بين الإمتناع عن الرد على التفاهات الإعلامية والأخلاقية والأخبار المفبركة التحريضية، وبين الميل نحو دحضها بحقائق وإثباتات، والرد على الذين باعوا أنفسهم في سوق النخاسة بثمن بخس وتخلوا عن كرامتهم على منصات المساومات والمناقصات والمزايدات مقابل مكاسب شخصية بكلمات وعبارات مليئة بالمعاني والدلالات، مسافة طويلة يشعر فيها المرء بكم مهول من الأسى، خاصة إذا كان التافه المتطاول قد بلغ ذروة التفاهة وظن أن غباءه وانتهازيته دليل على تفوقه وتألقه وعبقريته، ويمارس التهريج حتى يخرج بعضاً من أسوأ ما في خياله المريض من نفاق، ويظهر البهجة بالأزمات والكوارث الواقعة والمؤامرات التي تحاك ضد وطنه وشعبه، ويلهث وراء الخصوم ومن يريدون العبث بمقدرات ومستقبل الكوردستانيين.
في كوردستان، كما في غالبية البلدان الأخرى (رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً)، أي منهم من مات واستشهد على الصدق والوفاء ومنهم من ينتظر الموت على مثل ذلك، وما غيروا عهدهم وما بدلوا الوفاء بالغدر أو الصح بالخطأ والاستسلام، وما نقضوه كالمنافقين، ولا يترددون في تحقيق الاماني والتطلعات المشروعة، ولا يتورعون عن سرد الوقائع وذكر إيجابيات وسلبيات ما حدث وما يحدث بموضوعية، ويستمرون على ما عاهدوا عليه رغم قساوة الزمن وغدر الغادرين وعنجهيات المتكبرين والظالمين وإختلال ميزان القوة بصورة كبيرة لمصلحة غيرهم.
سقت بهذه المقدمة لأتحدث عن الأخبار والتقارير السياسية الرخيصة التي تماطرت علينا، وسط ظروف استثنائية خلال الأسابيع الماضية، عن حقوق الإنسان الكوردستاني وحريات الصحافة والتعبير والنشر والتظاهر والانتخابات التشريعية في الاقليم ومشروع حسابي المالي، من قبل جهات إعلامية وصفحات على مواقع التواصل الاجتماعي وفضائيات فاجأتنا بقدرتها على تجاهل الانتهاكات الجسيمة والخطيرة التي تقترف ضد شعب كوردستان، ولا يعتريها أي حرج أو خجل، وهي تعرض نفسها عارية أمام الرأي العام الكوردستاني بإصرارها على الكذب والتلفيق، ولم تنبس ببنت شفة تجاه التحديات التي واجهت إقليم كوردستان والقرارات التي استهدفت الديمقراطية والفدرالية وحقوق المكونات القومية والدينية في الإقليم، ولم تحرك ساكناً تجاه الانتقائية البغيضة في تنفيذ الدستور والقانون والتماطل والتسويف في الالتزام بالإتفاقات، ولم يتحرك ضميرها تجاه عوائل الشهداء والمؤنفلين والمتقاعدين وأصحاب الاحتياجات الخاصة عندما تم حرمانهم من استلام رواتبهم ومستحقاتهم المالية.
إقرأ أيضاً: أين فخامة الرئيس؟
بين هذا وذاك، سؤال يطارد الكثيرين ويطرح نفسه كقضية رأي عام، ويقول: من يدعم ويمول هؤلاء الذين يتمادون في التسقيط والإسقاط بلغة هابطة لا يجوز توظيفها في خطاب الإعلام، ويصنعون مناخاً مشحوناً بالتوتر وردات الفعل غير المحسوبة، ويستهدفون بخبث مدفون وعبارات مسيئة دون حسيب أو رقيب، أشخاصاً وأحزاباً وحكومة لها صفحات مشرقة وتاريخ ملىء بالصولات والجولات؟
من المحزن والمخجل أن نقول: إنهم جاحدون تافهون ينفذون أجندات داخلية وخارجية تهدف إلى خلق أزمات اقتصادية وانقسامات سياسية ومجتمعية حادة وتشتيت الذهن الكوردستاني وإشغاله بالقضايا الجانبية، وإنَّهم مؤجرين بالقطعة يعملون "مقابل حفنة دولارات" لدى فاشلين وعاجزين، يدعمونهم لخلط الأوراق في سبيل تحقيق مكاسب سياسية آنية وتحويل شعبياتهم الإنقلابية الهزيلة إلى مشروعيات واقعية.
إقرأ أيضاً: تأجيل الانتخابات المؤجلة أم الرضوخ للإملاءات الخارجية؟
وبما أنَّ المعتادين على ترسيخ المفاهيم والمصطلحات الغائمة وممارسة التزييف والتضليل المنظم للحقائق وتحوير الوقائع لصالح أجندات ومغامرات حزبية وسياسية ولصرف الرأي العام عن رؤية الصورة الحقيقية تارة، أو خدمة لنزوات فردية منبوذة وأجندات معادية تارة أخرى. وبما إننا نشهد تطورات سياسية وتغييرات إعلامية مختلفة، فإننا بحاجة إلى فتح نقاش جاد بين الإعلاميين الحقيقيين والمختصين والمهتمين بالإعلام لتبادل الآراء حول القضايا المثيرة للجدل والمحظورات والحريات العامَّة، وجمع كل الأفكار والمقترحات والملاحظات، وإعداد استراتيجية تشاركية واضحة تضع الجميع أمام مسؤولية أخلاقية ووطنية وقومية وتخرس ألسنة السوء والفتنة والضلالة، وترسم طريقة تنظيم الإعلام المرئي والمسموع والنشر الإلكتروني لمواكبة التطور التكنولوجي وفق معايير حازمة بنيت على أساسها تجارب الشعوب الحرة، وتنهي الفوضى الإعلامية وتفرض الضوابط التي تعيد للإعلام مكانته اللائقة وتواصله الإيجابي مع المستجدات.
التعليقات