بات جليًّا لكل ذي عينين حرص إسرائيل هذه الأيام على مواصلة اقتلاع أظافر إيران في المنطقة، ولن يهنأَ لها عيشٌ حتى تحقق مرادها بشكلٍ تام؛ فالبداية كانت مع حماس التي قضت ‏عليها بشكلٍ شبه كُليٍّ، ثم اتجهت إلى الشمال؛ حيث حزب الله في الجنوب اللبناني، وقد شلَّت حركته بعد الإجهاز على الكادر الإداري والتنظيمي؛ ‏باستهداف غالبية قادته من الصفين الأول والثاني، ولن تهدأ تل أبيب أيضًا حتى تقضي على ما تبقَّى من قُوى الحزب الذي كان ولم يزل مصدرَ إزعاج على مدار أعوامٍ عديدة.

لقد وضع حزب الله لبنان على خط النار، دونَ جريرةٍ لبيروت فيما طال شعبها من سفك الدماءِ والتخريب والتدمير والتشريد، ومع ذلك؛ لم يزل الحزب الأرعن يُواصل ‏تعنُّته غير المسؤول، والذي سيؤول حتمًا إلى تحقيق هدف إسرائيل بالقضاء عليه، ليصبح طرفةً من الماضي، ثم تعود الأمور إلى نصابها الصحيح، ويتولى ‏الجيش اللبناني مُهمَّته المشروعة في حماية حدود البلاد، وحينها لن نرى جو المراهقة السياسيَّة للجماعات الوليدة من الرحم الإسلاموي الذي ‏يُعكِّر صفو الدول العربيَّة.‏

ورغم أنَّ المناوشات التي قام بها حزب الله بعد السابع من تشرين الأول (أكتوبر) الماضي - فيما سمّاه نُصرةَ المقاومة الفلسطينيَّة - كانت بسيطةً؛ فإن ‏إسرائيل ردَّت الصاع صِيعانًا؛ فلم يكن ردُّ الفعل على قَدْرِ الفعل نفسه، وإنَّ كلَّ مُتابعٍ يُدرك أن تلَّ أبيب قد بيَّتت النيَّة لإسقاط إيران ‏ونظامها؛ ومن ثمَّ تلاشِي تهديداتها مستقبلًا، وفي سبيل ذلك؛ اعتمدت خطةً هي الأصوبُ سياسيًّا واستراتيجيَّةً؛ تتمثَّل في ضَرْب الأذرع التي تختبئ خلفها طهران، التي طالما هدَّدت بأن أيَّ هجومٍ عليها سيقابله إضرام النار في حيفا وعكا وأشدود وعسقلان وتل أبيب بصواريخ أذرعها من الحوثيين أو من حزب الله، أو حتى ‏من قواعدها في سوريا.‏

ولا شكَّ أنَّ المُعادلة التي رَسمتها إيران في أوقاتٍ سابقة وعملت عليها لعشرات السنين لم تعد صالحةً الآن أو سارية المفعول؛ بعدما تصدَّعت قوى حماس ‏وحزب الله، ويعقبهما في الطريق الحوثيون في اليمن وميليشيا العراق، وحتى سوريا التي اتخذت موقفًا مُغايرًا لما كان متوقَّعًا من أحداث ‏طوفان الأقصى؛ فقد باتت بمعزلٍ عن الدخول في هذا الرهان الخاسر، الذي ما زاد الموقف بالنسبة للمنطقة المتأججة إلا تعقيدًا وخرابًا ودمارًا.‏

