تحدّثنا في مقالاتٍ سابقة عن تجارب الديمقراطية في كلّ من تركيا ولبنان وإسرائيل وتلكؤها في تطبيق النموذج الأوروبي او الأميركي للنظام الديمقراطي، وما واجهها، وما زال يواجهها إلى حدّ النكوص والعودة إلى النظام الطبيعي الذي يسود تلك المجتمعات التي تعتمد في تفاصيل حياتها على أسس قبلية ودينية أو مذهبية، وما يلحقها من عادات وتقاليد وأعراف، فلقد فشلت تلك التجارب الثلاث إلا ما يتعلق بتداوُل السلطة بين قوى أنتجتها مجتمعات تراكمت فيها ثقافة تتقاطع مع الثقافة التي أنجحت تطبيقات النظام الديمقراطي في الغرب عموماً.
إقرأ أيضاً: إشكالية المعارضة في الشرق الأوسط
تلك الثقافة المُتكلّسة لم تنجح دكتاتورية أتاتورك وقسوته في فرض أزياء وقبعات أوروبية على مواطنيه، فقد طغت متكلسات مجتمعاته وأهرت أزياء ديمقراطيته الدكتاتورية! بعد تلك التجارب المُرّة، وما تلتها في كلٍّ من إيران الشاه ومصر، ومن ثم الديمقراطيات المستنسخة في العراق وتونس وليبيا والسودان، اصطدمت جميعُها بحقائقَ تؤكد أن النمط الأوروبي لا يمكن تطبيقه في مجتمعات لم يتبلور فيها مفهوم حر جامع للمواطنة، وما تزال تعاني من تعدّد الولاءات القبلية والطائفية والدينية وحتى المناطقية، ناهيك عن التبلور العرقي والقومي الذي لم يرتقِ بعد إلى مستوى المواطنة الجامعة لكل هذه الانتماءات، وهو بالتالي، أي النمط الأوروبي، يصلح في مجتمعات تجاوزت ظروفَها التاريخية منذ زمن طويل وتطبيقها في مجتمعاتنا يعطي نتائج عكسية تماماً، وهذا ما يحصل فعلاً، وخير نموذج في ذلك ومنذ قرابة العقدين في العراق، حيث فشلت كلّ قواه السياسية وحتى الاجتماعية من إنتاج برلمان يمثل الشعب العراقي تحت مظلة مفهوم المواطنة، بل حصل العكس تماماً، إذ تحوّل البرلمان إلى مجلس للأحزاب التي لا تمثل إلا نسبة ضئيلة من مجموع الأهالي الذين يرفض غالبيتهم حتى فكرة الاقتراع.
إقرأ أيضاً: العشوائيات الديمقراطية
في المقابل، نجحت دول الخليج، وفي مقدمتها المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة، في إنتاج مجالس للشورى هي الأقرب إلى سيكولوجية مجتمعاتها وثقافاتها المتأصلة، سواء في التقاليد والعادات أو في مسألة تعدد الولاءات، بحيث منحت فرصة الانتخاب وبنسب محدودة وشروط ملزمة إزاء نسبة أخرى في الاختيار والتعيين على خلفية البناء الاجتماعي المتوارث والقيمة المعرفية والمكانة الاجتماعية والاستشارية للأعضاء المختارين، وهي الأقرب إلى فكرة مجالس الأعيان والشيوخ واللوردات في بريطانيا والولايات المتحدة وفرنسا وغيرها من الدول التي تضعُ بعض الكوابح في مجالسها التشريعية لكي لا تتغول أو تتسيد، وإن اختلفت عملية الاختيار، ولذلك نرى أن الناتج الانتخابي في معظم دولنا لا يعبّر حقيقة عن الصورة الأصلية لواقع مجتمعاتنا بسبب هبوط مستوى نوعية الناخب والمرشح في آن واحد، مما يتطلب إجراءات جدية للارتقاء بمستوى الاثنين من الناحية النوعية تؤهلهم كمرشحين وكناخبين بمستوى تمثيلي رفيع بعيداً عن تمثيل ضيق محصور بمجموعة أحزاب تستخدم شتى الوسائل لإغراء الناخب أو احتوائه، وفي مقدمة تلك الإجراءات ضرورة إيجاد ضوابط مشددة للناخبين، بدءاً من رفع سقف العمر إلى 25 سنة مع شرط إكمال الدراسة الثانوية على الأقل، رغم قناعتي بأن الحد الأدنى يجب أن يكون التحصيل الجامعي (سنتين أو أكثر بعد الثانوية) ناهيك عن مجموعة ضوابط أخرى تجعل عملية الانتخاب بمستوى شروط الترشيح ومميزاته، مما سيشجع الناخبين على ضرورة التعلم لممارسة حق ليس رخيصاً أو سهلاً، بل يحتاجُ إلى جهد ومميزات تؤهله للقيام به، وفي الوقت ذاته يبدو أن رفع سقف العمر للمرشّح أيضاً بات ضرورياً مع التشديد على مسألة المؤهلات العلمية والمعرفية وضوابط اجتماعية وأخلاقية أخرى تؤهّله للجلوس على كرسي البرلمان ممثلاً للشعب لا لحزبٍ أو عشيرة أو دين أو مذهب أو عرق.
التعليقات