حين قرَّرت الكتابة عن لبنان، لم أجد عنواناً مكتظ بالحنين وله إرهاصاته أفضل من مطلع أغنية فيروز، الذي لخَّص حنين ليس اللبنانيين فحسب بل حتى الخليجيين والعرب إلى لبنان السابق، الذي كان في أزهى عصوره، تلك المرحلة الزمانيَّة التي رسمت معالمه الحضاريَّة بأدق تفاصيلها الثقافيَّة والإنسانيَّة والعمرانيَّة والتاريخيَّة والسِّياحيَّة، فغدا لبنان قِبلةً يقصدها النَّاسُ من أصقاع الأرض لينعموا بما حقَّقه من تقدُّمٍ حضاريٍّ لم يَرُق لبعضهم أن يراه في بلدٍ لا تتناسب مساحته مع التطور الذي وصل إليه بسرعةٍ قياسيَّةٍ؛ بما امتلكه من مؤهّلاتٍ دفعت نحو هذا التَّقدم الحضاري، فراحوا يخلقون الأزمات الواحدة تلو الأخرى، ويُؤجِّجون النَّعرات الطَّائفيَّة بين اللبنانيين أنفسهم، وبينهم وبين إخوتهم الفلسطينيين، حتى غرق لبنان في أتون حربٍ أهليّةٍ طاحنةٍ زاد من استعارها الغزو الإسرائيلي للبنان، تلك الحرب التي قضت على كل شيءٍ جميل، بل إنَّها قتلت روح الإنسان قبل جسده، ليجد اللبنانيُّون أنفسهم بعد حربٍ استمرت خمسة عشر عاماً محاصرين بالأزمات المتنوِّعة التي تحاول العودة به إلى الوراء بأسلوبٍ فيه من الخِسَّة ما يجعل قلمي ينفطر كلّما ذكرته في سطوري، إذ لطالما تمنَّيت أن يكون كلّ ما حدث له أضغاث أحلام، لأستيقظ يوماً ما فأجده وقد خرج من كبوته ليلحق بركب أشقَّائه الكبار في محيطه العربي الكبير.

عندما تقرأ قول الكاتب اللبناني الكبير مارون عبّود: "يفتح كشكوله، ويُخرج منه أفاعيَ رقطاء ورقشاء دونها حيَّات أدهى الحواة، فتسمع وأنفك راغم"، تُدرك أنّ هذا الكاتب قد تنبَّأ بمستقبل بلده، وأنَّ بيروت باتت تئنُّ من أزماتٍ مُفتعلةٍ تطارد شعبها المغلوب على أمره، ذلك الشَّعب الذي نسي ضجيج المقاهي، والموسيقى الجميلة، والمسارح المكتظة بالحضور حين كانت أرضاً للثقافة، وميداناً رحباً للفكر والفلسفة والتَّنوع الأيديولوجي، فتلك الأيادي السَّوداء مازالت تعبث بلبنان، وكلّما لاحت في الأفق بارقة أملٍ لإنقاذه من المجهول جاء من يشدَّه نحو القاع، فيغرق في دوَّامةٍ من الفتن والأزمات دون شفقةٍ أو رحمةٍ، بدءاً من أزمة الشغور الرئاسي الذي لم يعرف العالم مثيلاً له، إلى معضلة اللاجئين المتلاحقة التي باتت قنبلةً موقوتةً على وشك الانفجار، وصولاً إلى التَّوتر الذي يسيطر بشكلٍ شبه دائمٍ على جنوبه الذي يبقى في ترقُّبٍ دائمٍ لأي انزلاقٍ أمنيٍّ يُشعل المنطقة في أتون حربٍ جديدةٍ مع إسرائيل، ويا له من ثالوث رعبٍ يُؤرَّق أكثر من خمسة ملايين وخمسمائة ألف نسمة تعيش على أرض لبنان.