ويجب الإشارة هنا والإشادة أيضًا بالموقف السوري الذي حقن دماء شعبه، والذي عانى الأمرَّين طوال عقدٍ من الزمان أو يزيد إثرَ الصراعات ‏والحروب الداخليَّة، التي ابتلعت خيرات هذا البلد، وضيَّقت على شعبه، الذي كُتِبَ عليه الشتات والتشريد في عديدٍ من الدول العربية والأجنبية. وها قد حان الوقت لوقف كل هذا، وإن ‏كان ذلك سيُمثِّل تخلِّيًا عن إيران التي ستجد نفسها في النهاية مضطرةً لإجلاء قواتها التي لم يعد مرغوبًا فيها من سوريا، ‏وبالتالي فإن التصوُّر الذي كان مطروحًا في السابق؛ وهو إرسال إيران عناصر حرسها الثوري إلى سوريا ولبنان لمهاجمة إسرائيل إذا كشفت الحربُ عن ساقها ــــ باعتبار أن الخصمين لا تجمعهما حدودٌ مباشرة ـــ لم يعد واردًا الآن.‏

وبالعودة إلى الخطة الإسرائيليَّة؛ فإنني أرى أنها تسير بنجاحٍ، بل وتُمهِّد الطريق إلى الهدف الإسرائيلي الكبير؛ وهو ضرب إيران، ونسف برنامجها ‏النووي، وهو الأمر الذي لن تشرعَ فيه دون الحصول على الضوء الأخضر من أميركا بالطبع لإنفاذ تلك المهام؛ باعتبار أن كل مصالح واشنطن ستصير محلَّ تهديدٍ حال اشتعال فتيل الحرب. ولا يخفى على الجميع التصريحات الصادرة من منابر إيران الإعلاميَّة والدبلوماسيَّة، التي تصف أميركا بالعدو والشريك في الضربات التي ‏تشنُّها تل أبيب على أهدافٍ لها في سوريا، أو ضد ميليشياتها في المنطقة.‏

إقرأ أيضاً: نتنياهو وحلم الحرب الشاملة في الشرق الأوسط

ومن المؤكد أن أميركا ستحتاط بشكل قويٍّ، على أقل تقديرٍ، قبل السماح لإسرائيل بضرب منشآت طهران الحيويَّة؛ سواء النفطيَّة، أو النوويَّة، أو ‏البنية التحتيَّة، وربما يشير التصعيد الأخير إلى شيءٍ من هذا القبيل؛ بعدما نشرت أميركا منظومة ثاد في المنطقة، وبالتحديد في إسرائيل؛ لمواجهة الصواريخ التي ‏يُتوقع إطلاقها من إيران؛ لا سيما الصواريخ الباليستيَّة والعابرة للقارات، والتي تعمل المنظومة الأكثر تطوُّرًا على مستوى العالم بفاعليَّةٍ كبيرة ضِدَّها، وحمايةً لأهدافها وقواعدها المُنتشرة في العديد من دول المنطقة والخليج وتركيا والعراق والمياه العربيَّة.‏

هنا أجد نفسي أستحضر المُفارقة العجيبة بخصوص القواعد الأميركية في المنطقة؛ فمن المعلوم أن إيران نفسها هي التي تسببت في وجودها من الأساس؛ وكما يقالُ في المثل المشهور: "من حضَّر عِفريتًا يصرفه؛ فإن لم يستطع صرفه فليتحملْ أذاه"؛ ففي ثمانينيات القرن الماضي، هاجمت ‏طهران ناقلة نفط كويتيَّة؛ فما كان من الأخيرة إلَّا اللجوء إلى أميركا، التي انتهزت الفرصة، بدعوى الانتصار للكويت، وسارعت بقصف مراكز التصدير فيها؛ الأمر الذي ‏ندمت عليه طهران، وأرى الحالة الآن مُشابهةً تمامًا، فهي لن تجرؤ على تنفيذ تهديداتها بقصف المنشآت النفطيَّة الخليجيَّة؛ باعتبار أن دول الخليج من ‏وجهة نظرها مشاركةً في الحرب عليها؛ بسماحها باستخدام هذه القواعد الأمريكية من خلال أراضيها.‏

