إن هذه المسألة شائكة، وأقصد "صناعة العلم"، ففلسفة التعليم غالبا ما تبنى على تطوير مناهج التعلّم وتنسى أن المهمة الأساسية للتعليم هي تجاوز ما نتعلمه بعد استيعابه وخلق معرفة جديدة وعلم جديد. التوقف باستمرار عند "نقل المعرفة" لا صنعها حوّل التعليم ومناهجه وأساليبه وحتى مناخه الاجتماعي إلى مساحة فارغة من الإبداع، وأذكر هنا أنني كتبت عددا من المقالات في هذه الصحيفة الغراء حول الفرق بين التعليم المبني على نقل المعرفة والذي يعتمد على فكرة "حل المشكلة" أو التعليم عن طريق اللعب والعمل الحرفي/ المهني، ومرة استشهدت بقول "برنارد شو"، على ما أذكر، أنه قال "كل ما نتعلمه ننساه إلا ما نصنعه بأيدينا". إذا هناك مشكلة أخرى تكمن في فلسفة التعليم التي تبنى على نقل المعرفة وهي أن هذه المعرفة تُنسى مع الوقت، وتبقى تلك التجارب العملية التي شكلت تجربة خاصة في عقل كل راغب في التعلّم.

في معرض الكتاب في جدة، وقد كنت ضيفا على المعرض، شدني "ركن الطفل"، تجربة لا أراها كثيرا في معارض الكتب، قررت أن أزور الركن فلم يسمح لي بالدخول كون المكان مخصص للأطفال وأسرهم ولم يكن بصحبتي أطفال، لكنني أقنعتهم بالسماح لي بالدخول فقرروا أن يكون معي مرافق أثناء جولتي. أولا أعجبني حرصهم واهتمامهم، والأمر الثاني تعاملهم مع الأطفال، فجميع المدربات والمعلمات شابات سعوديات في تخصصات مختلفة، جميعها حرفية تحث على الإبداع والتعلم من خلال صنع الأشياء وابتكار حلول لها. يتوسط هذه المساحة المهمة التي تتوسط قبة المعارض مسرح الطفل. قبل أن أغادر هذا المكان اللافت طلبت مني إحدى الشابات أن أزور جناحا لم أنتبه له ولم أمانع، فقد كان الجناح مخصصا لتعليم الأطفال كيفية عمل "الكيك الصغير". مختبر ومعمل ومطبخ صغير، يتعلم فيه الأطفال في سن مبكرة كيف يصنعون الأشياء بأيديهم، وهو ما سيرسخ في أذهانهم، على حد قول "برنارد شو". يجب أن أذكر هنا أنه في الليلة التي سبقت زيارتي لركن الطفل شاركت في ورشة عمل حول الهوية الثقافية في المدن المقدّسة والتاريخية، وأثناء الورشة كانت أصوات الأطفال مدوية في مسرح الطفل فمكان الورشة لم يكن بعيدا، حتى أنني قلت للحضور لو نذهب ونشارك الأطفال هذا الحماس ونكمل الورشة معهم.

قبل أن أزور ركن الطفل مررت بعدة أجنحة نشر وبيع الكتب، ولم أكن أبحث عن كتاب معين، لكن لفت نظري وجود سلسلة من دور النشر السعودية المختصة في كتب الأطفال، لم أكن أتصور أن صناعة كتب الأطفال متطورة لدينا، لكن ما رأيته كان رائعا. توقفت لشراء بعض الكتب للحفيدات وتفاجأت بوجود بعض المؤلفات لهذه الكتب وطلبت منهن التوقيع باسم كل واحدة منهن. الأستاذة ثريا بترجي والدكتورة ناديا الشهري تحدثا معي طويلا بحماس حول الشغف الذي يتملكهن حول صناعة عالم من الخيال يحث على التفكير في العالم بشكل مختلف لدى الأطفال. كنت أسمع عن قسم كتب الأطفال في جامعة الملك عبدالعزيز، حتى أنه كان بين مركز التراث العمراني الوطني في هيئة السياحة (سابقا) وبين القسم تعاون لكتابة مجموعة من الكتب التي تنقل التراث الوطني للأطفال وتم إعداد كتابين فعلا لكن لم يتم نشرهما للأسف. ما شاهدته، يتجاوز كثيرا ما كنت أتصوره حول هذه الصناعة المهمة التي أرى أنها أحد المفاتيح الكبيرة التي يمكن أن تخلق جيلا مبدعا يتحلى بالأخلاق والقيم التي نشأنا عليها.

لكن ما علاقة كل ما ذكرت بصناعة العلم؟ بكل تأكيد أن صناعة العقل الناقد المفتوح على الخيال الذي لا يكتفي بما يتعلمه فقط هو التوجه الذي نبحث عنه. يمكن أن أعرّج على تجربتي الشخصية في التعليم، والعمارة كما يعلم كثير من القرّاء هي معرفة مهنية/ نظرية ترتكز على التفكير الإبداعي لكنها تتكون من شق تقني/ علمي وشق آخر تشكلي/ ابتكاري وجمالي ويربط بين الشّقين فضاء نظري فلسفي غير محدود. هذا يجعل التعليم المعماري في غاية التعقيد، كما عبر عنه أحد أباطرة العمارة الحديثة وواضع نظم التعليم المعماري المعاصر، الألماني "والتر جربيوص" مؤسس مدرسة "الباوهاوس" الشهيرة في بداية القرن العشرين. خلال ما يزيد على خمسة وثلاثين عاما لم أحاول أن أُعلّم الطلاب نفس التجارب مرتين بنفس الأسلوب، بالطبع هناك منهج نتّبعه، لكنه مثل كل المناهج يهتم بالعموميات، ويبقى الأستاذ هو المنهج الفعلي الذي يصنع الفرق في التعليم.

بعد كتابة هذا المقال مباشرة، صباح يوم السبت، سوف أنطلق إلى مركز الملك عبدالعزيز الثقافي العالمي (إثراء) في الظهران الذي يستضيف مناظرات طلاب مادة قضايا نقدية معاصرة في العمارة في مختبر الابتكار. هذه المرة الثالثة التي ننظم فيها مناظرات بين مجموعات الطلاب حول القضايا المهنية والفكرية، وسبق أن كتبت مقالا تفصيليا حول التجربة التي كل مرة أكتشف فيها أن "صناعة المعرفة" منوطة بالعلاقة بين الأستاذ وتلاميذه، لأنه هو الذي يخلق لديهم القدرة على بناء المنهج الذي يقودهم إلى صنع علم جديد. طبعا يجب أولا أن يملك الأستاذ المنهج وأن يكون قادرا على خلق مناهج جديدة.

ما يمكن أن أختم به هذا المقال هو أن "التعّلم" بات لا يكفي في عالم يتنافس فيه الجميع على صناعة المعرفة الجديدة، فمن يصنع المعرفة في المستقبل هو الذي سيقود العالم، ومن سيكتفي بمجرد "التعليم التقليدي" سيكون تابعا باستمرار.