وقد تصدَّرت الأوضاع الاقتصاديَّة المتردِّية المشهد العام في البلاد مؤخراً، وشكَّلت عبئاً كبيراً على الحكومة اللبنانية وشعبها؛ فمن ماضٍ ينعم فيه اللبنانيون بالسَّخاء والرَّخاء وطيب العيش، إلى زمنٍ ارتفعت فيه تكلفة العيش والخدمات الأساسيَّة بشكلٍ مبالغٍ فيه، وشهدت الأسواق موجات ركودٍ وتضخُّمٍ هي الأعنف على الإطلاق في تاريخ لبنان، فكانت بلا منازعٍ العبء الأكبر الذي أثقل كاهل كلّ مَنْ يعيش على أرض الأرز، كما لم تغب عن سلسلة الأزمات المتتابعة مشكلة النَّازحين واللاجئين البالغ عددهم مليوني شخصٍ أتى غالبيتهم البلاد فارِّين من الأزمة في سورية التي تشترك مع لبنان في حدودٍ طويلةٍ تبلغ قرابة 375 كم، تلك الحدود التي كانت يوماً ما عنواناً للتَّرابط العائلي، وميداناً للتَّبادل التجاري والتَّكامل الاقتصادي بين البلدين الشقيقين، ولكن لسوء الاستغلال، وللعوامل الجيوسياسيَّة المحيطة بالدَّولتين، باتت نقطة الالتقاء الآمنة فجوةً تستقبل بذراعيها الأزمات والكوارث، وعلى الرّغم من محاولات حكومة تصريف الأعمال في بيروت إيجاد حلٍّ لهذه الأزمة من خلال حديثها المتكرر عنها في المحافل الإقليميَّة والدّوليَّة، ومناشدتها دول العالم لتحمُّل جزءٍ منها، أو البحث عن حلولٍ ناجعةٍ وفعَّالةٍ قبل أن تتفاقم الأوضاع أكثر وتنفجر، ويحدث ما لا يحمد عقباه.

لم يُعرف عن لبنان منذ انفصاله عن سورية حتى عهدٍ قريب أنَّه عانى فراغاً رئاسيّاً طويلاً حتى في أشد الظروف والحروب التي مرَّ بها، أمَّا اليوم فقد أضحت جملة «الشّغور الرئاسيّ» مألوفةً كثيراً بالنسبة إلى شعوبنا العربيَّة، ودون تفكيرٍ سرعان ما يربطون بينها وبين الدولة اللبنانيَّة برباطٍ وثيقٍ، وكأنَّه مصطلحٌ وُضع خصيصاً لبيروت، ولا يمكن أن يلتصق بأيِّ بلدٍ سواها في المنطقة بعد أن مرَّ ما يقرب من تسعة عشر شهراً دون ملء الفراغ الرّئاسي، ليُحقق لبنان بذلك رقماً قياسيّاً بين البلدان التي تُسابق الزَّمن لفرض الأمن والاستقرار على أراضيها، والتَّوجه دون التَّوقف صوب التّنمية والازدهار.

إقرأ أيضاً: ... وانقطع دابر إخوان الكويت!

عُرف عن لبنان، منذ قيامه في بدايات القرن السَّابق، انفتاحه الاقتصادي على العالم، مما جعله مقصداً يؤمُّه كبارُ المستثمرين، فأُسِّست فيه البنوك والشركات، وحرصت حكوماته المتعاقبة على تأمين الأرضية الملائمة للاستثمار ودفع عجلة الاقتصاد عبر خلق فرص العمل، وتوفير فائضٍ في الميزانية العامَّة مما أسهم في البناء الحضاري للبنان، إلا أنَّ غياب الإصلاحات، وانعدام الاستقرار السياسي، والانكماش الاقتصادي، ناهيك عن تراجع الإنتاج، وانخفاض معدلات التَّصدير، أثَّر بالسلب على شهيَّة المستثمرين نحوه، وجعله بلداً طارداً للاستثمارات كافة، الأمر الذي أربك حسابات موازنته العامَّة، ووسم أرقامه الاقتصاديَّة بمؤشِّرات القياس الدّوليَّة بـ "السالب"، وكلّها عوامل هدمٍ ساعدت في خلقها حكومة تصريف الأعمال، وحلَّقت بعيداً عن الأهداف الحيويَّة التي ما جاءت إلا لأجلها، موجِّهةً بوصلتها فيما لا يُفيد لبنان، ولا يعود على مواطنيه بالنفع.