إقرأ أيضاً: اليوم الوطني السعودي الرابع والتسعون بين الماضي والحاضر

وبالنظر إلى خريطة النفط العالميَّة، يتبيَّن لنا أنَّ بكين - الحليف الأقوى والداعم الأكبر لإيران بعد روسيا - تعتمد بشكلٍ كبير على النفط السعودي، ‏وإغلاق مضيق هرمز، وتأثُّر إنتاج النفط الخليجي سيضر حتمًا بمصالحها، وهو أمرٌ لن تقبله بكين، ولو كان عبر باب الصداقة أو حتى القرابة؛ فإنها يجب أن تكون هذه أو تلك غير ضارَّةٍ ‏بالمصالح، وأعتقد أن الصين غير جاهزةٍ لتكبُّد المزيد من الخسائر؛ خاصَّة بعد تلك التي تحملتها بسبب أفعال الحوثيين، وما زالت تُواجهها حتى اللحظة التي تقرأ فيها سطور مقالي هذا.‏

وبتحليلٍ عقلانيٍّ للمشهد وبرؤية ثاقبة، يمكننا القول إنَّ العمق الإيراني سيشهد بترًا لليد التي تمتد بالدعم المالي واللوجستي للميليشيات ‏المسلحة في المنطقة؛ إذ إن الردَّ الإسرائيلي الأخير لم يكن مُؤلمًا لطهران ودون التوقعات، ولكنه كان ردًّا سياسيًّا راعت فيه تل أبيب ‏اعتباراتٍ أخرى، ولكن من المؤكد أن الأيام المقبلة، وإن طالت المدة، ستكون شهورًا ولن تصل لسنوات، ستكون هناك ‏ضربة قاصمة لطهران؛ لكبح جماحها بعدما عاثت في الأرض فسادًا بشكل فجٍّ تسبَّب في أذى العديد من دول المنطقة، وسوف يسبق ذلك هجومٌ على سوريا لاجتثاث الجذور الإيرانية هناك، ومن ثمَّ تمتد إلى اليمن وصولًا إلى العراق؛ لتطهيرها ‏من أتباعها وأذرعها، وموازين القوة حاليًا لصالح ‏إسرائيل، التي أظهرت، خلال الشهور الماضية، تفوقًا عسكريًا واستخباراتيًّا كبيرًا؛ تمثَّل في قدرتها على قتل نصر الله والسنوار ‏وغيرهما من قادة الجماعتين المسلحتين.‏

إقرأ أيضاً: "ردَّني إلى بلادي"... إلى السيدة فيروز

يُمكننا القول الآن، إن الحرب في غزَّة دخلت منعطفها الأخير مع تحقيق معظم الأهداف الإسرائيليَّة، وسوف تكون هناك مفاوضات قريبة؛ ‏يتم بموجبها الإفراج عمَّا تبقَّى من الرهائن، ورضوخ حزب الله اللبناني، مهما طال الوقت أو قصر؛ بعدما شعر بأنه أداةٌ رخيصة في ‏يد إيران سوف تلقي به في مهب الريح إذا وقف عقبةً في طريقِ مصالحها، بالإضافة إلى أنها لم تعد قادرةً على حماية نفسها، وبالتالي فهي عاجزةٌ عن حماية ذيولها، التي ‏تبيَّن أنها فزَّاعة صنعتها آلتها الإعلاميَّة وأبدت عورتها الأيام، مع توقعات البعض أن ترسانة حزب الله الصاروخيَّة تزيد على 100 ألف ‏صاروخٍ، وحال وجَّهت ربعها إلى إسرائيل، مع الأخذ في الاعتبار سقوط خُمسها بسبب الدفاعات الجويَّة، فإن ما سيصِلُ سيكون كفيلًا بدكِّ المدن الإسرائيليَّة، ولكن ما رأينا إلَّا ضربًا لا هوادةَ فيه في الحزب الذي يعيش يلفظُ أنفاسه الأخيرة من حيث تأثيره خارج حدود لبنان، ‏ولكنه سيبقى مُؤثِّرًا في نظر الداخل لعدم وجود ميليشيا تُنافسه.