرة والاستنتاج والاستدلال والتفكيك والتأمُّل والتفكير والنقد.
لا أريد التعميم من باب الموضوعية في الحديث عن الجامعات الأهلية، لكن معظمها هدفها حصاد المال، وإنتاج البلادة، وتنشيط العلم الثابت وتجميد المُتغيّر، وتسطيح الأفكار وتعليبها، وتخريج أفواج من معوقي العلم والابتكار. لذلك، أشعر أن المخفي لما يجري هو إطفاء نور العلم على الوطن وتحويله إلى ظلام دامس، لا نراه ولا يرانا!
لقد عُدتُ للوطن ولم يَدُر في خَلَدي -إِطلاقًا- العودة إلى أيّ عمل جامعي، حتى من باب تنشيط الذاكرة وقتل الوقت، خاصة بعد سماعي من زملائي عن كوارث الجامعات الأهلية في العراق، وعن قصصٍ أغرب من الخيال عن مُلَّاك الجامعات وسلوكهم وممارساتهم المستبدة؛ بعضهم لا يحمل شهادةً متوسطة، لذلك حولوا العلم إلى تجارة تُشبه ما يحدث في (علوة) جميلة في بغداد!
أمَّا قصةُ العودة للتدريس، فإنها من المصادفات الغريبة، حيث قرار العودة للتدريس سقَطا من الذاكرة والتفكير بعد التقاعد من إحدى جامعات الإمارات البارزة. وحدها الصدفة قادتني إلى جامعة (النور) في نينوى، بعد أن رأيت الجامعة تحقق بعض الرغبات؛ بيئة جامعية نشطة، واحترامًا لرجل العلم. فكان اللقاء الأول صدفة مع زوج ابنتي الذي كان يروم التعيين فيها، وذلك في مكتب رئيس الجامعة أ. د. ياسين طه الحجار، وهو أحد أبطال العراق في الساحة والميدان، وعميد كلية التربية البدنية وعلوم الرياضة في جامعة الموصل سابقاً. لقد دهشت بتواضعه وهدوئه ورزانته وحكمته في القيادة الإدارية للجامعة، وتعامله الإداري الإنساني مع من كان يريد الاستفسار والمشورة.
إقرأ أيضاً: احذروا خداع الثعلب "الإسرائيلي"
كان مندهشاً، وهو يقرأ السيرة العلمية بتفاصيلها، وأشعرني بأن مالك الجامعة سيكون سعيداً عندما يقرأ السيرة، لأنه حريص على وجود الكفاءات في الجامعة. ولم تمض ساعات إلا وكان معي من خلال الاتصال الهاتفي، وكنت في اليوم التالي في مكتبه، حيث وجدت شاباً متواضعاً وطموحاً ولبقاً يجيد فن مهارة التأثير بالآخرين. وبعد ساعات وقعت في فخ الجامعة.
عدت للتدريس بعد إن تيقنت بأن الأبناء يحتاجون لخبرة وتجارب الشيوخ، وهي بالتالي (واجب وطني) في آخر العمر، بعد فراق طويل للوطن. مثلما شعرت بأنني أعيش في جامعة لا تكبلك بقيود حديدية عمياء بمرض البيروقراطية؛ فأنت حر بالوقت والوظيفة بشرط أن تقدم العلم لطلبتك علماً نافعاً، تبعد عنهم نعاس الزمن، وتقربهم للمستقبل.
إقرأ أيضاً: نزيف العقول المهاجرة
فالجامعة لها حضورٍ علميٍّ ومجتمعيٍّ بارز بين الجامعات العراقية الأهلية، حيث بيئتها الجامعية الجاذبة تقوِّي روحَ الانتماءِ لها، ولا تُنَفِّرُ مَنْ ينتمي إليها -عالمًا أو متعلمًا-. وهي لا تقبل الخطأ العلمي والمجتمعي؛ لذا صاغت ضوابط السلوك الاجتماعي المنضبط بين الطلبة، واحترمت القدوة العلمية.
لقد اكتشفتُ -بالتجربة الميدانية- بأنَّ الجامعة ما كانت لتكون بهذا الحضور المبهر، لولا البذخُ الماديُّ للمالك في مجال: البناء والتعمير، والعملية التدريسية، والبحث العلمي، وخدمة المجتمع. فمعظم الجامعات الأهلية أزمتها اليوم هو المالك (التاجر) الذي يأخذ نقود الناس ولا يُعطيها إلا فضلات العلوم المنتهية الصلاحية!
الجامعة التي أسكن فيها ليست أفلاطونية، ولا تعيش في جمهوريته المثالية، فهناك من يعبث بمسيرتها وينخر تقاليدها العلمية بالانتهازية وأكاذيب العلم، والخبرة العلمية المتواضعة. وهناك من يريد تعطيل مسيرتها حسداً من الخارج، لكنها مازالت قوية بإرادة التغيير والتحديث، وهو سر صدارتها العلمية بين جامعات القطر.
إقرأ أيضاً: يورانيوم الإعلام
ومن حظ (النور) أنَّ رئيس مجلس إدارتها من أهل العلم، يحمل شهادةً عُليا، وهو المهندس د. بشار محمود علي؛ عقل الجامعة الديناميكي الذي لا يتوقف عن الابتكار والتجديد. واكتشفت بأنَّ الجامعةَ بدونه ساكنة وخاملة؛ لذلك حيَّرني ديناميكيته النشطة منذ دخولي باب الجامعة لأول مرة، فهو يُشعرك بالخجل؛ لتواضعه وطيبته واحترامه للكفاءات، كما أنه متفانٍ في خدمة أهل الموصل بالمهرجانات المجتمعية، والنشاطات والثقافية التي لا تتوقف طيلة العام.
بالمختصر، تعلمت أن قول الحق فريضة أخلاقية، وما قلته ليس تزلفاً، ولا خوفاً من أحد، ولست بحاجة لأن يقدم لي أحد مشهيات الوظيفة، فلا تغريني المناصب، ولا أناشيد الثناء، لذلك رفضت عروضاً مغرية بالمال والوظيفة من جامعات أهلية قديمة وجديدة، لأنني مصاب بمرض الوفاء، للجامعة الأولى التي بدأت معها.
ومع ذلك، عندما أشعر، بأنني لم أعد من أهلها فلن أتردد في قرار المغادرة، وسأضطر فيه -آسفاً- أن أكتب السطر الأخير: الرجاء قبول استقالتي، ولكم الشكر والتقدير؟!
التعليقات