إقرأ أيضاً: تفجير موسكو... لماذا يصر القيصر على توسيع دائرة الاتهام؟

وعلى الرّغم من أنَّ الجنوب ضمن الحدود الجغرافيَّة والإداريَّة للدولة اللبنانية، فإنَّ الظّروف الأمنيَّة تجعله منفصلاً إلى حدًّ ما عن بقيَّة الجغرافية اللبنانيَّة، حيث يسيطر حزب الله بوصفه مقاومةً لبنانيّةً - لدى بعض اللبنانيين - على تلك البقعة الخطيرة التي تعيش على شفا حربٍ دائمةٍ مع إسرائيل بعد أن كانت في الماضي مقصداً للسيَّاح لما تتمتع به من طبيعةٍ خلَّابة، وإذا كان دعم القضية الفلسطينية فَرْضُ عينٍ علينا جميعاً دون استثناء، فإنَّ الدّولة اللبنانيَّة ممثّلةً بحكومتها ليست بمعزلٍ عن المشاركة في اتّخاذ القرارات المصيريَّة التي تخص الجانب الأمني، وإن كانت حكومة تصريف أعمال بما يحمي لبنان وشعبه.

ليست الأجواء ضبابيّةً بالطبع، ولا أقصد أنَّنا أمام عقدةٍ لا حلَّ لها، فما نراه يحدث داخل هذا البلد العربي، من الأمور البديهيّة التي مرَّت على معظم الدّول في مختلف العصور، ولنا في التَّاريخ من الأمثلة ما لا يُعدُّ ولا يُحصى، لكنَّ إطالة الأمد دون الوصول إلى نهايةٍ لهذا النَّفق المظلم، تهدِّد الاستقرار والسَّلام النَّفسي للشَّعب اللبناني المحروم من أبسط حقوقه المشروعة في العيش بكرامةٍ والافتخار بقيادة لبلاده، يكون لها وزنها وثقلها في محيطها الإقليمي والجغرافي، لا أن تكون قيادةً يتردَّد اسمها على طاولة المفاوضات، ومصدر أزمات يبحث الجميع لها عن حلٍّ دون جدوى.

إقرأ أيضاً: حماس وإسرائيل.. سيف الدهاء وخنجر الغباء

علينا أن نطمح للسَّلام بشتَّى السُّبل، نمدُّ يدنا لمن يريد لنا الخير، وننظر إليه بعين العاشق، ولكن أين ذلك الشَّريك في الوطن الذي نبحث عنه، فقد طال أمد الصّراع الدّاخلي المناطقي، وانعدم التَّوافق في الرؤى، وكاد التطابق في وجهات النّظر يتلاشى، وحلَّ النَّزاعُ والصِّراعُ مكان الصمود المشترك في وجه الأزمات، مما يدفع هذا الوطن الجريح نحو جرحٍ أعمق يُجسِّد الرؤية القاتمة المسيطرة على فكري وقلمي دون إرادةٍ منّي عن واقعٍ مخجلٍ للبنان، الذي هو قطعةٌ أثريّةٌ ذات إشعاعٍ ثقافيٍّ على اتّساع العالم العربي، نحلم باستقراره وازدهاره؛ لأنّه سيكون دون أدنى شكٍّ مصدر فخرٍ لنا جميعاً كعربٍ أنْ نجا من المخططات الخبيثة التي حيكت ضدّه من عشرات السّنين من جهاتٍ لا تخفى على أحدٍ.